الخطابة في العصر الأموي ونماذج لها

الخطابة في العصر الأموي ونماذج لها

قامت الدولة الأموية بعد انتهاء الخلافة الراشدة بمقتل سيدنا عليّ بن أبي طالب، يوم 17 رمضان عام 40 هـ، ويعد بدء الدولة الأموية من تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما لمعاوية بن أبى سفيان رضي الله عنهما، في (مسكن) يوم 25 ربيع الأول عام 41هـ، واستمرت حتى معركة " الزاب " التي جرت بين جيوش العباسيين وبني أمية، حيث هُزم مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين، وذلك في 11 جمادي الأولى عام 132 هـ، وبذا فقد دامت هذه الدولة ما ينوف إحدى وتسعين سنة، وقد توالت عليها أسرتان، وكان خلفاؤهما اثني عشر خليفة.

1- الأسرة السفيانية، وقد حكمت ثلاثة وأربعين عاما (21 - 64هـ).

2- الأسرة المروانية، وقد حكمت سبعة وستين عاما (64 - 132 هـ) [1].

ويكاد يجمع المؤرخون للأدب العربي على أن الخَطابة شهدت في العصر الأموي أزهى عصورها، وأنها راجت رواجًا كبيرًا، لاسيما في أول قيام الدولة، ثم في مراحلها المختلفة.

وقد ساعد على هذا توفرُ دواعي الخَطابة في ذلك العصر، والتي كان أبرزها وجود الخلافات المذهبية والأحزاب السياسية منذ فجر الدولة، بل منذ خلافة سيدنا علي كرم الله وجهه، فقد ظهرت الشيعة والخوارج، وكان ثَمّ حزبٌ للإمام عليّ، وآخرُ لسيدنا معاوية، ثم بعد ذلك تتابعت الفتنوالأحداث، فكان استشهاد الإمام الحسين، " ولما وصل خبر مقتل الحسين بن علي إلى الحجاز؛ أعلن عبد الله بن الزبير خلع يزيد، وبدأ يأخذ البيعة لنفسه من الناس [2] "، وكان من أمر ابن الزبير مع الأمويين من الحروب ما كان، كما قامت جماعة من الشيعة بالعراق واتفقوا على أن يأخذوا بثأر الحسين بن عليّ، ويقتلوا مَن قتَله [3].

ثم كانت حركة ابن الأشعث التي خلع فيها يد الطاعة من الخليفة عبد الملك بن مروان، إثر خلاف وقع بين ابن الأشعث والحجاج بن يوسف بعد عام 80 هـ، وغير هذا من الأحداث، فضلا عن أن الخوارج بقوا شوكة في وجه الأمويين، ومصدر إثارة ضدهم.

في مثل هذه الأجواء تروج الخَطابة، ويعمد كل حزب أو فريق إلى التركيز عليها كسلاح إعلاميّ خطير في استمالة الآخرين لصفه، والانتقاص من خصومه.

وقد كان من عوامل قوة الخَطابة أيضا: حركة الفتوحات الإسلامية وتوسعها.

كما ساعد على ازدهار الخَطابة في هذا العصر عوامل أخرى:

" منها: الجدل المحتدم بين الفرق الدينية، ومنها: كثرة الوفود على الخلفاء والولاة، وقيام بعض الوعاظ بالخَطابة في المساجد ووعظ الناس، منذ نصّبهم معاوية لهذا الغرض، ومنها: إقبال البلغاء على القرآن الكريم يحفظون ويدرسون، ونماء الثقافة اللغوية والأدبية في تلك الحقبة، والعناية بحفظ ما خلفه السابقون " [4].

ومما ساعد على ازدهارها كذلك أنه " كانت تُعقد مجالس للمباراة في الخَطابة، والسبق فيها، وكثيرا ما كان يُدعَى الشخص إلى القول مفاجأة، ليُختبَر مقدار بيانه، وقوة جنانه، وحضور بديهته، ونهوض حجته، ومن ذلك ما عقده عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق من مجلس للخَطابة، تبارى فيه خالد بن صفوان، وشبيب بن شيبة، والفضل بن عيسى، وواصل ابن عطاء، وقد نال في ذلك المجلس قصبَ السبق واصلُ بن عطاء " [5].

وكان للخَطابة في ذلك العصر خصائصها الفنية الكثيرة، ومنها [6]:

1- الإعداد، حيث تنم خطب كثيرة عن العناية بإعدادها، والتأني في صوغها والتدبر في ترتيب أجزائها، وتنسيق أفكارها، والتأنق في أسلوبها.

2- افتتاح الخطب كان صورة من افتتاحها في صدر الإسلام في الأعم الأكثر.

فأكثرها مبدوء بالحمد لله والثناء عليه، والصلاة والسلام على رسوله، وبعضها مبدوء بالتهديد والوعيد لتنبئ عن غضب الخطيب وترهيب السامعين بشديد عقابه، كبعض خطب الحجاج، وبعضها مبدوء بالشتم والتوبيخ لأن المقام مقام تقريع وتأنيب، مثل بعض خطب زياد، وكان بعضها يبدأ بالموضوع مباشرة، وغير هذا من الافتتاحيات.

3- بالنسبة لأجزاء الخطبة؛ بعض الخطب قائمة كلها على عَرْض الموضوع، وبعضها مقسمة إلى مقدمة، وعَرْض، وخاتمة.

4- وتمتاز الخَطابة في هذا العصر بمشابهتها الشعر في إبراز المعاني والأفكار، وتوضيحها وتجسيمها في قوالب من التخيل والتضاد، كالتشبيه والاستعارة، والكناية، وعرض الصور المتضادة، والطباق، ونحوها.

