بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فهذا بحث عن مسألة حكم الأوقاف الرقمية، وهو المبحث الثالث في أحكام الأوقاف الرقمية والذي يتضمن عدة مباحث:

• حكم مالية المنافع

• حكم وقف المنافع.

• حكم الأوقاف الرقمية.

أسأل الله القبول والتوفيق والتيسير إنه على ذلك قدير.

مدخل إلى المسألة:

• ﴿ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ لا تعني عدم الضمان عند التعدي والتفريط.

• كما صح وقف الخيل الذي قد يعيش لسنة أو سنتين يصح وقف الحساب والمنصة الرقمية، فمقصود الأعيان منافعها.

• الوقف الرقمي يعنى بما كان بصيغ رقمية أما الخوادم وأجهزة التخزين فلها أحكام وقف العين المنقولة.

• لا يوجد موقع يستحيل اختراقه، فلا ضمان على الناظر إلا بالتعدي أو التفريط.

الوقف لغة: مصدر وقَفَ، والجمع أوقاف، ويطلق الوقف ويقصد به الحبس والمنع، يقال: وقفت الرجل عن الشيء وقفًا: منعته عنه ^[1].

واصطلاحًا: جعل منفعة مملوك ولو بأجرة أو غلته لمستحق بصيغة مدة ما يراه المحبس ^[2]، وقيل: هو تحبيس الأصل وتسبيل المنفعة ^[3].

والوقف الرقمي:هو كل حق معنوي وُقف بصيغة رقمية عبر وسيط مناسب؛ للإفادة منه أو من ريعه[4].

ومن الصيغ الرقمية مواقع الانترنت وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي والبرامج الالكترونية.

ويجدر التنويه على أن بعض الناس قد يخلط بين المحتوى الرقمي وبين الوسيط الحامل له، فالوقف الرقمي هو المحتوى الرقمي وليس عين الوسيط الحامل له، فالخوادم وأجهزة التخزين لها أحكام وقف العين المنقولة ولا تدخل في أحكام الوقف الرقمي.

والوقف في أصله مشروع عند عامة أهل العلم، وحكي الإجماع على ذلك، لما جاء في الصحيحين عن ابن عُمرَ رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أصاب أرضًا بخيبر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يستأمره فيها، فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، إنِّي أصَبْتُ أرْضًا بخَيْبَرَ لَمْ أُصِبْ مالًا قَطُّ أنْفَسَ عِندِي منه، فَما تَأْمُرُ بهِ؟ قالَ صلى الله عليه وسلم: (إنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أصْلَها، وتَصَدَّقْتَ بها) قالَ: فَتَصَدَّقَ بها عُمَرُ، أنَّه لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ، وتَصَدَّقَ بها في الفُقَراءِ، وفي القُرْبَى وفي الرِّقابِ، وفي سَبيلِ اللَّهِ، وابْنِ السَّبِيلِ، والضَّيْفِ لا جُناحَ علَى مَن ولِيَها أنْ يَأْكُلَ مِنْها بالمَعروفِ، ويُطْعِمَ غيرَ مُتَمَوِّلٍ قالَ: فَحَدَّثْتُ به ابْنَ سِيرِينَ، فقالَ: غيرَ مُتَأَثِّلٍ مالًا[5].

قال الترمذي رحمه الله: (العَمَلُ على هذا عند أهلِ العِلمِ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وغيرِهم، لا نعلَمُ بين المتقَدِّمينَ منهم في ذلك اختِلافًا في إجازةِ وَقفِ الأَرَضينَ وغيرِ ذلك)[6].

وقال ابن قدامة رحمه الله: (قال جابِرٌ: لم يكُنْ أحدٌ مِن أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ذو مَقدِرةٍ إلَّا وَقَف، وهذا إجماعٌ منهم؛ فإنَّ الذي قَدَر منهم على الوَقفِ وَقَف، واشتَهَر ذلك فلم يُنكِرْه أحدٌ، فكان إجماعًا)[7].

أما الوقف الرقمي فقد وقع خلاف بين أهل العلم في مشروعيته، وذلك مبني على خلافهم في مالية المنافع، وما ينبني عليه من حكم وقف المنافع، وسبق بحث ذلك في مبحثين مستقلين ^[8].

وتبين فيهما أن الراجح قول جمهور أهل العلم بأن المال يشمل الأعيان والمنافع التي لها قيمة بين الناس واعتاد الناس الاعتياض عنها وتمولها؛ فمقصود الأعيان منافعها، فالمالية تعود على المنافع تبعًا واستقلالًا، وكما صحت المنافع في المهر والتعليم والرقية تصح في غيرها.

