• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
  •  
    زكاة الودائع المصرفية الحساب الجاري (PDF)
    الشيخ دبيان محمد الدبيان
  •  
    واجب ولي المرأة
    الشيخ محمد جميل زينو
  •  
    وقفات مع القدوم إلى الله (9)
    د. عبدالسلام حمود غالب
  •  
    علامات الساعة (1)
    تركي بن إبراهيم الخنيزان
  •  
    تفسير: (يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان ...
    تفسير القرآن الكريم
  •  
    تحية الإسلام الخالدة
    الشيخ عبدالله بن جار الله آل جار الله
  •  
    الشباب والإصابات الروحية
    د. عبدالله بن يوسف الأحمد
  •  
    من فضائل الصدقة (خطبة)
    د. محمد بن مجدوع الشهري
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / الحديث وعلومه
علامة باركود

شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (2)

شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (2)
سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 19/10/2019 ميلادي - 19/2/1441 هجري

الزيارات: 58686

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (2)

 

قال العلامة ابن عثيمين – رحمه الله -:

فاستفدنا من الحديث فائدتين عظيمتين:

الفائدة الأولى: أن الإنسان لا ينبغي له أن يتأخر عن فعل الخير، بل لا بد أن يتقدم ولا يتهاون أو يتكاسل.

وأذكر حديثًا قاله النبي- عليه الصلاة والسلام - في الذين يتقدمون إلى المسجد ولكن لا يتقدمون إلى الصف الأول، بل يكونون في مؤخَّره، قال: «لَا يَزَالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرُونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمُ اللهُ»[1].

 

إذا عوَّد الإنسان نفسه على التأخير أخره الله عز وجل؛ فبادر بالأعمال الصالحة من حين أن يأتي طلبها من عند الله عز وجل.

 

الفائدة الثانية: أن المنافقين يلمزون المؤمنين؛ إن تصدق المسلمون بكثير، قالوا: هؤلاء مراؤون، وإن قلَّلوا بحسب طاقتهم، قالوا: إن الله غني عن عملك وغني عن صاعك، كما سبق.

 

وقد ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعِدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ، وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا الطَّيِّبَ، فَإِنَّ اللهَ يَتَقَبَّلَهَا بِيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ - أي: بما يعادل تمرة - كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ - أي: مُهْرَه: الحصان الصغير - حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ»[2]، وهي تمرة أو ما يعادلها.

 

بل قال الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ»[3]؛ أي: نصف تمرة.

بل قال الله عز وجل: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8].

 

والله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المحسنين.

 

يقول رضي الله عنه: إنه لما بلغه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رجع قافلًا من الغزو، بدأ يفكِّر ماذا يقول لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا رجع؟ يريد أن يتحدث بحديث وإن كان كذبًا، من أجل أن يعذره النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه، وجعل يشاور ذوي الرأي من أهله، ماذا يقول، ولكن يقول رضي الله عنه: فلما بلغ النبي - عليه الصلاة والسلام - المدينة ذهب عنه كل ما جمعه من الباطل، وعزم على أن يبيِّن للنبي -صلى الله عليه وسلم- الحق؛ يقول: فقدم النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينة ودخل المسجد، وكان من عادته وسنته أنه إذا قدم بلده فأول ما يفعل أن يصلي في المسجد - عليه الصلاة والسلام - وهكذا أمر جابرًا - رضي الله عنه - كما سأذكره إن شاء الله، فدخل المسجد، وصلى، وجلس للناس، فجاءه المخلَّفون الذين تخلفوا من غير عذر من المنافقين، وجعلوا يحلفون له إنهم معذورون، فيبايعهم ويستغفر لهم، ولكن ذلك لا يفيدهم - والعياذ بالله - لأن الله قال: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ﴾ [التوبة: 80]، فيقول: أمَّا أنَا فعزمت أن أَصْدُق النبي - عليه الصلاة والسلام - وأُخبرَه بالصدق، فدخلت المسجد، فسلمت عليه، فتبسم تبسم المغضب؛ أي: الذي غير راض عني - ثم قال: «تَعَالَ»، فلما دنوت منه، قال لي: «مَا خَلَّفَكَ؟».

 

فقال رضي الله عنه: يا رسول الله، إني لم أتخلف لعذر، وما جمعت راحلتين قبل غزوتي هذه، وإني لو جلست عند أحد من ملوك الدنيا لخرجت منه بعذر، فلقد أوتيت جدلًا؛ يعني: لو أني جلست عند شخص من الملوك لعرفت كيف أتخلص منه؛ لأن الله أعطاني جدلًا - ولكني لا أحدثك اليوم حديثًا ترضى به عني فيوشك أن يسخط الله عليَّ في ذلك. رضي الله عنه.

 

انظر إلى الإيمان! قال: لا يمكن أن أحدثك بالكذب، ولو حدثتك بالكذب، ورضيت عني اليوم، فإنه يوشك أن يسخط الله عليَّ.

فأخبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- بالصدق، فأجَّله.

 

وفي هذا من الفوائد:

أولًا: أن الله سبحانه وتعالى قد يَمُنُّ على العبد فيعصمه من المعصية إذا علم من قلبه حسن النية.

فإن كعبًا - رضي الله عنه - لما هَمَّ أن يُزَوِّر على الرسول - عليه الصلاة والسلام - جَلَّى الله ذلك عن قلبه، وأزاحه عن قلبه، وعزم على أن يَصْدُق النبي عليه الصلاة والسلام.

 

ثانيًا: أنه ينبغي للإنسان إذا قدم بلده، أن يعمد إلى المسجد قبل أن يدخل إلى بيته، فيصلي فيه ركعتين؛ لأن هذه سُنَّة النبي - عليه الصلاة والسلام - القولية والفعلية؛ أما الفعلية: فكما في حديث كعب بن مالك.

 

وأما القولية: فإن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - حين باع على النبي -صلى الله عليه وسلم- جَمَلَه في أثناء الطريق، واستثنى أن يركبه إلى المدينة، وأعطاه النبي -صلى الله عليه وسلم- شرطه، فقدم جابر المدينة، وقد قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- قبله فجاء إلى رسول الله فأمره أن يدخل المسجد ويصلي ركعتين.

 

وما أظن أحدًا من الناس اليوم - إلا قليلًا - يعمل هذه السُّنَّة، وهذا لجهل الناس بهذا، وإلا فهو سهل والحمد لله.

 

وسواء صليت في مسجدك الذي كنت تصلي فيه القريب من بيتك، أو صليت في أدني مسجد من مساجد البلد الذي أنت فيه حصلت السنة.

 

ثالثًا: أن كعب بن مالك - رضي الله عنه - رجل قوي الحجة، فصيح، ولكن لتقواه وخوفه من الله امتنع أن يكذب، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- الحق.

 

رابعًا: أن الإنسان المغضب قد يتبسَّم، فإذا قال قائل: كيف أعرف أن هذا تبسم رضًا أو تبسم سخط؟

قلنا: إن هذا يُعرف بالقرائن؛ كتلون الوجه وتغيره.

فالإنسان يعرف أن هذا الرجل تبسم رضًا بما صنع أو تبسم سخطًا عليه.

 

خامسًا: أنه يجوز للإنسان أن يُسلِّم قائمًا على القاعد؛ لأن كعبًا سلَّم وهو قائم، فقال له النبي - عليه الصلاة والسلام -: «تَعَالَ».

 

سادسًا: أن الكلام عن قرب أبلغ من الكلام عن بُعدٍ؛ فإنه كان بإمكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يكلِّم كعب بن مالك ولو كان بعيدًا عنه، لكنه أمره أن يدنو منه؛ لأن هذا أبلغ في الأخذ والرد والمعاتبة؛ فلذلك قال له الرسول - عليه الصلاة والسلام -: «ادْنُ».

 

سابعًا: كمال يقين كعب بن مالك- رضي الله عنه - حيث إنه قال: إنني أستطيع أن أخرج بعذر من الرسول - عليه الصلاة والسلام- ولكن لا يمكن أن أخرج منه بعذر يعذرني فيه اليوم ثم يغضب الله عليَّ فيه غدًا.

 

ثامنًا: إن الله يعلم السر وأخفى؛ فإنَّ كعبًا خاف أن يسمع الله قوله ومحاورته للرسول - عليه الصلاة والسلام - فينزل الله فيه قرآنًا، كما أنزل في قصة المرأة المجادلة التي جاءت إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - تشكو زوجها حين ظاهر منها، فأنزل الله فيها آية من القرآن: ﴿ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ [المجادلة: 1].

 

يقول كعب: إنه أتى إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه القول، وأخبره أنه لا عذر له لا في بدنه ولا في ماله، بل إنه لم يجمع راحلتين في غزوة قبل هذه.

 

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ»؛ ويكفي له فخرًا أن وصفه النبي - عليه الصلاة والسلام - بالصدق: «أَمَّا هَذَا فَقَدْ صَدَقَ، فَاذْهَبْ حَتَّى يَقْضِيَ اللهُ فِيكَ مَا شَاءَ»؛ فذهب الرجل مستسلمًا لأمر الله عز وجل مؤمنًا بالله، وأنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.

 

فلحقه قوم من بني سلمه، من قومه، وجعلوا يُزيِّنون له أن يرجع عن إقراره، وقالوا له: إنك لم تُذنب ذنبًا قبل هذا؛ يعني: مما تخلَّفْتَ به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويكفيك أن يستغفر لك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإذا استغفر لك الرسول -صلى الله عليه وسلم- غفر الله لك، فارجع كذب نفسك؛ قل: إني معذور، حتى يستغفر لك الرسول - عليه الصلاة والسلام - فيمن استغفر لهم ممن جاءوا يعتذرون إليه، فهَمَّ أن يفعل - رضي الله عنه - ولكن الله سبحانه أنقذه وكتب له هذه المنقبة العظيمة التي تتلى في كتاب الله إلى يوم القيامة.

 

فسأل قومه: هل أحد صنع مثلما صنعت؟ قالوا: نعم، هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، قالا مثلما قلت، وقيل لهما مثلما قيل لك.

يقول: «فذكروا لي رجلين صالحين شهدا بدرًا لي فيهما أسوة».

أحيانًا يقيِّض الله للإنسان ما يجعله يدع الشر اقتداء بغيره وتأسيًا به.

 

فهو- رضي الله عنه - لَمَّا ذُكِر له هذان الرجلان - وهما من خيار عباد الله من الذين شهدوا بدرًا - فقال: «لي فيهما أسوة، فمضيتُ»؛ أي: لم يرجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

 

فأمر النبي - عليه الصلاة والسلام- الناس أن يهجروهم فلا يكلِّموهم؛ فهجرهم المسلمون، ولكنهم بعد ذلك صاروا يمشون وكأنهم بلا عقول، قد ذهلوا، وتنكرت لهم الأرض، فما هي بالأرض التي كانوا يعرفونها؛ لأنهم يمشون إن سلَّموا لا يُرَد عليهم السلام، وإن قابلهم أحد لم يبدأهم بالسلام، وحتى النبي- عليه الصلاة والسلام- وهو أحسن الناس خلقًا - لا يسلِّم عليهم السلام العادي.

 

يقول كعب: «كنت أحضر وأسلِّم على النبي -صلى الله عليه وسلم- فلا أدري: أَحَرَّك شفتيه بِرَدِّ السلام أم لا».

 

هذا وهو النبي - عليه الصلاة والسلام - وما ظنك برجل يُهجر في هذا المجتمع الإسلامي الذي هو خير القرون؟ إنها ستضيق عليه الأرض، وفعلًا ضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه، وبقوا على هذه الحال مدة خمسين يومًا؛ أي: شهرًا كاملًا وعشرين يومًا، والناس قد هجروهم، فلا يُسلِّمون عليهم. ولا يردون السلام إذا سلَّموا، وكأنهم في الناس إِبِلٌ جُرْبٌ لا يقربهم أحد.

 

فضاقت عليهم الأمور، وصعبت عليهم الأحوال، وفروا إلى الله عز وجل، ولكن مع ذلك لم يكن كعب بن مالك يدع الصلاة مع الجماعة.

 

فكان يحضر ويسلم على النبي - عليه الصلاة والسلام - ولكن في آخر الأمر ربما يتخلف عن الصلوات لما يجد في نفسه من الضيق والحرج؛ لأنه يخجل أن يأتي إلى قوم يصلي معهم وهم لا يكلمونه أبدًا، لا بكلمة طيبة ولا بكلمة تأنيب، فتركوهم بالكلية، فضاقت عليهم الأرض، وبقوا على هذه الحالة خمسين ليلة تامة، ولما تمت لهم أربعون ليلة أرسل إليهم النبي- عليه الصلاة والسلام - أن يعتزلوا نساءهم. إلى هذا الحد، فرَّق بينهم وبين نسائهم.

