• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    طريق لا يشقى سالكه (خطبة)
    عبدالله بن إبراهيم الحضريتي
  •  
    خطبة: مكانة العلم وفضله
    أبو عمران أنس بن يحيى الجزائري
  •  
    خطبة: العليم جلا وعلا
    الشيخ الدكتور صالح بن مقبل العصيمي ...
  •  
    في تحريم تعظيم المذبوح له من دون الله تعالى وأنه ...
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    كل من يدخل الجنة تتغير صورته وهيئته إلى أحسن صورة ...
    فهد عبدالله محمد السعيدي
  •  
    محاضرة عن الإحسان
    د. عطية بن عبدالله الباحوث
  •  
    ملامح تربوية مستنبطة من قول الله تعالى: ﴿يوم تأتي ...
    د. عبدالرحمن بن سعيد الحازمي
  •  
    نصوص أخرى حُرِّف معناها
    عبدالعظيم المطعني
  •  
    فضل العلم ومنزلة العلماء (خطبة)
    خميس النقيب
  •  
    البرهان على تعلم عيسى عليه السلام القرآن والسنة ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    الدرس السادس عشر: الخشوع في الصلاة (3)
    عفان بن الشيخ صديق السرگتي
  •  
    القرض الحسن كصدقة بمثل القرض كل يوم
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    الليلة التاسعة والعشرون: النعيم الدائم (2)
    عبدالعزيز بن عبدالله الضبيعي
  •  
    حكم مشاركة المسلم في جيش الاحتلال
    أ. د. حلمي عبدالحكيم الفقي
  •  
    غض البصر (خطبة)
    د. غازي بن طامي بن حماد الحكمي
  •  
    كيف تقي نفسك وأهلك السوء؟ (خطبة)
    الشيخ محمد عبدالتواب سويدان
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / التفسير وعلوم القرآن
علامة باركود

من سورة الأنعام: أبلغ الحق ولا عليك ممن كفر به

من سورة الأنعام: أبلغ الحق ولا عليك ممن كفر به
الشيخ عبدالكريم مطيع الحمداوي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 29/10/2018 ميلادي - 18/2/1440 هجري

الزيارات: 18239

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

من سورة الأنعام: أبلِغِ الحقَّ ولا عليك ممَّنْ كفَرَ به


قال الله تعالى: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ * بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ * لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ * قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ * وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [الأنعام: 100 - 107].

 

لا شيءَ أشَد على النفس مِن أن تُحسن إلى أحدهم وأنت غنيٌّ عنه، لا تريد منه جزاءً ولا شكورًا، ثم يقابل إحسانَك بالاستكبار والمخاصمة والعُدوانِ والمكر، هذا هو الجحودُ الذي يدل على تَلَفِ فِطرة صاحبه وفسادها، فلا يَسلَم مِن شرِّه قريبٌ أو بعيدٌ، وهو سلوك مَرَد عليه بنو إسرائيل؛ إذ جحَدوا نعم الله تعالى، وحرَّفوا كتابه، فتاب عنهم عِدَّة مرات، ثم عادوا لما نُهوا عنه مرات ومرات، ومَنَّ عليهم بما أسبَله عليهم من النِّعم تذكيرًا وتحذيرًا، ودعوة للانصلاح والتوبة، ثلاث مرات في سورة البقرة؛ إذ قال عز وجل: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [البقرة: 40]، وقال سبحانه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 47]، وقال سبحانه: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ [البقرة: 122]، فلما أصرُّوا واستعصوا على الانصلاح، لعنهم بقوله عز وجل: ﴿فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً﴾ [المائدة: 13].

 

تلك سنة الله تعالى في الذين أنعم عليهم، وبالغوا في العصيان والكفر؛ إذ العقوبة تَعظُم على قدر المعصية، والمعصية تعظُم على قدر النعم التي جُحِدت ولم تُشكَر؛ قال عز وجل: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [الزخرف: 55].

 

إلا أن جحود النعم - ارتكابًا وعاقبةً - ليس خاصًّا ببني إسرائيل بقدر ما هو من نتاج الفطرة البشرية إذا ما أصابها الفساد أو التلف، حينئذ تتحول مهما بلغ صاحبُها من الضعف والعجز والمهانة إلى وحشٍ عدواني لا يفرِّق بين خيرٍ أو شر، أو منفعة أو مضرة، وحش مستطيل متطاول حتى في علاقته بربه الذي خلٌَقه ونعمه، ولذلك قال الحق سبحانه عن أصحاب الفِطَر التالفة والفاسدة: ﴿قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ﴾ [عبس: 17 - 19]؛ أي: لعن المشرك الكافر، أيُّ شيء أكفره وحجب عنه رؤية نعم الله عليه؟ وقال سبحانه: ﴿خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ [النحل: 4]؛ أي: خلقه من نطفة مهينة ضعيفة، ثم سوَّاه ورزقه ونمَّاه، حتى إذا استوى متكاملًا، جحد ربَّه، فكفر به وخاصَمه، فعبَد غيرَه.