وفي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: (زوجناكها بما معك من القرآن) ^[9]، فالباء في قوله (بما معك) للعوض، فجعل التعليم عوضًا في النكاح يدل على أنه مال، ولو لم يكن التعليم مالًا لم يصح جعله صداقًا؛ والله تعالى قال: ﴿وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ﴾ ]النساء: 24[، ففي الآية دليل على أن ما لا يسمى مالًا لا يكون مهرًا.

وأما وقف المنافع فالأقرب قول المالكية القائل بصحة وقف المنافع استصحابًا لعموم أدلة مشروعية الوقف مع عدم المخصص، ومنها حديث ابن عمر السابق؛ ولأن مقصود الوقف الحصول على منفعة العين الموقوفة، وقياسًا على صحة الوصية بالمنافع ^[10].

وعليه فإن الوقف الرقمي مشروع وله أحكام أوقاف الأعيان والمنافع الأخرى.

من صور الأوقاف الرقمية:

• الاعتناء بحسابات التواصل الاجتماعي للمتوفين وبث المحاضرات والمواعظ المفيدة فيها لا سيما من لديه عدد من المتابعين.

• إنشاء مواقع وقنوات على اليوتيوب لبث الدروس العلمية والمحاضرات التربوية.

• تحويل الحساب الشخصي على منصات التواصل الاجتماعي إلى قناة وقفية تبث القرآنية الكريم طوال اليوم والليلة.

• تحويل المؤلف المطبوع إلى صيغة رقمية ونشره في المكتبات الرقمية المعروفة كالمكتبة الشاملة وجامع الكتب الإسلامية.

• كتابة برمجيات مفتوحة المصدر خادمة للعلوم الشرعية وجعلها متاحة للاستخدام والاستفادة من قبل الجميع.

• إضافة ترجمات القرآن الكريم باللغات المختلفة إلى تطبيقات القرآن الكريم للهواتف الذكية.

• برمجة موقع للفتوى والدروس العلمية والمحاضرات.

• إنشاء محركات بحث خاصة بالفتاوى والمحتوى الشرعي.

• إنشاء منصات علمية الكترونية تنشر البحوث العلمية الشرعية المحكمة.

• إنشاء منصات لأكاديميات علمية شرعية تعنى بالتعليم عن بعد.

من أحكام نظارة الأوقاف الرقمية:

من أهم القواعد التي يخطئ في العمل بها كثير من العاملين في المجال الدعوي والشرعي أن قاعدة ﴿ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ ]التوبة: 91[، لا تعني أبدًا عدم الضمان عند التعدي والتفريط، بل إنه إذا تعدى أو فرط فإنه يضمن ما يترتب على ذلك وإن كان محسنًا.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "والقاعدة في الأمين أنه لا يضمن ما تلف تحت يده إلا بتعدٍّ أو تفريط بدليل قول الله تعالى: ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ ]التوبة:91[ والمودَع محسن، فإذا كان محسنًا فلا ضمان عليه، لكن إن تعدى أو فرط ضمن"[11].

ومن صور التعدي والتفريط في الأوقاف الرقمية:

• الإهمال في صيغة عقود المشاريع الرقمية.

• إهمال الحماية الأمنية للوقف الرقمي؛ ككلمات السر الضعيفة، وعدم تغييرها دوريًا، أو عدم سد الثغرات المتجددة وتعزيز برامج الحماية.

• عدم النسخ الاحتياطي لمحتوى الوقف الرقمي.

• عدم التوثيق البرمجي وغير البرمجي للوقف الرقمي.

وبالمقابل فإن هناك أمورًا قد تعرض الوقف إلى الضرر ولا يعد ذلك تعديًا أو تفريطًا من الناظر، ومن ذلك:

• الهجوم القوي الذي قد يعطل الوقف مع قيام الناظر بالاحتياطات الأمنية المناسبة؛ إذ لا توجد منصة يستحيل اختراقها وإنما الأمر نسبي.

• الاختراق للحساب الرقمي مع قيام الناظر بما يتطلبه من أمور الحماية.

• التعطل الذي يطرأ على الوقف من قبل الجهة المستضيفة للخدمة.

• التعطل الناشئ عن الظروف القاهرة التي لا قدرة للناظر بمنعها، والله أعلم.

بندر بن سعود النمر

b.alnemr@gmail.com

12 شعبان 1445 هـ