خصائص ومميزات علم أصول الفقه: الخصيصة (3) علم أصول الفقه علم إسلامي خالص

خصائص ومميزات علم أصول الفقه

الخصيصة (3): علم أصول الفقه علم إسلامي خالص

الحمد لله العليم الخبير، والصلاة والسلام على معلم البشرية، نبي الرحمة محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فإن من أجلِّ العلوم الإسلامية وأدقها وأنفعها علمَ أصول الفقه، فهو العلم الذي عرف قدره علماؤنا الأولون، فتنافسوا فيه بالتحصيل، والتأليف، والتدريس، وبلغوا به درجات عالية في التفكير المنظم، والمنهج العلمي القويم، والاستنباط للأحكام، والمحاجة والمناظرة.

وخير دليل وشاهد على هذا ما تزخر به المكتبة الإسلامية من نفائس ودرر في الفقه والأصول، وغيرهما.

وهذا الإمام الأصولي الكبير المتفنن شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المالكي (ت: 684هـ) يحدثنا عن أهمية علم أصول الفقه، ويبرز لنا فوائده، والحاجة الماسة إليه.

فيقول رحمه الله تعالى : "فأفضل ما اكتسبه الإنسان علْمًا يسعد به في عاجل معاشه، وآجل معاده، ومن أفضل ذلك علم أصول الفقه؛ لاشتماله على المعقول والمنقول، فهو جامع أشتات الفضائل، والواسطة في تحصيل لباب الرسائل، ليس هو من العلوم التي هي رواية صرفة لا حَظَّ لشرف النفوس فيه، ولا من المعقول الصرف الذي لم يَحُضَّ الشرع على معانيه، بل جمع بين الشرفين، واستولى على الطرفين، يحتاج فيه إلى الرواية والدراية، ويجتمع فيه معاقد النظر، ومسالك العبر، من جهله من الفقهاء فتحصيله أجاج، ومن سُلِبَ ضوابطه عُدم عند دعاويه الحِجَاج، فهو جدير بأن ينافس فيه"[1].

وتأتي هذه الورقة في سياق سلسلة من الورقات التي أحاول فيها إبراز بعض خصائص هذا العلم الجليل، مما أرجو أن يكون بحول الله تعالى إسهامًا متواضعًا للتعريف بهذا العلم، وتشجيعًا على دراسته وتحصيله، ونشره.

وبعد أن توقفنا في المشاركتين السالفتين مع خصيصتين من خصائص علم أصول الفقه، نتوقف بإذن الله تعالى في هذه الحلقة مع خصيصة ثالثة؛ وهي:

الخصيصة الثالثة: علم أصول الفقه هو علم إسلامي خالص:

إن من مميزات وخصائص علم أصول الفقه أنه علم إسلامي خالص، أنتجه وابتكره العقل المسلم، فلما كان المسلمون في حاجة ملحة إلى ضبط وتقرير منهج الفهم، وقواعد الاستنباط، وكيفية التعامل مع النص الشرعي، والإجابة على أسئلة، وإشكالات المجتمع، هنا سيكتب ﻋﺒﺪاﻟﺮﺣﻤﻦ بن مهدي ﺇﻟﻰ الإمام اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ، ﻭﻫﻮ ﺷﺎﺏ، ﺃﻥ ﻳﻀﻊ ﻟﻪ ﻛﺘﺎﺑًﺎ ﻓﻴﻪ ﻣﻌﺎﻧﻲ اﻟﻘﺮﺁﻥ، ﻭﻳﺠﻤﻊ ﻗﺒﻮﻝ اﻷﺧﺒﺎﺭ ﻓﻴﻪ، ﻭﺣﺠﺔ اﻹﺟﻤﺎﻉ، ﻭﺑﻴﺎﻥ اﻟﻨﺎﺳﺦ ﻭاﻟﻤﻨﺴﻮﺥ ﻣﻦ اﻟﻘﺮﺁﻥ ﻭاﻟﺴﻨﺔ: ﻓﻮﺿﻊ ﻟﻪ ﻛﺘﺎﺏ "اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ"، وﻛﺘﺎﺏ (اﻟﺮﺳﺎﻟﺔ) ﺃﻭﻝ ﻛﺘﺎﺏ ﺃﻟﻒ ﻓﻲ (ﺃﺻﻮﻝ اﻟﻔﻘﻪ)، ﺑﻞ ﻫﻮ ﺃﻭﻝ ﻛﺘﺎﺏ ﺃﻟﻒ ﻓﻲ (ﺃﺻﻮﻝ اﻟﺤﺪﻳﺚ) ﺃﻳﻀًﺎ[2].

ﻗﺎﻝ الإمام اﻟﻔﺨﺮ اﻟﺮاﺯﻱ ﻓﻲ كتابه "ﻣﻨﺎﻗﺐ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ": "ﻛﺎﻧﻮا ﻗﺒﻞ الإﻣﺎﻡ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻳﺘﻜﻠﻤﻮﻥ ﻓﻲ ﻣﺴﺎﺋﻞ ﺃﺻﻮﻝ اﻟﻔﻘﻪ، ﻭﻳﺴﺘﺪﻟﻮﻥ ﻭﻳﻌﺘﺮﺿﻮﻥ، ﻭﻟﻜﻦ ﻣﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻬﻢ ﻗﺎﻧﻮﻥ ﻛﻠﻲ ﻣﺮﺟﻮﻉ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﺩﻻﺋﻞ اﻟﺸﺮﻳﻌﺔ، ﻭﻓﻲ ﻛﻴﻔﻴﺔ ﻣﻌﺮﺿﺎﺗﻬﺎ ﻭﺗﺮﺟﻴﺤﺎﺗﻬﺎ، ﻓﺎﺳﺘﻨﺒﻂ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﻋﻠﻢ ﺃﺻﻮﻝ اﻟﻔﻘﻪ، ﻭﻭﺿﻊ ﻟﻠﺨﻠﻖ ﻗﺎﻧﻮﻧًﺎ ﻛﻠﻴًّﺎ ﻳﺮﺟﻊ ﺇﻟﻴﻪ ﻓﻲ ﻣﻌﺮﻓﺔ ﻣﺮاﺗﺐ ﺃﺩﻟﺔ اﻟﺸﺮﻉ".

ﻓﺜﺒﺖ ﺃﻥ ﻧﺴﺒﺔ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻢ اﻟﺸﺮﻉ، ﻛﻨﺴﺒﺔ ﺃﺭﺳﻄﺎﻃﺎﻟﻴﺲ ﺇﻟﻰ ﻋﻠﻢ اﻟﻌﻘﻞ"[3].

فقام الإمام الشافعي وأخذ العزم على القيام بهذه المهمة العظيمة فوضع كتابه الجليل (الرسالة)، وبعد الإمام الشافعي، واصل العلماء المسلمون العمل على خدمة هذا العلم من جهات متعددة، من جهة التأصيل، والتحقيق، والشرح ... إلى أن بلغ إلى ما هو عليه الآن.

ولا بأس أن نسوق بعض الشهادات التي تؤكد هذا الأمر.

يقول الدكتور طه جابر العلواني: "أما أصول الفقه فهو من العلوم التي ابتدأها العقل المسلم، ولم ينقلها عن أمة أخرى من الأمم، فالمسلمون يعتبرون قد ابتدعوا، وانفردوا بعلوم ثلاثة:

• العلم الأول: علم أصول الفقه.

• العلم الثاني: علم مصطلح الحديث.

• العلم الثالث: هو علم العروض الضابط لموازين الشعر.

فهذه العلوم علوم إسلامية خالصة، وذلك يعني أن العقل المسلم لم يتأثر بمن سبقه من علماء الأمم الأخرى[4].

وفي السياق ذاته يقول الدكتور عبدالكريم زيدان: "فإن فقهاء الشريعة الإسلامية، رحمهم الله تعالى، وضعوا لنا علمًا جليل القدر عظيم الفائدة، لا مثيل له عند أمم الأرض قاطبة، لا في القديم، ولا في الحديث، ذلك هو علم أصول الفقه"[5].

من كل ما تقدم نخلص إلى أن علم أصول الفقه هو من العلوم الإسلامية الخالصة التي ابتكرها العقل المسلم، ولم يتأثر فيها بما عند الأمم الأخرى من علم وفكر.

فهو - إذًا - علم إسلامي خالص، وجدير بالأمة الإسلامية أن تعتز وتفتخر بهذا العلم الجليل، والمنهج الفائق، وواجب على طلاب العلم والمثقفين وشباب الأمة الاهتمام بهذا العلم ودراسته ومدارسته، وخدمته، والحفاظ عليه، والإفادة منه.

لائحة المصادر والمراجع:

1- أصول الفقه الإسلامي منهج بحث ومعرفة، الدكتور طه جابر العلواني، منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط: 2، 1995م.

2- مقدمة التحقيق لرسالة الإمام الشافعي، لأحمد شاكر.

3- ﻣﻨﺎﻗﺐ اﻟﺸﺎﻓﻌﻲ، الإمام اﻟﻔﺨﺮ اﻟﺮاﺯﻱ.

4- نفائس الأصول في شرح المحصول، شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت 684هـ)، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبدالموجود، والشيخ علي محمد معوض، ط: 1، 1995م، مكتبة نزار مصطفى الباز.

5- الوجيز في أصول الفقه، للدكتور عبدالكريم زيدان، مؤسسة قرطبة، من دون ذكر رقم الطبعة والتاريخ.