 

وما ظنك برجل مثل كعب بن مالك وهو شاب يُعزل عن امرأته؟ أمر عظيم، ولكن مع ذلك لما جاءهم رسول الرسول - عليه الصلاة والسلام - وقال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال: أُطلِّقها أم ماذا؟ لأنه لو قال له: طلِّقها، لطلَّقها بكل سهولة؛ طاعة لله ورسوله؛ فسأل، قال: أُطلِّقها أم ماذا؟ فقال له رسول الرسول: إن الرسول - عليه الصلاة والسلام - يأمرك أن تعتزل أهلك. وبقي على ظاهر اللفظ؛ حتى الصحابي الذي أُرسل ما حرَّف النص، لا معني ولا لفظًا، قال هكذا، قال: ولا أدري.

 

وهذا من أدب الصحابة - رضي الله عنهم - ما قال: أظن أنه يريد أن تطلقها، ولا: أظن أنه يريد أن لا تطلقها! ما قال شيئًا، بل قال: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال هذا، فقال كعب لزوجته: الحقي بأهلك. فلحقت بأهلها.

 

«فأما صاحباي فاستكانا في بيوتهما يبكيان»؛ لأنهما لا يستطيعان أن يمشيا في الأسواق، والناس قد هجروهم لا يلتفت إليهم أحد، ولا يسلِّم عليهم أحد، وإذا سلَّموا لا يُرَدُّ عليهم السلام، فعجزوا عن تحمل هذه الحال، فبقيا في بيوتهما يبكيان.

 

يقول: «وأما أنا فكنت أشب القوم، وأجلدهم»؛ أشبهم: أقواهم. وأجلدهم: أصبرهم؛ لأنه أشب منهم، أصغر منهم سنًّا، فكان يشهد صلاة الجماعة مع المسلمين، ويطوف بأسواق المدينة لا يكلمه أحد، لا يكلمه أحد؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر بهجرهم، وكان الصحابة- رضي الله عنهم - أطوع الناس لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

يقول: «وكنت آتي المسجد فأصلي، وأسلم على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو جالس للناس بعد الصلاة، فأقول: هل حَرَّك شفتيه برد السلام أم لا»؛ أي: ما يرد عليه ردًّا يُسمع، هذا مع أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، ولكن امتثالًا، لَمَّا أوحى الله إليه أن يهجر هؤلاء القوم، هجرهم.

 

ويقول: كنت أصلي وأسارق النبي -صلى الله عليه وسلم- النظر، يعني: أنظر إليه أحيانًا وأنا أصلي، فإذا أقبلت على صلاتي نظر إليَّ، وإذا التفت إليه أعرض عني.

 

كل هذا من شدة الهجر.

 

يقول: «فبينما أنا أمشي ذات يوم في أسواق المدينة، وطال عليَّ جفوةُ الناس، تسوَّرت حائطًا لأبي قتادة رضي الله عنه»، تسوَّره: دخله من فوق الجدار من دون الباب، وكأن الباب مغلق. والعلم عند الله.

 

يقول: «فسلمت عليه، فوالله ما ردَّ على السلام»، وهو ابن عمه، وأحب الناس إليه، ومع ذلك لم يَرُدَّ عليه السلام، مع أن الرجل كان مَجْفيًّا من الناس، منبوذًا، لا يكلَّم، ولا يسلَّم عليه، ولا يُرَدُّ عليه السلام، ومع ذلك لم يعطف عليه ابن عمه أبو قتادة.

 

كل هذا طاعة لله ورسوله؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم- لا تأخذهم في الله لومة لائم، ولا يحابون أحدًا في دين الله، ولو كان أقرب الناس إليهم، فقال له: أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فلم يرد عليه. مرتين يناشده مناشدة؛ هل يعلم أنه يحب الله ورسوله أم لا؟ وأبوقتادة يدري، ويعلم أن كعب بن مالك يحب الله ورسوله.

 

فلما رد عليه الثالثة، وقال: أنشدك الله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟

فقال: الله ورسوله أعلم.

 

لم يكلمه، فلم يقل: نعم؟ ولا قال: لا.

يقول: ففاضت عيناي؛ أي: بكى - رضي الله عنه - أن رجلًا - ابن عمه - أحب الناس إليه لا يكلمه مع هذه المناشدة العظيمة.

 

مع أنها - أيضًا - مسالة تعبُّديَّة؛ لأن قوله: أنشدك الله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ طلب شهادة، ومع ذلك لم يشهد له، مع أنه يعلم أنه يحب الله ورسوله؛ ففاضت عيناه.

 

وتسور البستان؛ أي: خرج إلى السوق، فبينما هو يمشي إذا برجل نَبَطِي من أنباط الشام - والنبطي: الذي ليس بعربي، ولا بعجمي، وسموا بذلك لأنهم كانوا يخرجون في البراري يستنبطون الماء - يقول: من يدلني على كعب بن مالك!

 

انظر إلى أهل الشر ينتهزون الفرص!

 

فعندما قال: من يدلني علي كعب بن مالك؟ قلت: أنا هو، فأعطاني الورقة، وكنت كاتبًا؛ لأن الكُتَّاب في ذلك العهد قليلون جدًا.

 

يقول: «فقرأت الكتاب، فإذا فيه: أما بعد، فقد بلغنا أن صاحبك جفاك - يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان هذا الملك، ملك غسان كافرًا - وإنك لست بدار هوان ولا مضيعة؛ يعني: تعال إلينا نواسك بأموالنا، وربما نواسيك بملكنا.

 

ولكن الرجل رجل مؤمن بالله تعالى ورسوله، ومحب لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم.

 

قال: وهذه من البلاء؛ يعني: هذا من الامتحان، وصدق - رضي الله عنه - رجل مجفوٌّ لا يُكلَّم، مهجور منبوذ حتى من أقرب الناس إليه، لو كان في قلبه ضعف إيمان لا نتهز الفرصة بدعوة هذا الملك، وذهب إليه، لكن عنده إيمان راسخ؛ يقول: قلت: «هذه من البلاء»، ثم ذهب إلى التنور فسجره فيه؛ يعني: أوقدها بالتنور.

 

وإنما أوقدها في التنور ولم يجعلها معه لئلَّا توسوس له نفسه بعد ذلك أن يذهب إلى هذا الملك، فأتلفها حتى ييأس منها، ولا يحاول أن يجعلها حجة يذهب بها إلى هذا الملك، ثم بقي على ذلك مدة.

 

ففي هذه القطعة من الحديث دليل على جواز التخلف عن الجماعة إذا كان الإنسان مهجورًا منبوذًا، وعجزت نفسه أن تتحمل هذا، كما فعل صاحبا كعب بن مالك رضي الله عنهم.

 

لأنه لا شك أنه من الضيق والحرج أن يأتي الإنسان إلى المسجد مع الجماعة لا يسلَّم عليه، ولا يُرَد سلامه، ومهجور ومنبوذ، هذا تضيق به نفسه ذرعًا ولا يستطيع، وهذا عذر كما قاله العلماء.

 

ومن فوائد هذا الحديث: شدة امتثال الصحابة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- ودليل ذلك ما جرى لأبي قتادة - رضي الله عنه- مع كعب بن مالك رضي الله عنه.

 

ومن فوائد هذا الحديث: أنه يجب التحرز من أصحاب الشر وأهل السوء الذين ينتهزون الضعف في الإنسان والفرص في إضاعته وهلاكه.

 

فإن هذا الملك - ملك غسان- انتهز الفرصة في كعب بن مالك - رضي الله عنه- يدعوه إلى الضلال لعله يرجع عن دينه إلى دين هذا الملك بسبب هذا الضيق.

 

ومن فوائد الحديث: قوة كعب بن مالك - رضي الله عنه- في دين الله وأنه من المؤمنين الخلص، وليس ممن قال الله فيهم: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ ﴾ [العنكبوت: 10].

 

فبعض الناس - والعياذ بالله - يقول: آمنا بالله، ولكن إيمانه ضعيف، إذا أوذي في الله ارتد - والعياذ بالله - وفسق وترك الطاعة، وكعب بن مالك رضي الله عنه أوذي في الله إيذاء أيَّما إيذاء، لكنه صبر واحتسب وانتظر الفرج، ففرج الله له تفريجًا لم يكن لأحد غيره وصاحبيه، أنزل الله فيهم ثناء عليهم آيات تتلى إلى يوم القيامة.

 

نحن نقرأ قصتهم في القرآن في صلاتنا! وهذا فضل عظيم، قصتهم تقرأ في الصلاة، في الصلوات الخمس، في صلاة النافلة، سرًّا وعلنًا.

 

ومن فوائد هذا الحديث أيضًا: أنه ينبغي للإنسان إذا رأى فتنة أو خوف فتنة أن يُتْلِف هذا الذي يكون سببًا لفتنته.

فإنَّ كعبًا لما خاف على نفسه أن تميل فيما بعد إلى هذا الملك، ويتخذ هذه الورقة وثيقة، حرقها رضي الله عنه.

 

ومن ذلك - أيضًا -: ما جرى لسيلمان بن داود - عليهما الصلاة والسلام - حينما عُرضت عليه الخيل الصافنات الجياد في وقت العصر، فغفل وذهل- بما عُرض عليه - عن الصلاة حتى غابت الشمس، فلما غابت الشمس وهو لم يصلِّ العصر دعا بهذه الخيل الصافنات الجياد فجعل يضرب أعناقها وسوقها؛ يعني: جعل يقتلها ويعقرها انتقامًا من نفسه لنفسه؛ لأنه انتقم من نفسه التي لهت بهذه الصافنات الجياد عن ذكر الله، ﴿ فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ ﴾ [ص: 32، 33].

 

فالمهم أنك إذا رأيت شيئًا من مالك يصدك عن ذكر الله فأبعده عنك بأي وسيله تكون، حتى لا يكون سببًا لإلهائك عن ذكر الله.

 

فإن الذي يُلهي عن ذكر الله خسارة؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ﴾ [المنافقون: 9].

 

يقول رضي الله عنه: «فلما تمت لنا أربعون ليلة»؛ يعني: شهر وعشرة أيام، وكان الوحي قد استلبث فلم ينزل كل هذه المدة، وهذه من حكمة الله عز وجل في الأمور الكبيرة العظيمة، يستلبث الوحي ولا ينزل، كما في هذه القصة، وكما في قصة الإفك حين انقطع الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.

 

وهذا من حكمة الله عز وجل حتى يتشوف الناس إلى الوحي ويتشوقوا إليه: ماذا سيُنزل ربُّ العالمين عز وجل؟ فبقي الوحي أربعين ليلة ما نزل، فلما تمت أربعون ليلة أرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى كعب وصاحبيه هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع - رضي الله عنهم- أن يعتزلوا نساءهم.

 

وجاءت زوجة هلال بن أمية إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأخبرته بأنه في حاجة إليها لتخدمه؛ لأنه ليس له خادم، فأذن لها النبي -صلى الله عليه وسلم- بشرط أن لا يقربها، فقالت: «إنه والله ما به من حركة إلى شيء»؛ يعني: أنه ليس له شهوة في النساء، وأنه يبكي- رضي الله عنه - منذ أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بهجرهم إلى يومه هذا، أربعون يومًا يبكي؛ لأنه ما يدري ماذا تكون النهاية.

 

يقول رضي الله عنه: «فلما مضى عشر ليال بعد هذا، وكنت ذات يوم أصلي الصبح على سطح بيت من بيوتنا»؛ لأنه كما مَرَّ كانوا - رضي الله عنهم- قد ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، واستنكروا الأرض، واستنكروا الناس، يأتون إلى المسجد لا يكلمهم أحد، وإن سلموا لم يرد عليهم، وإن مر بهم أحد لم يسلِّم عليهم، ضاقت عليهم الأرض، فصار ذات يوم يصلي الصبح في بيته على سطحه، يقول: «فسمعت صارخًا يقول وهو على سلع - وهو جبل معروف في المدينة - أوفى عليه وصاح بأعلى صوته يقول: «يا كعب بن مالك، أبشر، يا كعب بن مالك، أبشر».

 

يقول: «فخررت ساجدًا، وعرفت أنه قد جاء فرج»، وركب فارس من المسجد يؤم كعب بن مالك ليبشره، وذهب مبشرون إلى هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع يبشرونهما بتوبة الله عليهما.

 

فانظر إلى فرح المسلمين بعضهم مع بعض، كلٌّ يذهب يسعى ويركض من جهة.

 

يقول: فجاء الصارخ، وجاء صاحب الفرس، فكانت البشرى للصارخ؛ لأن الصوت أسرع من الفرس، يقول: فأعطيته ثوبيَّ؛ الإزار والرداء، وليس يملك غيرهما، لكن استعار من أهله أو من جيرانه ثوبين، فلبسهما، وأعطى ثوبيه هذا الذي بشره.

 

أعطاه كل ما يملك، لا يملك غير الثوبين، لكنها والله بشرى عظيمة، بشرى من الله سبحانه وتعالى عظيمة، أن يُنزل الله توبتهم ويمن عليهم بالتوبة.

 

ثم نزل متوجهًا إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في المسجد، وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجزاه الله عن أمته خيرًا - قد بشر الناس بعد صلاة الصبح بأن الله أنزل توبته على هؤلاء الثلاثة؛ لأنه يحب من أصحابه وأمته ان يتوبوا ويرجعوا إلى الله.

 

يقول: فذهبت أتأمم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعني: أقصده، فجعل الناس يلاقونني أفواجًا؛ يعني: جماعات، يهنئونه بتوبة الله عليه رضي الله عنه.

 

هؤلاء القوم يحبون لإخوانهم ما يحبون لأنفسهم، فلم يحسدوهم على ما أنعم الله به عليهم من إنزال القرآن العظيم بتوبتهم، بل جعلوا يهنئونهم حتى دخل المسجد.

 

وفي هذه القطعة من الحديث فوائد:

أولًا: شدة هجر النبي - عليه الصلاة والسلام- لهؤلاء الثلاثة، حتى إنه أمرهم أن يعتزلوا نساءهم، والتفريق بين الرجل وامرأته أمره عظيم.

 

ثانيًا: وفيه أن قول الرجل لامرأته: الحقي بأهلك؛ ليس بطلاق، لأن كعب بن مالك- رضي الله عنه- فرَّق بين قوله: الحقي بأهلك، وبين الطلاق، فإذا قال الرجل لامرأته الحقي بأهلك ولم ينو الطلاق، فليس بطلاق.

 

أما إذا نوى الطلاق فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى...». الحديث.

فإذا نوى الإنسان بهذه الكلمة وأمثالها الطلاق فله ما نوى.

 

ثالثًا: شدة امتثال الصحابة - رضي الله عنهم - لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنه - رضي الله عنه- ما تردد، ولا قال: لعلِّي أراجع الرسول عليه الصلاة والسلام، أو قال للرسول الذي أرسله النبي -صلى الله عليه وسلم-: ارجع إليه لعله يسمح، بل وافق بكل شيء.

 

رابعًا: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان رحيمًا بأمته، فإنه بعد أن أمرهم باعتزال النساء رخص لهلال بن أمية؛ لأنه يحتاج لخدمة امرأته.

 

خامسًا: جواز حكاية الحال عند الاستفتاء أو الشهادة أو ما أشبه ذلك، وإن كان المحكي عنه قد لا يحب أن يطلع عليه الناس، لأن امرأة هلال بن أمية ذكرت من حاله أنه ليس فيه حاجة إلى شيء من النساء.

 

سادسًا: أن الإنسان إذا حصل له مثل هذه الحال وهجره الناس، وصار يتأذى من مشاهدتهم ولا يتحمل، فإنه له أن يتخلف عن صلاة الجماعة، وإن هذا عذر؛ لأنه إذا جاء إلى المسجد في هذه الحال سوف يكون متشوشًا غير مطمئن في صلاته؛ ولهذا صلى كعب بن مالك - رضي الله عنه - صلاة الفجر على ظهر بيت من بيوته، وسبق لنا ذكر هذه الفائدة في قصة هلال بن أمية ومرارة بن الربيع.

 

سابعًا: حرص الصحابة - رضي الله عنهم - على التسابق إلى البشرى؛ لأن البشرى فيها إدخال السرور على المسلم، وإدخال السرور على المسلم مما يقرب إلى الله عز وجل؛ لأنه إحسان، والله - سبحانه وتعالى - يحب المحسنين، ولا يضيع أجرهم.

 

فلذلك ينبغي لك إذا رأيت من أخيك شيئًا يسره، كأن يكون خبرًا سارًّا أو رؤيا سارة أو ما أشبه ذلك، أن تبشره بذلك؛ لأنك تدخل السرور عليه.

 

ثامنًا: أنه ينبغي مكافأة من بشرك بهدية تكون مناسبة للحال؛ لأن كعب بن مالك - رضي الله عنه - أعطى الذي بشره ثوبيه، وهذا نظير ما صح به الخبر عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - وكان يأمر الناس إذا حجوا أن يتمتعوا بالعمرة إلى الحج؛ يعني أن يأتوا بالعمرة ويحلوا منها ثم يحرموا بالحج في يوم التروية، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ينهى عن المتعة؛ لأنه يحب ان يعتمر الناس في وقت، وأن يحجوا في وقت، حتى يكون البيت دائمًا معمورًا بالزوار، ما بين معتمرين وحجاج، فَعَلَ هذا اجتهادًا منه - رضي الله عنه - وهو من الاجتهاد المغفور، وإلا فلا شك أن سنة الرسول - عليه الصلاة والسلام - أولى.

 

المهم أن رجلًا استفتى عبد الله بن عباس في هذه المسألة، فأمره أن يتمتع وأن يحرم بالعمرة ويحل منها.

 

فرأي هذا الرجل في المنام شخصًا يقول له: حج مبرور وعمرة متقبلة، فأخبر بذلك عبد الله بن عباس الذي أفتاه، ففرح بذاك ابن عباس وأمره أن يبقي حتى يعطيه من عطائه؛ يعني: يعطيه هديه على ما بشره به من هذه الرؤيا التي تدل على صواب ما أفتاه به عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

 

والمهم أن من بشرك بشيء فأقل الأحوال أن تدعو له بالبشارة، أو تهدي له ما تيسر، وكل إنسان بقدر حاله.

 

يقول رضي الله عنه: «حتى دخلت المسجد وإذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس وحوله أصحابه، فقام إلى كعبٍ طلحةُ بنُ عبيد الله - رضي الله عنه - فصافحه وهنأه بتوبة الله عليه.

 

يقول: «والله ما قام إليَّ أحد من المهاجرين رجل غير طلحة»؛ فكان لا ينساها له، حيث قام ولاقاه وصافحه وهنأه، حتى وقف على النبي -صلى الله عليه وسلم- وإذا وجهه تبرق أساريره؛ لأنه- عليه الصلاة والسلام- سره أن يتوب الله على هؤلاء الثلاثة الذين صدقوا الله ورسوله، وأخبروا بالصدق عن إيمان، وحصل عليهم ما جرى من الأمر العظيم، من هجر الناس لهم خمسين يومًا، حتى نسائهم بعد الأربعين أمر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يعتزلوهن.

 

ثم قال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَبْشِرْ بِخَيْرِ يَوْمٍ مَرَّ عَلَيْكَ مُذْ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ».

 

وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه هو ذلك اليوم، لأن الله أنزل توبته عليه وعلى صاحبيه في قرآن يتلى، تكلم به رب العالمين عز وجل، وأنزله على محمد -صلى الله عليه وسلم- محفوظًا بواسطة جبريل، ومحفوظًا إلى يوم القيامة، ولا يوجد أحد سوى الأنبياء أو من ذكرهم الله في القرآن حُفظت قصته كما حفظت قصة كعب بن مالك وصاحبيه رضي الله عنهم.

 

بقيت هذه القصة تتلى في كتاب في المحاريب وعلى المنابر وفي كل مكان، ومن قرأ هذه القصة فله بكل حرف عشر حسنات، فهذا اليوم لا شك أنه خير يوم مر على كعب منذ ولدته أمه.

 

فقال كعب: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله وإلى رسوله؛ أي: يتخلى عنه ويجعله صدقة إلى الله ورسوله شأنه وتدبيره. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ بَعْضَ مَالِكَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ»؛ فأمسكه رضي الله عنه.

 

ففي هذه القطعة من الحديث فوائد:

أولًا: فيها دليل على أن من السنة إذا أتى الإنسان ما يسره ان يهنأ به ويبشره به، سواء كان خير دين أو خير دنيا.

 

ولهذا بشرت الملائكة إبراهيم عليه السلام بغلام حليم وبغلام عليم؛ الغلام الحليم: إسماعيل. والغلام العليم: إسحاق. بشرت الملائكة إبراهيم بهذين الغلامين.

 

ثانيًا: إنه لا بأس بالقيام إلى الرجل لمصافتحه وتهنئته بما يسره.

والقيام إلى الرجل لا بأس به، قد جاءت به السنة، وكذلك القيام للرجل وأنت باق في مكانك لا تتحرك إليه، فهذا أيضًا لا بأس به إذا اعتاده الناس؛ لأنه لم يرد النهي عنه؛ وإنما النهي والتحذير من الذي يقام له، لا من القائم، فإن من يقام له قال فيه النبي - عليه الصلاة والسلام -: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِيَامًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».

 

قال أهل العلم: والقيام ثلاثة أقسام:

الأول: قيام إلى الرجل.

الثاني: قيام للرجل.

والثالث: قيام على الرجل.

فالقيام إلى الرجل، لا بأس به، وقد جاءت به السنة أمرًا وإقرارًا وفعلًا أيضًا.

 

أما الأمر: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما أقبل سعد بن معاذ - رضي الله عنه - عند تحكيمه في بني قريظة، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»[4]، وكان سعد بن معاذ - رضي الله عنه - قد أصيب في غزوة الأحزاب في أكحله، والأكحل عرق في الإبهام إذا انفجر مات الإنسان، أصيب به - رضي الله عنه - فدعا الله أن لا يميته حتى يقر عينه في بني قريظة، وكانوا حلفاء للأوس، وخانوا عهد النبي - عليه الصلاة والسلام - وصاروا مع الأحزاب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فلما طُعِن سعد قال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني ببني قريظة، وكان من علو منزلته عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يضرب له خباء في المسجد - أي: خيمة صغيرة - لأجل أن يعوده من قريب، فكان يعوده من قريب.

 

ولما حصلت غزوة بني قريظة ورضوا أن يحكم فيهم سعد بن معاذ، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يحضر سعد إلى بني قريظة، فجاء راكبًا على حمار؛ لأنه قد أنهكه الجرح، فلما أقبل قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»، فقاموا، فأنزلوه، فقال النبي- عليه الصلاة والسلام - له: إن هؤلاء - يعني: اليهود - من بني قريظة حكموك، فقال رضي الله عنه: حكمي نافذ فيهم؟ قال نعم! وأقروا هم به، وقالوا: نعم حكمك نافذ، قال: وفيمن ها هنا - يشير إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - والصحابة - قالوا: نعم، فقال: أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلهم، وتسبى ذريتهم ونساؤهم، وتغنم أموالهم، حكم صارم، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ»، رضي الله عنه.

 

فنفَّذ النبي -صلى الله عليه وسلم- حكمه، وقتل منهم سبعمائة رجل، وسَبى نساءهم وذرياتهم، وغنم أموالهم.

 

الشاهد قوله: «قُومُوا إِلَى سَيِّدِكُمْ»، هذا فعل أمر، ولما دخل كعب بن مالك المسجد قام إليه طلحة بن عبيد الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يشاهد ولم ينكر عليه.

 

ولما قدم وفد ثقيف إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - بالجعرانة بعد الغزوة قام لهم - أو قام إليهم - عليه الصلاة والسلام، فالقيام إلى الرجل لا بأس به.

 

الثاني: القيام للرجل: وهذا أيضًا لا بأس به، لا سيما إذا اعتاد الناس ذلك وصار الداخل إذا لم تقم له يُعد ذلك امتهانًا له، فإن ذلك لا بأس به، وإن كان الأولى تركه، كما في السنة، لكن إذا عتاده الناس فلا حرج فيه.

 

الثالث: القيام عليه: كأن يكون جالسًا، ويقوم واحد على رأسه تعظيمًا له، فهذا منهي عنه، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: «لَا تَقُومُوا كَمَا تَقُومُ الْأَعَاجِمُ، يُعَظِّمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا»[5].

 

حتى إنه في الصلاة إذا صار الإمام لا يستطيع القيام وصلى جالسًا فإن المأمومين يصلُّون جلوسًا، ولو كانوا يقدرون على القيام؛ لئلَّا يشبهوا الأعاجم الذين يقومون على ملوكهم.

 

فالقيام على الرجل منهي عنه، اللهم إلا إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كأن يخاف على الرجل أن يتعدى عليه أحد، فلا بأس أن يقوم عليه القائم، وكذلك إذا قام عليه الرجل إكرامًا له في حال يقصد فيه إكرامه وإهانة وكذلك إذا قام عليه الرجل إكرامًا له في حال يقصد إكرامه وإهانة العدو، مثل ما حصل من المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - في صلح الحديبية حينما كانت قريش تراسل النبي -صلى الله عليه وسلم- للمفاوضة فيما بينهم، كان المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - واقفًا على رأس رسول الله وبيده السيف تعظيمًا لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وإهانة لرسل الكفار الذين يأتون للمفاوضة، وفي هذا دليل على أنه ينبغي لنا - نحن المسلمين - أن نغيظ الكفار بالقول وبالفعل؛ لأنَّا هكذا أُمرنا، قال الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 73]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا يَطَأُونَ مَوْطِئًا يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ﴾ [التوبة: 120]، ومن المؤسف أن منا من يدخل عليهم السرور والفرح، وربما يشاركهم في أعيادهم الكفرية التي لا يرضاها الله بل يسخط عليها، والتي يخشى أن ينزل العذاب عليهم وهم يلعبون بهذه الأعياد.

 

يوجد من الناس - والعياذ بالله - من لا قدر للدين عنده، كما قال ابن القيم- رحمه الله - في كتابه «أحكام أهل الذمة»: «من ليس عنده قدر للدين يشاركهم في الأعياد ويهنئهم»، وكيف يدخل السرور على أعداء الله وأعدائك؟! أَدْخِل عليهم ما يحزنهم ويغيظهم ويدخل عليهم أشد ما يكون من الضيق، هكذا أُمرنا؛ لأنهم أعداء لنا وأعداء لله ولدينه وللملائكة والنبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

 

المهم أن المغيرة بن شعبة وقف على رأس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وبيده السيف تعظيمًا له حتى إنه في أثناء تلك المراسلة فعل الصحابة شيئًا لا يفعلونه في العادة، كان - عليه الصلاة والسلام - إذا تنخم تلقوا نخامته بأيديهم، بالراحة، ثم يمسحون بها وجوههم وصدورهم مع أنهم ما كانوا يفعلون هذا، لكن لأجل إذا ذهب رسول الكفار بيَّن لهم حال الصحابة - رضي الله عنهم - مع نبيهم عليه الصلاة والسلام.

 

ولذلك لما رجع رسول قريش إلى قريش قال: والله لقد دخلت على الملوك وكسرى وقيصر والنجاشي فلم أر أحدًا يعظمه أصحابه مثلما يعظم أصحاب محمد محمدًا، رضي الله عنهم وأرضاهم، وجزاهم الله عنا خيرًا.

 

المهم أن القيام على الرجل إذا كان المقصود به حفظ الرجل، أو كان المقصود به إغاظة العدو، فإن هذا لا بأس به، ولا حرج فيه، وإلا فهو منهي عنه.

 

ثالثًا: إن مَن أنعم الله عليه بنعمة فإن من السنة ان يتصدق بشيء من ماله، فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أقر كعب بن مالك على أن يتصدق بشيء من ماله توبة إلى الله عز وجل لما حصل له من الأمر العظيم الذي كان فخرًا له إلى يوم القيامة.

 

ثم ذكر كعب بن مالك أن من توبته أن لا يحدث بحديث كذب بعد إذ نجاه الله تعالى بالصدق، ومازال كذلك ما حدث بحديث كذب أبدًا بعد أن تاب الله عليه، فكان - رضي الله عنه - مضرب المثل في الصدق، حتى إن الله أنزل فيه وفي صاحبيه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، أنزل الله تعالى الآيات في بيان مِنَّته عليهم بالتوبة من قوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾ [التوبة: 117]؛ ففي هذه الآية أكد الله سبحانه وتعالى توبته على النبي والمهاجرين والأنصار، أكدها بقوله: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ ﴾.

 

فأما النبي: فهو محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خاتم النبيين الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

 

وأما المهاجرون: فهم الذين هاجروا من بلادهم، من مكة إلى المدينة، هاجروا إلى الله، فجمعوا في ذلك بين الهجرة ومفارقة الوطن ومفارقة الديار وبين نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- لأنهم إنما هاجروا إلى الله ورسوله، فالمهاجرون جمعوا بين الهجرة والنصرة.

 

أما الأنصار: فهم الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبلهم، أهل المدينة - رضي الله عنهم - الذين آوَوا النبي -صلى الله عليه وسلم- ونصروه ومنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم.

 

وقدم الله المهاجرين لأنهم أفضل من الأنصار، لجمعهم بين الهجرة والنصرة.

 

وقوله: ﴿ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ﴾؛ وذلك في الخروج معه إلى غزوة تبوك إلى بلاد بعيدة، والناس في اشد ما يكونون من الحر، والناس في أطيب ما يكونون لو بقوا في ديارهم؛ لأن الوقت وقت قيظ، والوقت وقت طيب الثمار وحسن الظلال، ولكنهم - رضي الله عنهم - خرجوا في هذه الساعة الحرجة في ساعة العسرة ﴿ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ﴾، فإن بعضهم كاد أن يتخلف بدون عذر فيزيغ قلبه، ولكن الله عز وجل مَنَّ عليهم بالاستقامة حتى خرجوا مع النبي -صلى الله عليه وسلم-.

 

وقوله: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ﴾ أكد ذلك مرة أخرى ﴿ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾؛ شملهم بالرأفة والرحمة، والرأفة أرق من الرحمة؛ لأنها رحمة ألطف وأعظم من الرحمة العامة.

 

ثم قال: ﴿ وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا ﴾.

 

والثلاثة: هم كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، هؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا رضي الله عنهم؛ وخُلِّفوا: أي: خُلِّف البَتُّ في أمرهم، وليس المراد: عن الغزوة، بل خلفهم الرسول - عليه الصلاة والسلام - لكي ينظر في أمرهم ماذا يكون حكم الله تعالى فيهم.

 

وقوله: ﴿ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ﴾؛ ضاقت عليهم الأرض مع سعتها، والرحب هو السعة؛ والمعنى: أن الأرض على سعتها ضاقت بهم، حتى قال كعب بن مالك: «لقد تنكرت لي الأرض حتى قلت: لا أدري، هل أنا في المدينة أو غيرها» من شدة الضيق عليهم، رضي الله عنهم.

 

﴿ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُم ﴾؛ نفس الإنسان ضاقت عليه فهي لا تتحمل أن تبقى، ولكنهم صبروا - رضي الله عنهم - حتى فرَّج الله عنهم.

 

وقوله: ﴿ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْه ﴾ [التوبة: 118]، الظن هنا بمعنى اليقين؛ أي: أيقنوا أنه لا ملجأ من الله؛ أي: أنه لا أحد ينفعهم، ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، فالله بيده كل شء عز وجل.

 

وقوله: ﴿ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [التوبة: 118]؛ تاب عليهم لينالوا مراتب التوبة التي لا ينالها إلا من وُفِّق، لا ينالها إلا أحباب الله، كما قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة: 222].

 

أما أولئك الذين اعتذروا من المنافقين إلى الرسول - عليه الصلاة والسلام - واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، فإن الله أنزل فيهم شر ما أنزل في بشر، فقال: ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ﴾ فلا تلومونهم، ﴿ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ﴾؛ نعوذ بالله، رجس، الخمر رجس، القذر الذي يخرج من دبر الإنسان رجس، روث الحمير رجس، هؤلاء مثلهم، ﴿ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [التوبة: 95]، بئس المأوى، والعياذ بالله، إنهم يُنقلون من الدنيا إلى جهنم، نسأل الله العافية، نار حامية، تَطَّلِع على الأفئدة، مؤصدة عليهم في عَمَد ممددة.

 

﴿ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ﴾؛ لأنكم لا تعلمون سرائرهم، ولا يبدو لكم إلا الظواهر؛ ﴿ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾؛ لو رضي الناس عنك كلهم واللهُ لم يرض عنك فإنه لا ينفعك إلا رضا الله عز وجل؛ لأن الله إذا رضي عنك أرضى عنك الناس، وأمال قلوبهم إليك، كما جاء في الحديث: «إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ، فَقَالَ: إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا، فَأَحِبَّهُ - يعين الله الرجل له - فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ، فَيَقُولُ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ»، قال: «ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ»[6]، فيكون مقبولًا لدى أهل الأرض.

 

كما قال الله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ﴾ [مريم: 96].

 

لكن إذا التمس الإنسان رضا الناس بسخط الله فالأمر بالعكس، يسخط الله عليه ويسخط عليه الناس.

 

ولهذا لما تولى معاوية - رضي الله عنه - الخلافة كتبت له عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: «مَنِ الْتَمَسَ رِضَا اللهِ بِسَخَطِ النَّاسِ كَفَاهُ اللهُ مُؤْنَةَ النَّاسِ، وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللهِ وَكَلَهُ اللهُ إِلَى النَّاسِ»[7].

 

وما أكثر الذين يطلبون رضا الناس بسخط الخالق عز وجل، والعياذ بالله.

 

هؤلاء هم في سخط الله ولو رضي عنهم الناس، فلا ينفعهم رضا الناس، قال الله تعالى هنا: ﴿ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [التوبة: 96].

 

حتى لو رضي عنهم النبي -صلى الله عليه وسلم- أشرف الخلق ما نفعهم؛ لأن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين.

 

وفي هذه الآية تحذير من الفسق، وهو ارتكاب المعاصي التي أعظمها الكفر، وكل فسق فإنه ينقص من رضا الله عن الإنسان بحسبه؛ لأن الحكم المعلق بالوصف يزداد بزيادته وينقص بنقصانه، ويقوى بقوته، ويضعف بضعفه، والفسق سبب من أسباب عدم رضا الله ﴿ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾؛ والفسق أنواع كثيرة ومراتب عظيمة؛ فعقوق الوالدين من الفسوق، وقطيعة الرحم من الفسوق، والكذب من الفسوق، فكل معصية من الفسوق.

 

لكن صغائر الذنوب تكفرها حسنات الأعمال إذا أصلح الإنسان الحسنات،؛ كما قال الله تعالى: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ [الإسراء: 78].

 

وقال عز وجل: ﴿ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ﴾ [هود: 114].

 

فإذا فعل الإنسان حسنة أذهبت السيئة إذا كانت صغيرة، أما الكبائر فلا ينفع فيها إلا التوبة.

 

على كل حال، الفسق من أسباب انتفاء رضا الله عن العبد، والطاعة من أسباب الرضا، فالتزم طاعة الله إن كنت تريد رضاه، وإن كنت تريد رضا الناس فأَرضِ الله؛ إذا رضي الله عنك كفاك مؤنة الناس وأرضى الناس عنك، وإن أسخطت الله برضا الناس فأبشر بسخط الناس مع سخط الله، والعياذ بالله.

 

وذكر- رضي الله عنه - أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج من المدينة في يوم الخميس، وكان يحب أن يخرج في يوم الخميس، ولكن ذلك ليس بدائم، أحيانًا يخرج يوم السبت، كما خرج في آخر سفرة سافرها في حجة الوداع، وربما يخرج في أيام أخر، لكن غالب ما يخرج فيه هو يوم الخميس.

 

وذكر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- عاد إلى المدينة ضحى، وأنه دخل المسجد فصلى فيه ركعتين، وكان هذا من سنته -صلى الله عليه وسلم- أنه إذا قدم بلده لم يبدأ بشيء قبل المسجد.

 

وهاتان الركعتان تشمل كل الوقت، حتى أوقات النهي؛ لأنها صلاة سببية، فليس عنها نهي، في أي وقت وُجِد سببها حل فعلها.

فينبغي إذا قدم الإنسان إلى بلده أن يبدأ قبل كل شيء بالمسجد. وقد تقدم ذكر ذلك.

 

المصدر: « شرح رياض الصالحين »



[1] أخرجه مسلم (438).

[2] متفق عليه: أخرجه البخاري (1410)، ومسلم (1014).

[3] متفق عليه: أخرجه البخاري (6023)، ومسلم (1016).

[4] متفق عليه: أخرجه البخاري (4121)، ومسلم (1768).

[5] أخرجه أبو داود (5230)، وابن ماجه (3836).

[6] متفق عليه: أخرجه البخاري (3209)، ومسلم (2637).

[7] أخرجه الترمذي (2414)، وصححه الألباني في «الصحيحة» (2311).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • شرح حديث كعب بن مالك في قصة تخلفه عن غزوة تبوك (1)
  • غزوة تبوك أو العسرة
  • ما فعل كعب بن مالك؟

مختارات من الشبكة

  • العناية بشروح كتب الحديث والسنة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح حديث أبي بن كعب: قد جمع الله لك ذلك كله(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حديث: حجر على معاذ ماله وباعه في دين كان عليه(مقالة - موقع الشيخ عبد القادر شيبة الحمد)
  • المتخلفون عن الجهاد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرح الحديث الخامس من أحاديث الأربعين النووية (حديث النهي عن البدع)(محاضرة - مكتبة الألوكة)
  • شرح حديث أبي سفيان بن حرب في حديثه الطويل في قصة هرقل(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حديث تناثر القمل من رأس كعب بن عجرة وهو محرم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • صدر حديثاً (محمد بن كعب القرظي وأثره في التفسير)(مقالة - موقع الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن معاضة الشهري)
  • مخطوطة قصيدة بانت سعاد مخمسة (تخميس بانت سعاد)(مخطوط - مكتبة الألوكة)
  • شرح الحديث الثامن من أحاديث كتاب الأربعين النووية (حرمة دم المسلم وماله)(محاضرة - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 9/11/1446هـ - الساعة: 17:29
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب