صلة الأرحام

صلة الأرحام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

فإن من أعظم الواجبات التي أوجبها ربنا سبحانه وتعالى، وحث عليها، وجعلها عبادة وقربة من القربات - صلة الأرحام؛ ففيها المقاصد العظيمة، والفوائد الجسيمة.

قال سبحانه: ﴿ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ﴾ [الرعد: 21]؛ قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره في معنى: ﴿ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ [الرعد: 21]: "صلة الأرحام، والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج، وبذل المعروف".

والأرحام هم الأقارب من النسب من جهة الأب والأم، وأقربهم: الآباء والأمهات والأجداد، والأولاد وأولادهم ما تناسلوا، ثم الأقرب فالأقرب من الإخوة وأولادهم، والأعمام والعمات وأولادهم، والأخوال والخالات وأولادهم، فهؤلاء من تجب صلتهم وتحرم قطيعتهم.

أيها الأحبة الكرام:

إن من فضائل صلة الأرحام:

♦ أن الله تعالى يصل من يصل رحمه، والجزاء في صلتهم أو قطيعتهم من جنس العمل؛ كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الرحم شُجْنَة من الرحمن، قال الله: من وصلكِ وصلته، ومن قطعكِ قطعته))؛ رواه البخاري في صحيحه، الشجنة - بضم وكسر وفتح الشين - هي: الوصلة، وأصلها: الغصن المشتبك؛ أي: الملتف، كما في المعجم، والمعنى: أنها مشتبكة بالرحمة المشتقة من اسمه تعالى الرحمن.

♦ صلة الأرحام من أسباب دخول الجنة بسلام؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام؛ تدخلوا الجنة بسلام))؛ رواه البخاري.

♦ صلة الأرحام دليل على الإيمان؛ كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليصل رحمه))؛ رواه البخاري في صحيحه.

فدلل على إيمانك بصلة أرحامك؛ لأن الذي أمرك بها هو من آمنت به ربًّا معبودًا، فصلتك لأرحامك إرضاء لله قبل أن تكون إرضاء لهم، فإنهم قد يرضون وقد يسخطون عليك، فكن واصلًا على كل حال.

♦ صلة الأرحام دليل على وجود الرحمة في قلب الواصل: والرحم أيها الأحبة مشتقة من اسمه سبحانه (الرحمن)؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله: أنا الرحمن شققت لها اسمًا من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته))؛ رواه أبو داود وغيره، وصححه الألباني.

♦ صلة الأرحام تزيد وتبارك في الرزق والعمر؛ فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره، فليصل رحمه))؛ رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما.

فصلة الرحم سعادة في الدنيا والآخرة، لصاحبها ثواب عاجل وثواب آجل، والسعيد من وفقه الله وجعله ممن يصل أرحامه.

وأما عن مقدار الصلة والقطيعة، فإنه لم يحدده الشرع، ومرجعه إلى عرف المسلمين، فما تعارف عليه المسلمون أنه صلة فهو كذلك، وتختلف الصلة من شخص لآخر؛ فقد يحتاج قريب إلى مال يعينه، وآخر لا يحتاج إلا سلامًا وسؤالًا عن الحال، والزيارات مطلوبة في الصلة عند الاستطاعة، وعلى كل حال، فالأمر يرجع إلى العرف كما قال أهل العلم.

قال الإمام النووي في شرح مسلم: "صلة الرحم هي الإحسان إلى الأقارب على حسب الواصل والموصول، فتارة تكون بالمال، وتارة تكون بالخدمة، وتارة تكون بالزيارة والسلام، وغير ذلك".

أيها الأحبة الكرام:

من خطورة قطيعة الأرحام:

♦ أن قاطع الرحم ملعون: فقد لعن الله تعالى قاطع الرحم في كتابه في ثلاثة مواضع؛ منها قوله تعالى:

﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ * أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ [محمد: 22 - 24]، واللعن: هو الطرد من رحمة الله عياذًا بالله.

قال علي بن الحسين رضي الله عنه يوصي ابنه: "يا بني، لا تصاحب قاطع الرحم؛ فإني وجدت أن الله لعنه في كتابه في ثلاثة مواطن".

♦ قاطع الرحم لا يدخل الجنة مع أول الداخلين: يعني: لا يدخلها ابتداء، بل إن كان من أهل الإيمان، فإنه يُعذَّب في النار إلى أن يشاء الله قبل أن يدخل الجنة إن كان من أهلها.

♦ قاطع الرحم مقطوع من صلة الله تعالى كما أن من يصلها يصله الله؛ ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله))؛ رواه مسلم في صحيحه.

أيها الأحبة الكرام:

مع كل هذا الترغيب والترهيب، نجد من يقطع أرحامه، وربما كان واصلًا لأبعد الناس، لكن قرابته وأرحامه محرومون من وصله، وربما كان من أهل الصلاة المحافظين عليها في الجماعة، إلا أنه قاطع لأرحامه، غافل عنهم، لا يسأل عنهم ولا يهمه أمرهم، ولقد كثرت قطيعة الأرحام رغم تيسر التواصل عبر الوسائل الحديثة، ومن الناس من يعجز حتى عن مجرد الاتصال، أو يتشاغل أو يتساهل، ومن الناس من يتعمد هجر أرحامه؛ هروبًا من أي التزام قد يحرج به، وذلك بسبب الحرص على المال، ولا يدري أن بركة المال في إنفاقه في سبيل الله وصلة أرحامه.

فقف مع نفسك يا عبدالله، وتذكر متى كانت آخر مرة زرت أو سلمت على أرحامك، كأخوالك وخالاتك، وأعمامك وعماتك؛ فإن الأعمام والعمات بمنزلة الأب؛ فصلتهم صلة لأبيك، والأخوال والخالات بمنزلة الأم؛ فصلتك لهم صلة لأمك.

كم من الأخوات لسن بحاجة إلى المال، بل هن بحاجة إلى زيارة واتصال إخوانهن! وكم تفرح الأخت حين يسأل عنها إخوتها؛ فهم سندها بعد الله! وما أعظم الأجر في إدخال السرور على مسلم! فكيف بمن هم من الأهل والأرحام؟ فلنبادر ولنحرص على الصلة بقدر الإمكان، مهما تكن الظروف؛ لنسعدَ ونُسعِد غيرنا، ونرضي ربنا؛ فالدنيا زائلة، وما عند الله خير وأبقى.

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.