5- وأما التعبير الخطابي فيتسم بقوة العبارة وجزالتها، وقصر الجمل، والعناية بالموقع والرنين.

6- وكما كانت الخطب في صدر الإسلام، فإن خطب هذا العصر يغلب عليها كلِّها الإيجاز المعتدل، ويقل فيها التوسط القريب من الطول، وتندر فيها الخطب المسهبة المطولة.

7- وقد تأثر كثير من الخطباء في خطبهم بالقرآن الكريم، فكثر اقتباسُ آيات من القرآن، ووضْعُها المواضع الملائمة لها من الخطبة، كما كان بعض الخطباء يعمدون إلى استمداد بعض مضامين خطبهم من القرآن الكريم.

8- وفي كثير من الخطب كان هناك استشهاد بالشعر، أو اقتباس من عباراته ومعانيه.

وهكذا بدت لنا ملامح الخَطابة في العصر الأموي، وقد ظلت رائجة مزدهرة لما ذكرنا من أسباب ودواع، وخاصة ما كان من أمر الخصومات والثورات التي اعتمدت على الخَطابة، وجعلها وسيلة دعاية وحرب ضد الخصوم.

"ولما هدأت كل هذه الخصومات، واستقر الأمر لبنى مروان؛ انبعث في الشعر نشاط قلل من نشاط الخَطابة وأهميتها، ولكنها لم تنقطع، وقد كان الخوارج حتى آخر الدولة مسعرًا للخَطابة كثيرًا " [7].

ولقد اشتهر في هذا العصر خطباء كثيرون منهم معاوية بن أبي سفيان، وعمرو بن العاص، رضوان الله عليهما، وواصل بن عطاء، وزياد، والحجاج، ومنهم أبو واثلة إياس بن معاوية المزني، وقد أفاض الجاحظ في الحديث عن بلاغة الأخير وفصاحته وجودة فراسته [8]، ومنهم عمرو بن سعيد المعروف بالأشدق، وأبوه سعيد بن العاص بن أمية [9]، ومنهم سُحْبان وائل [10]، وعمر بن عبد العزيز.

من خطب هذا العصر:

أ- خطبة لعمر بن عبد العزيز:

قال ابن عبد الحكم: وخطب عمر بن عبد العزيز الناس فقال: أيها الناس: إنه ليس بعد نبيكم نبي، وليس بعد الكتاب الذي أنزل عليكم كتاب، فما أحل الله على لسان نبيه فهو حلال إلى يوم القيامة، ألا إني لست بقاضٍ، وإنما أنا منفّذ لله، ولست بمبتدع ولكني متبع، ألا إنه ليس لأحد أن يطاع في معصية الله عز وجل، لست بخيركم وإنما أنا رجل منكم، ألا وإني أثقلكم حملا، يا أيها الناس إن أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم، أقول قولي هذا، واستغفر الله العظيم لي ولكم [11].

ب- خطبة للحجاج حين أراد الحج:

يا أهل العراق: إني أردت الحج، وقد استخلفت عليكم ابني محمدًا، وما كنتم له بأهل، وأوصيْته فيكم بخلاف ما أَوْصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار؛ فإنه أوصى أن يُقبل من محسنهم ويُتجاوز عن مسيئهم، وأنا أوصيته أن لا يَقبل من محسنكم ولا يَتجاوز عن مسيئكم، ألا وإنكم قائلون بعدي مقالة لا يمنعكم من إظهارها إلا خوفي، تقولون: لا أحسن الله له الصحابة؛ وإني أعجّل لكم الجواب: فلا أحسن الله عليكم الخلافة، ثم نزل [12].

جـ- خطبة لأبي حمزة الشاري " من الخوارج "

خطب أبو حمزة الشاري بمكة، فصعد المنبر متوكئا على قوس عربية، فخطب خطبة طويلة، قال:

يا أهل مكة؛ تعيرونني بأصحابي، تزعمون أنهم شباب، وهل كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شبابًا؟ نعم شباب والله مُكْتَهِلون [13] في شبابهم، عمِيّة عن الشر أعينهم، بطيئة عن الباطل أرجلهم، قد نظر الله إليهم في آناء الليل متثنية أصلابهم بمثاني القرآن، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقا إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقةً كأن زفير جهنم في أذنيه، قد وصلوا كَلال [14] ليلهم بكَلال نهارهم، أَنْضَاء [15] عبادة، قد أكلت الأرض جباههم وأيديهم وركبهم، مصفرة ألوانهم، ناحلة أجسامهم من كثرة الصيام وطول القيام، مستقلون لذلك في جنب الله، موفون بعهد الله، منجزون لوعد الله، حتى إذا رأوا سهام العدو وقد فُوِّقت [16]، ورماحهم قد أُشْرِعَت [17] وسيوفهم قد انْتُضِيَت [18]، وبرقت الكتيبة، ورعدت بصواعق الموت؛ استهانوا بوعيد الكتيبة لوعيد الله، فمضى الشاب منهم قُدما حتى تختلف رجلاه على عنق فرسه، قد زُمِّلت [19] محاسن وجهه بالدماء، وعُفِّر جبينه بالثرى، وأسرع إليه سباع الأرض، وانحطت عليه طير السماء، فكم من مقلة في منقار طائر، طالما بكى صاحبها من خشية الله، وكم من كف بانت عن معصمها، طالما اعتمد عليها صاحبها في سجوده، وكم من خدّ عتيق وجبين رقيق، قد فلق بعُمُد الحديد؛ رحمة الله على تلك الأبدان، وأدخل أرواحها في الجنان؛ ثم قال: الناس منا ونحن منهم، إلا عابد وثن، أو كفرة أهل الكتاب، أو إمامًا جائرًا، أو شادًّا على عضده [20].