 

على نفس هذا النهج ولنفس الغاية، قدمت سورة الأنعام في الآيات السابقة آلاء الله الدالة على وجوده وحُسن خلقه وتدبيره وفائض نعمه، لعل المخاطبين بها يعلمون ويفقهون، فيؤمنوا؛ كما قال تعالى: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 97]، وقال: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 98]، وقال: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام: 99]، وهو تفصيل كفيل بأن تؤمن الفطر السوية بربها، فتَدين له بالولاء والعبادة، أما الفِطَرُ الخَرِبَة أو التالفة، فقد جاهرت ربَّها بالجحود والكفر والمخاصمة، كما هو شأن مشركي قريش وكفارها؛ إذ كلما ذكَّرهم القرآنُ بآلاء الله ونعمه، ازدادوا كفرٍا وعُتوًّا، وبالغوا في اختلاق أصناف من الشِّرك، وأضاليل من الباطل لا يستسيغها عاقلٌ، لذلك قال عز وجل تعقيبًا على فساد فِطرتهم وعمائها عن آيات الله ونعمه وفضله؛ إذ تمسكوا بالشرك وبالَغوا في الضلال: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ﴾ [الأنعام: 100]؛ أي: إن هؤلاء المشركين على رغم نعم الله عليهم في خلق أنفسهم، ونعمه عليهم من السماء والأرض، وما قدَّم لهم من آيات وجوده سبحانه في الكون وفي أنفسهم - أصرُّوا على الشرك، وجعلوا له عز وجل شركاءَ في الخلق والتدبير والتسيير، وعبدوا غيره.

 

ولَمَّا كان الشرك أصنافًا وأنواعًا، فقد خصَّ الحقُّ سبحانه أولًا بالذكر ما كان شائعًا، وبقِي متوارثًا بين الجاهلين، وهو الشرك بالجن، فقال تعالى: ﴿شُرَكَاءَ الْجِنَّ﴾ [الأنعام: 100]، ولفظ "الجن" بدل من لفظ "شركاء" مفسِّرٌ لصِنفهم؛ أي: جعلوا الجنَّ شركاءَ لله، واتَّخذوهم أولياءَ معه أو من دونه، وأطاعوهم كما يطاع الله تعالى، وتقرَّبوا إليهم بالعبادة طقوسًا ونُسكًا، وذبائحَ وتمائمَ وقرابينَ، ويُقصد بالجن في هذا السياق كفرتهم من الشياطين والأبالسة، وعلى رأسهم الشيطان لعنه الله؛ قال تعالى: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ﴾ [الكهف: 50]، وهم الذين يدأبون على الدعوة إلى الشرك، يُزينونه لضعاف العقول، ويستكثرون به سوادهم؛ كما قال عز وجل: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ﴾ [الأنعام: 128]؛ أي: استدرجتم كثيرًا من الإنس إلى الكفر والشرك، وقال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: 112]؛ أي: يُلقون في قلوبهم أباطيلَ الأوهام المزخرفة بالألفاظ المنمقة الكاذبة، يُزينون لهم بها الكفر والشرك والعصيان.

 

ثم عقَّب تعالى استعظامًا للشرك بعبادة الجن اتباعًا أو طاعة، أو استمتاعًا بزخرف قولِها، فقال: ﴿وَخَلَقَهُمْ﴾ [الأنعام: 100]، حرف الواو للحال؛ أي: والحال أنه سبحانه هو الذي خلَقهم جميعًا، جنًّا وإنسًا، كفارًا ومشركين، ضالين ومضلين، فكيف يتخذونهم شركاءَ لله وهو خالقهم وجامعهم يوم الدين للحساب والجزاء؛ قال سبحانه: ﴿وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ﴾ [الصافات: 158].

 

ثم ثنَّى عز وجل بصِنفٍ آخرَ مِن فَسَدَةِ العقيدة بالشِّرك، فقال سبحانه: ﴿وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 100]، والفعل "خرقوا" في هذه الآية، فمن "الخرق"، قرأه نافع بتشديد الراء: ﴿وَخَرَّقُوا﴾، للمبالغة في التخريق، وعرَّفه الراغب بأنه: "قطع الشيء على سبيل الفساد من غير تدبُّر ولا تفكُّرٍ، ضد الخلق، وهو فعلُ الشيء بتقدير ورِفقٍ"، يقال: خرق الإفك واخترَقه إذا اختلقه، وخرُق يخرُق فهو أخرق، بضم الراء فيهما؛ أي: حمُق يحمُق فهو أحمق، وخرِق بالشيء جهله، ولم يُحسن استعماله، وقد سئل الحسن عن لفظ "خرق"، فقال: "هي كلمة عربية كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا كذب كذبة في نادى القوم يقول له بعضهم: قد خرقها والله"؛ أي: من حمقهم وجهالتهم نسبوا لله الولد من الذكور والإناث، فقال مشركو العرب: إن الملائكة بنات الله، وقالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى المسيح ابن الله.

 

ولأن اختلاق الشرك لا يكون إلا جراءة على الله سبحانه، وجهلًا بخطورته وعقوبته، فقد عقب عز وجل بقوله: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: 100]؛ أي: بلا حجة أو دليلٍ، وعن جهل بخطورة هذا الاختلاق الشركي وعظمه عند الله؛ قال سبحانه: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾ [مريم: 88 - 93]؛ أي: إنهم اختلقوا له بنين وبنات، فتجرؤوا على وصفه بما لا يليق به سبحانه، جهلًا وتجاهلًا لصفاته الواجبة له، ألوهية وربوبية ووحدانية، وأسماء وصفات.

 

﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾ [الأنعام: 100]؛ أي: تنزَّه عن كل ما وصفوه به من الصاحبة والذرية والشِّرك والشريك والشركاء، والأنداد والنُّظراء، وعن كل ما يتعارَض مع وحدانيته عز وجل، وعن كل تصوُّرات المشركين الكذبة الضالين، إنه تعالى خالق ما يعبده المشركون، فكيف يخلقهم ويشاركونه في القدرة على الخلق والتدبير والتقدير.

 

ولَما بيَّن الحق تعالى فسادَ معتقدات هؤلاء المشركين، واجَههم بالحقيقة الإلهية التي تكشف سخفَ عقولهم، وبُعدها عن التفكير السوي، وأقام الدليل على تنزُّهه تعالى عما يقولون وما يختلقون، فقال عز وجل: ﴿بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [البقرة: 117]، ولفظ: "بَدِيع" بصيغة "فَعِيل" من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها، بمعنى فاعل، صفة من صفات الله تعالى، مثل قدير وقادر؛ أي: مبدع السماوات والأرض، خالق الكون على غير مثال سابق، وخالق ما فيه مما نعلَم وما لا نعلم، وما لا يحيط بعلمه إلا هو عز وجل، إنه سبحانه خالق العبيد بشرًا مؤمنين وكفارًا ومشركين، والجن مؤمنين وعصاة متمردين، والشياطين ضلالًا ومضلين، فكيف ينسبون له الولد؟! ﴿أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ﴾ [الأنعام: 101]؟! كيف يكون له الولد ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ﴾ [الأنعام: 101]؟ وليست له زوجة، وهو الغني عن الزوجة والولد المنزه عن اتخاذهما.

 

﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 101]، وهو القادر المقتدر الواحد القهار، يخلق كلَّ شيء يريده دائمًا وأبدًا؛ قال عز وجل: ﴿إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُون﴾ [آل عمران: 47]، وقال: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40]، وأسماؤه تعالى وصفاته كلها أدلة قاطعة على نفي الولد عنه عز وجل: ﴿وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 29]، علمُه سبحانه بكل شيءٍ وقدرتُه على كل شيء - دليلٌ قاطع على أنه غني عن الولد، مُنزَّهٌ عن صفات الكائنات والمخلوقات: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: 11]، ولذلك سفَّه تعالى عقولهم وجهَّل أحلامهم وتصوُّراتهم ومزاعمَهم، بقوله عز وجل في نفس الفترة المكية: ﴿لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾ [الزمر: 4]؛ أي: لو أراد اتخاذ الولد لاختار مما يخلق ما يشاء، ولكن ذلك محالٌ في حقِّ ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، إرادته سبحانه مُحيطة بالكون وما حوى، لا حد لقدرته ولا راد لمشيئته، يخلق عباده فيتَّخذ منهم الملائكة، ويتخذ منهم النبي والرسول والخليل والصِّدِّيق والشهيد والصالح، وقد قال صلى الله عليه وسلم عن نفسه: (إن الله تعالى قد اتَّخذني خليلًا كما اتخذ إبراهيم خليلًا)، وقال عز وجل: ﴿وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا﴾ [النساء: 125]، وقال سبحانه: ﴿وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ﴾ [آل عمران: 140].

 

إن كل ضعيف فانٍ أو آيل للفناء والموت، يحتاج إلى زوجة تُعينه على نوائب الدهر، وإلى ولد يرثه ويسير بسيرته، فيُساعده ويكاثر به، ويحفَظ أثرَه وذكره بعد الوفاة، ومن لوازم الأبوَّة أن يشبه الابن أباه أو يُجانسه، ومعبودات المشركين من الكواكب والنور والظلمة، والبشر والحجر مرئية ومحسوسة لديه، ومعرفتهم بالله تعالى غائمة غيرُ واضحة، وهم لم يَروه تعالى ولا يرونه، وقد عمِيت بصائرهم عن صفاته وآلائه، وأعرضوا عنها، لا تُدركه أبصارهم ولم تُؤمن به قلوبُهم، فما وجه نِسبة بنوة ما رأوه من المخلوقات، فعبدوها إلى ما لم يروا من الخالق سبحانه، فكفروه وأشركوا به، لا يقول بهذا عاقل، ولا يجادل عنه إلا سفيه أو مجنونٌ، إنه تعالى حي قيوم، قادر قوي غني عن الخلق والخلق محتاج إليه، غني عن الزوجة والولد؛ لأنه قادرٌ على أن يخلقهما ويَهبهما لمن يحتاجهما من عباده، وقد غابت هذه الحقيقة الإيمانية عن اليهود، فضلُّوا في عزير عليه السلام، وعن النصارى فضلوا في عيسى عليه السلام، كما غابت عن المشركين فضلوا في الملائكة وعدُّوهم بنات الله، تعالى الله عن مقولاتهم جميعًا علوًّا كبيرًا.

 

ثم عقَّب سبحانه ببيان القصد من هذه الإضاءات التوحيدية للتصور الحق بقوله عز وجل: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ [الأنعام: 102]؛ أي: ذلكم هو التصور الإيماني السليم الحق لله ربِّكم، وقد عرفكم عز وجل فيما سبق هذه الآية الكريمة بآيات ألوهيته المطلقة، ثم عرَّفكم بصفاته التي لا يشترك معه فيها أحد، ثم عرَّفكم بربوبيته في الخلق والإبداع والتدبير والتسيير، ولخص ذلك كله بأدق توضيح وأحسن إيجاز، فقال: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ﴾ [الأنعام: 102]، ثم قرَّر عز وجل هذه الحقيقة الإلهية بحسم قوي لا يحتمل التأويل بقوله عز وجل: ﴿لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 102]، وذلك ما يقتضي إيمانًا مقرونًا بالتوحيد الخالص الذي لا يشوبه شركٌ، أو شُبهةُ شرك، ﴿خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الأنعام: 102]، وما دام خالقًا لكل شيء، فليس في الكون من يستحق أن يكون له ندًّا أو شريكًا أو نظيرًا، أو شبيهًا أو معبودًا، ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾ [الأنعام: 102]، فأفردوه وحدَه بالعبادة؛ لأنه المستحق لها دون غيره، وتوجَّهوا إليه وحده بها معتقدًا ونوايا وشعائرَ ونُسكًا، ومعاملات على نهج ما أتاكم به القرآن الكريم والسنة الصحيحة: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾ [الأنعام: 102]، ولفظ "الوكيل" من فعل "وكل" إليه الأمر وكولًا: إذا فوَّضه إليه، وقدر له ما يناسبه؛ أي: إن الله خالق كلِّ شيء في الوجود، قادر وحدَه على إنشائه وإنمائه وتدبيره وإفنائه، متكفل برعايته وحفظه، يختار له مساره وحاله ومآله، جعَل لكلِّ جزئية فيه، أو كُليَّة آجالَ ابتداءٍ وظهور، وآجال نماء وفناء، وآجال انتشار واندثارٍ، وآجال بعث ونشورٍ، ولذلك عقب عز وجل بتنزيه نفسه عن جميع تصورات المشركين الضالة فقال: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]، ولفظ "تدركه" من فعل "درك" مهموزًا، قال ابن فارس: "الدال والراء والكاف: أصلٌ واحد هو لحوق الشيء بالشيء والوصول إليه"؛ كما في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء: 61]؛ أَيْ: لملحقون، والإدراك بلوغ الشيء وتمامه، فيقال: أدركت الثمرة: إذا نضجت، وأدرك الغلام: إذا بلغ سنَّ الرشد، وأدرك بغيته إذا نالها وحقَّقها، وكما يكون الإدراك حقيقة كلحوق كلب الصيد بالطريدة، يكون معنويًّا بالحواس سمعًا أو بصرًا أو لمسًا وحسًّا، وهو الإدراك الحسي، ويكون بتعقُّل الأشياء والأفكار والحقائق والأحداث، والمعاني واستيعابها، واستنباط دوافعها ومثيراتها ونتائجها ومآلاتها، وهو الإدراك العقلي، ويكون كذلك بنور يَقذفه الله في قلب من يحب، وهو إدراك البصيرة وسرعة الفَهم وصحته؛ قال تعالى: ﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ﴾ [النور: 35]، وقال: ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [الأعراف: 203]، قال ابن قيِّم الجوزية: "وصحة الفَهم نورٌ يقذفه الله في قلب العبد، يُميز به بين الصحيح والفاسد، والحق والباطل، والهدى والضلال"، إلا أن هذه الآية الكريمة قيَّدت الإدراك بالأبصار، جمع بصر وهو العين المبصرة؛ مما جعل قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103]، معناه أن العيون المبصرة لا تراه، وهو سبحانه يدرك الأعين المبصرة وما تُبصره، والعمِيَّة وما تعمى عنه، يدركها كلَّها منذ خلَقها - ولا يدركها غيرُه - إدراكَ إحاطةٍ بحالها ومآلاتها، وأعمالها الظاهرة والخفية: ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: 19]؛ لأنه تعالى هو خالقها: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الملك: 14]، وذلك ما لا يغيب عن المؤمن؛ لأنه يوقن بأن عينه إنما ليسترشد بها إلى آيات وحدانية الله في الخلق والإبداع، ويستعين بها على القيام بما خلَق له من استعمار الأرض والاستخلاف فيها، وأن المخلوق مهما كانت قوة إبصاره لا طاقة له بأن يُحيط بالخالق عز وجل رؤية أو إحاطة.

 

وهو ما فهِمه أكثر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ اتفقوا على أن رؤية الله تعالى بحدقة العين مستحيلة في الدنيا، وأن رؤيته تعالى تكون للمؤمنين في الآخرة، وفي الحديث الصحيح عَن الشعبِي قال: "لَقِيَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا بِعَرَفَةَ، فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَكَبَّرَ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّا بَنُو هَاشِمٍ، فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّ اللَّهَ قَسَّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى، فَكَلَّمَ مُوسَى مَرَّتَيْنِ وَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ، قَالَ مسروقٌ[1]: فَدخلت على عَائِشَة، فَقلت: هَل رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ تَكَلَّمْتَ بِشَيْءٍ قَفَّ لَهُ شَعَرِي، قُلْتُ: رُوَيْدًا ثُمَّ قَرَأْتُ: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم: 18]، فَقَالَتْ: أَيْنَ تَذْهَبُ بِكَ؟ إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ، مَنْ أَخْبَرَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ، أَوْ كَتَمَ شَيْئًا مِمَّا أُمِرَ بِهِ، أَوْ يَعْلَمُ الْخَمْسَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 34]، فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ، لَمْ يَرَهُ فِي صُورَتِهِ إِلَّا مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَرَّةً فِي أَجْيَادٍ، لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ الْأُفُقَ"؛ رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني[2].

 

أما ما ذهب إليه ابن عباس رضي الله عنه، فيرد بأن آية سورة النجم تعني أولًا أنها رؤية لجبريل عليه السلام؛ كما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها، وأنها ثانيًا رؤية فؤاد؛ كما قال عز وجل: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: 11 - 14].

 

ولا شكَّ أن رؤية الله تعالى في الدنيا لا تكون، بدليل قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف: 143].

 

أما في الآخرة فأدلةُ رؤيته تعالى من الكتاب والسنة ومفهوم المخالفة، لا تكاد تُدحَضُ معانيها بقول معارِضٍ أو تأويل مؤوِّلٍ، فمن القرآن الكريم قال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ﴾ [القيامة: 22، 23].

 

ومن السنة النبوية عن جرير بن عبدالله قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا"، وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، فَقَالَ: "إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ لَا تُضَامُونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا"، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا﴾ [طه: 130].

 

ومن مفهوم المخالفة أن الكفار يوم القيامة محجوبون عن رؤية الله تعالى؛ كما قال عز وجل: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15]، ومفهوم الآية بذلك أن المؤمنين غير محجوبين عن رؤية الله عز وجل في الآخرة، وهو ما فهِمه الإمام الشافعي، فقال:" هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ"، وعندما سئل الإمام مالك: "يا أبا عبدالله، هل يرى المؤمنون ربهم؟"، قال: "لو لم ير المؤمنون ربَّهم، لم يُعيِّر الله الكفار بالحجاب، فقال: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: 15]، جعلنا الله بمنِّه وكرمه وإحسانه ممن يرونه تعالى لا نُضام في رؤيته.

 

﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ﴾ [الأنعام: 103]، اللطيف فيما يهبه للناس من الأبصار في الدنيا وفي الآخرة نعمةً ومِنَّةً، وفيما يخلقه وما لا يخلقه حكمةً وحُسنَ تدبير، اللطيف في صُنعه للكون وما حوى على أحسن تقدير، اللطيف بعباده فلا يُكلفهم ما لا يطيقون، ولا يؤاخذهم بما تابوا عنه، ويدخلهم الجنة برحمته.

 

﴿الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، والخبرة لغةً: إدراك حقيقة الأشياء، مبدأً ومعادًا، ونشأة وتطورًا ومآلًا، أما في سياق هذه الآية الكريمة، فالله هو الخبير بالأبصار التي زوَّد بها الناس في الدنيا والآخرة قوة وضَعفًا، الخبير بما خلق وما يخلق، وبما فعل الخلق ويفعلون، لا تَخفى عنه منهم خافيةٌ؛ قال عز وجل: ﴿إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ [لقمان: 16].

 

وبعد أن استوفى الوحي الكريم في الآيات السابقة من هذه السورة المباركة - إقامةَ الحجة وبيان أدلة الألوهية والربوبية، وفيض النعم، وتوضيح ما قد يستغلق فَهمُه من صفات وحدانيته تعالى، وقدرته وأفعاله في الخلق والتدبير والإبداع، وحكمته في إرسال الأنبياء والرسل، وإنزال الكتب، وما قد يلتبس عليهم، أو يُلبسه عليهم الشيطانُ من ضلالاتِ علاقاتٍ مزعومة لله بمخلوقاته غير علاقة العبودية التامة قهرًا وإجبارًا، أو رضًا واختيارًا؛ وجَّه الحق تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم خطابه إلى المشركين، مقيمًا عليهم الحجة، ومحملًا لهم مسؤولية شِركهم، وقد رأوا آلاءَ الله في الكون وفي أنفسهم بقوله:﴿قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الأنعام: 104]، وهذا القول جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرٍ من ربه تعالى، بدليل قوله بعده: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [الأنعام: 104]، ولفظ بصائر: جمع بصيرة، من البصر، وهو من العين حاسة النظر فيها، ومن العقل والقلب نفاذ الفهم والرشد؛ قال تعالى: ﴿فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ﴾ [الملك: 3]، والبصيرة بذلك تمام العلم والفهم والرشد في معالجة قضايا الدنيا والآخرة، ومنه قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف: 108].

 

والبصائر المقصودة في هذه الآية الكريمة، هي ما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية من البينات الواضحة المبصرة في الخلق والتدبير، والحكمة واللطف والتسيير، وكانت سورة الأنعام عينًا ثرَّةً لأدلة التوحيد، وبحرًا طاميًا لا يدَع مجالًا لشركٍ، أو شذوذِ إيمانٍ، أو فسادِ تصورٍ، كما ورد فيما سبق من حلقات التفسير هذه، من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ [الأنعام: 95]، إلى قوله عز وجل: ﴿وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ [الأنعام: 103]، فلم يبقَ عذرٌ لمن انحرف عن جادة الإيمان، أو خلط عقيدته بما يعارضها من أوهام أو تصورات؛ قال تعالى: ﴿كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ﴾ [الطور: 21]، وقال: ﴿بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ﴾ [القيامة: 14]، وحساب الآخرة مآلُ مَن قامت له الحجة أو قامت عليه، ﴿فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ﴾ [الأنعام: 104]، فمن أبصر آيات الله وآمن، فلنفسه أبصر، ولها جلب خيرَي الدنيا والآخرة، ﴿وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا﴾ [الأنعام: 104]، ومَن عَمِيَ عن آيات الله، فعلى نفسه يعود شرُّ عماه في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ [الإسراء: 7].

 

ثم أُمِر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن لله وحده حساب الخلق ومجازاة أعمالهم، فيقول للمشركين ما أمره الله به: ﴿وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾ [الأنعام: 104]؛ أي: لست عليكم برقيب أُراقب نواياكم وأعمالكم، وأحفظكم من الضلال، فالله تعالى هو الحفيظ عليكم، القادرُ على معرفة ما تخفون وما تُعلنون، إن أنا إلا رسول أبلغكم رسالة ربي بالحق بشيرًا ونذيرًا.

 

إنه لا شكَّ أن قوة الحجة فيما أوردته سورة الأنعام من أدلة علمية وحُجج عقلية، وآيات في النفس والكون سماوات وأرضًا وما بينهما، لا بد أن تحقِّق ما وردت له من الحق، وهو إيمان من أراد الله بهم خيرًا، ولكنها أيضًا تستفز المصرين على الكفر والشرك جهلًا منهم وجهالةً، فيعودون لِما عُهِد فيهم من جدل ومِراء وإنكارٍ، ولذلك عقب عز وجل بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ﴾ [الأنعام: 105]؛ أي: نُفصلها ونصرِّفها بين الناس بكل وضوحٍ، ونُريهم آثارها ونتائجها؛ كي يهتدي للحق ويثبت عليه من أراد الله به خيرًا، أو يستثار به حسد المشركين وغيظهم، فيشككوا فيها وينكروها: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: 105]، بصيغة المخاطب المفرد وهي قراءة الجمهور، وبصيغة "دَرَسَتْ" كما هي قراءة ابن عامر، ومعناها أن الآيات القرآنية التي يتلوها الرسول صلى الله عليه وسلم قد قدُمَتْ ودرسَتْ، وبلِيَتْ وصارت من أساطير الأولين، وبصيغة المفاعلة مع فتح التاء دارسْتَ كما قرأها ابن كثير وأبو عمرو؛ أي: يقولون: تدارستها مع غيرك؛ تعريضًا من المشركين بأمية الرسول صلى الله عليه وسلم، وطعنًا في تلقِّيه القرآن من الله تعالى، وزعمًا بأنه يدارسه ويدرسه على بعض أهل الكتاب[3]، ورَد الله تعالى عليهم في مواطن كثيرة بقوله عز وجل: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ [النحل: 103]، وقوله عز وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 4 - 6].

 

ولئن صرَّف الله تعالى آياته للناس؛ كي يختبرهم بإقامة الحجة عليهم والعدل فيهم، وكانت النتيجة أن المشركين تمادوا في الإعراض والكفر؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ﴾ [الأنعام: 105]، فإن تصريفها أيضًا كان تبيانًا للقرآن، وتوضيحًا لمن آثرهم الله برحمته وهدايته، وهو قوله تعالى بعدها: ﴿وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [الأنعام: 105]؛ أي: كي نوضِّحه لقوم يعلمون الحق ويبحثون عنه، ويختارونه ويؤمنون به، كما يتبينون الباطل وينبذونه ويجتنبونه، ولنبيِّن فساد ما يزعم المشركون من دراسته صلى الله عليه وسلم على يد أهل الكتاب، أو تلقِّيه منهم، لا سيما والعقول النيرة العادلة تعرِف التوراة والإنجيل المحرفين بيد أهلهما حينئذ، وكما تعرفه على توالي الحقب إلى عصرنا هذا، وتعرف ما فيهما من ضلالات المعتقدات والأخبار التي تؤكد تحريفهما وتعارضهما مع ما جاء به موسى وعيسى عليهما السلام، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.

 

إن هذين الموقفين المتعارضين من الوحي - موقف المشركين وموقف المؤمنين - ليسا عجبًا من سنة الله تعالى في اختبار العباد أن تأتيهم النبوة بالآية أو الحكم، أو التكليف أو البيان، فيزداد الضالون ضلالًا، ويزداد المؤمنون إيمانًا، طائفة تشكك في نبوته صلى الله عليه وسلم، وتقول له: درست ما أتيت به على يد غيرك من البشر، وأخرى مؤمنة تتبيَّنه وتؤمن به، وتهتدي بهداه؛ قال تعالى: ﴿وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ﴾ [التوبة: 124، 125]، وقال: ﴿يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ﴾ [البقرة: 26].

 

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لشدة وضوحِ الرسالة التي بعث بها، ودقة وعيه بخطورتها، وصدق تعلُّقه بها، وحرصه على أن يؤمن بها كلُّ مَن بلَغته، قد ملكت عليه عقله ومشاعره؛ ولاءً وبراءً، ومحبةً ورجاءً، وخوفًا وبُغضًا ورضًا، وصارت جزءًا من حياته كلها، ودعامة الارتكاز في شخصيته، يفرح لأي خطوة إيجابية يحقِّقها، ويحزن لأي انتكاسة تواجهه، هذه الحالة النفسية التي تختلف درجاتها بين الناس، باختلاف شرف المبادئ والأهداف، وسمو الخلال والأوصاف، والتي بها يتفاضل العاملون أنبياءَ ورسلًا، وعلماءَ ودعاةً ومصلحين، هي لدى سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم أشد وطئًا وأعظم تأثيرًا على نفسه الطاهرة، يحزن كلما رأى إعراضًا عن دعوته، أو أحسَّ مكرًا بها، فيقول له الحق عز وجل: ﴿وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ [النمل: 70]، ويقول له: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [آل عمران: 176]، ولذلك أمره الحق تعالى رحمة به، وتوجيهًا رشيدًا له، بعد أن بيَّن له سنته في اختباره الناس، بألا يحزن لِما أصابه من تكذيب، وألا يحفل باعتراض المشركين ومماحكاتهم، وجدلهم العقيم، وأن ينصرف عنهم وينشغل بما بعث به، عملًا به ودعوةً إليه، فقال له: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [الأنعام: 106]، أمْرٌ حاسم من الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن يركز جهوده كلَّها على ما نزل عليه من القرآن، فهمًا وتدبرًا وتوحيدًا، وعملًا ودعوةً وتبليغًا، وكان عليه السلام حقًّا وصدقًا خيرَ متبعٍ لأمر الله، وخيرَ قدوة فيه، وقد قال له ربه عز وجل: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4]، وقالت عنه عائشة رضي الله عنها: (كان خلقُه القرآن)، وذلك أيضًا أمرٌ لا لبس فيه لأتباعه في كل عصر ومصر، لن يفلحوا أبدًا ما لم يَنصاعوا له؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [آل عمران: 31]، وقال عز وجل: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [الأعراف: 3].

 

إلا أن هذا التركيز على جوهر الدعوة إلى الله - مدارسةً للوحي وعملًا به، وتبليغًا له ونُصرةً لأهله - يقتضي تفرغًا فكريًّا ووجدانيًّا ونفسيًّا، يعمل المشركون والمنافقون على تفتيته وشغله بالجدل العقيم التافه، وإثارة النعرات الشيطانية بين المؤمنين، ولذلكأكد سبحانه أمرَ الاتباع بأمر آخرَ مُكمل ومساعد ومعين، فقال: ﴿وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام: 106]، لا تشغل نفسك بأمر المشركين وأعرِض عنهم، ولا تهتم لكفرهم وإصرارهم على الكفر، ولا تنشغل بالمهاترات التي يحاولون أن يشغلوك بها عن دعوتك؛ تبليغًا وإعدادًا للجيل القرآني الفريد من الصحابة رضي الله عنهم، وانصرف إلى القرآن الكريم قراءةً وإقراءً، عملًا به وتعليمًا له، فما أمر إيمانهم وشركهم بيدك: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ [الأنعام: 107]، لو أراد الله لهم الإيمان لآمَنوا، ولكنهم اختاروا الكفر بعد أن تبيَّن لهم الهدى ودُعوا إليه ولم يُمنَعوه، والله تعالى غني عن كل من أصرَّ على الكفر وجادل عنه؛ كما قال عز وجل: ﴿وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ [إبراهيم: 8].

 

إنه تعالى ينظر إلى القلوب والنوايا، فيَصطفي بحكمته من عباده كلَّ ذي قلب سليم، ويطرد من صفِّه كلَّ ذي قلبٍ أغلفَ منكوسٍ[4]؛ قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الأنعام: 39]، وقال صلى الله عليه وسلم: (خلق الله آدم حين خلقه، فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذريةً بيضاءَ كأنهم الذرُّ، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذريةً سوداءَ كأنهم الحممُ، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أُبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أُبالي).

 

لذلك قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم عقب ذلك: ﴿وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [الأنعام: 107]، لست حافظًا عليهم ولا موكولًا إليك هداهم، أو حملهم على الهدى، وأمرهم مراقبة للنوايا والأعمال والأقوال، ومحاسبة عليها، ليس من شأنك، ﴿وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ﴾ [الأنعام: 107] ، ولست موكَّلًا على تصريف قلوبهم نحو الهدى أو الضلالة، إنما أنت مبلغٌ ومبشر ومنذر ومذكرٌ؛ قال تعالى: ﴿إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾ [الشورى: 48]، وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ [الإسراء: 105] وقال: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ [الغاشية: 21]، وقال: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45].



[1] هو مسروق بن الأجدع الوادعي (أبو عائشة)، أسلم والده الأجدع بن مالك بن أُمية بن عبدالله بن مر الوادعي الهمداني، وانتقل ببنيه إلى المدينة المنورة، فنشأ مسروق فيها وأخذ عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو بذلك من كبار التابعين، توفي سنة 62 هـ.

[2] روى مسلم في صحيحه بسنده إلى مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها، قال: كنت متكئًا عند عائشة فقالت: يا أبا عائشة (كنية مسروق) ثلاث من تكلم بواحدة منهنَّ، فقد أعظم على الله الفرية، قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدًا رأى ربه، فقد أعظم على الله الفرية - وكنت متكئًا فجلست - فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني، ولا تعجليني ألم يقل الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ ﴾ [التكوير: 23]، ﴿ وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى ﴾ [النجم: 13]، فقالت: أنا أول هذه الأمة، سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو جبريل لم يره على صورته التي خلقه الله عليها غير هاتينِ المرتين، فقالت: أولم تسمع أن الله عز وجل يقول: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 103]، أو لم تسمع أن الله عز وجل يقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا ﴾ [الشورى: 51]، قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كتم شيئًا من كتاب الله، فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67]، قالت: ومن زعم أنه يُخبر بما يكون في غد فقد أعظم الفرية، والله تعالى يقول: ﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [النمل: 65].

[3] ذُكر أنهم كانوا يزعمون أن الذي يعلِّم محمدًا صلى الله عليه وسلم القرآن عبدٌ رومي، ويعنون به عبدًا أعجميًّا نصرانيًّا مملوكًا لحويطب بن عبدالعزى، كان صلى الله عليه وسلم لتواضعه يُقرئه أحيانًا عند المروة، فأسلَم وحَسُنَ إسلامه.

[4] إشارة إلى الحديث النبوي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (القلوبُ أربعةٌ: قلبٌ أجرَدُ فيه سراجٌ يُزهرُ، فذلك قلبُ المؤمنِ، وقلبٌ أغلفُ، فذلكَ قلبُ الكافرِ، وقلبٌ منكوسٌ، فذلك قلبُ المنافقِ، عرفَ ثمَّ أنكرَ وأبصرَ ثمَّ عمِيَ، وقلبٌ تمُدُّه مادَّتانِ: مادَّةُ إيمانٍ، ومادَّةُ نفاقٍ، هو لِما غلبَ عليه منهما).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • من سورة الأنعام: غبش الشرك على الفطرة بين البأساء والنعماء
  • من سورة الأنعام: منهج القرآن في إحياء الأمة وتنشئة أجيال الرواد
  • تأملات في سورة الأنعام (خطبة)
  • مقاصد سورة الأنعام
  • من سورة الأنعام: مكمن الخلل في تصورات المشركين
  • من سورة الأنعام: لينظر كل امرئ لمن تكون طاعته
  • قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم
  • إن أتبع إلا ما يوحى إلي
  • قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
  • هدايات سورة الأنعام

مختارات من الشبكة

  • لطائف وإشارات حول السور والآي والمتشابهات(مقالة - آفاق الشريعة)
  • معنى السورة لغة واصطلاحا(مقالة - آفاق الشريعة)
  • تفسير سور المفصل 212 - سورة الأعلى ج 1 - مقدمة لتفسير السورة(مادة مرئية - موقع الشيخ د. خالد بن عبدالرحمن الشايع)
  • جدول متابعة الحفظ للأطفال(مقالة - موقع عرب القرآن)
  • مناسبة سورة الأنفال لسورتي البقرة وآل عمران(مقالة - آفاق الشريعة)
  • موهم التعارض بين القرآن والسنة: (دراسة نظرية تطبيقية) من أول سورة الفاتحة حتى نهاية سورة الأنعام(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • ترجيحات الشنقيطي في أضواء البيان من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الأنعام جمعا ودراسة(رسالة علمية - مكتبة الألوكة)
  • تفسير سورة البروج(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من أسرار الحروف المقطعة(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التوحيد في سورة العنكبوت(مقالة - آفاق الشريعة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب