فضل بناء المساجد والحث عليه

فضل بناء المساجد والحث عليه

عن محمود بن لبيد، أن عثمان بن عفان أراد بناء المسجد، فكره الناس ذلك؛ فأحبوا أن يدعَه على هيئته؛ فقال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من بنى مسجدًا لله، بنى الله له في الجنة مثله)).

البناء والزيادة في المسجد النبوي:

في "باب بنيان المساجد" في البخاري بشرح الفتح لابن حجر، (ص85 و86 جـ2 حلبي):

عن صالح بن كَيْسان، قال: حدثنا نافع، أن عبدالله أخبره أنَّ المسجد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مبنيًّا باللبِن، وسقفه الجريد، وعُمُده خشب النخل، فلم يزد فيه أبو بكر شيئًا، وزاد فيه عمر وبناه على بنيانه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم باللبن والجريد وأعاد عُمُده خشبًا، ثم غيَّره عثمان فزاد فيه زيادةً كثيرةً، وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والقَصَّة، وجعل عُمُده من حجارة منقوشة وسَقَفَهُ بالسَّاج.

وهذه قطوف من الفتح:

"ثم غيره عثمان": أي من الوجهين: التوسيع، وتغيير الآلات.

"بالحجارة المنقوشة": بدل اللبِن.

"القَصَّة" الجَصُّ بلغة أهل الحجاز.

"وسَقَفَه" بلفظ الماضي عطفًا على "جعل"، وبإسكان القاف عطفًا على "عمده".

و"الساج": نوع من الخشب معروف، يؤتَى به من الهند...

ثم ذكر أن هذه الزيادة لم تقتضِ الزخرفة، وأنَّ أول من زخرف المساجد الوليد بن عبدالملك.. [وتذكر هذه في التعليقات وفي ص91].

كان بناء عثمان للمسجد النبوي سنة 30 على المشهور، وقيل: في آخر سنة من خلافته، [والمعروف أنه قُتل رضي الله عنه سنة 35].

(من بنى مسجدًا) المسجد: هو المكان المعَدُّ للصلاة.

والتنكير فيه للشيوع؛ فيدخل فيه الكبير والصغير.

ووقع في رواية أنس عند الترمذي: صغيرًا أو كبيرًا.

وزاد ابن أبي شيبة في حديث الباب من وجه آخر عن عثمان: ((ولو كمفحص قطاة))، وهذه الزيادة أيضًا عند ابن حبان والبزار من حديث أبي ذر، وعند أبي مسلم الكجي من حديث ابن عباس، وعند الطبراني في الأوسط من حديث أنس وابن عمر، وعند أبي نعيم في الحلية من حديث أبي بكر الصديق.

ورواه ابن خزيمة من حديث جابر بلفظ: ((كمفحص قطاة أو أصغر)).

• وحمل أكثر العلماء ذلك على المبالغة؛ لأن المكان الذي تَفْحَص القطاةُ عنه لتضعَ فيه بيضَها وترقد عليه - لا يكفي مقداره للصلاة فيه، ويؤيده رواية جابر هذه.

وقيل: بل هو على ظاهره؛ والمعنى: أن يزيد في مسجد قدرًا يحتاج إليه، ولو كثيرًا كزيادة عثمان بن عفان رضي الله عنه في المسجد النبوي، أو قدرًا قليلًا يحتاج إليه تكون تلك الزيادة هذا المقدار الذي هو مفحص القطاة، أو يشترك جماعة في بناء مسجد فتقع حصة كل واحد منهم ذلك القدر.

وهذا كله بناءً على أن المراد بالمسجد ما يتبادر إلى الذهن، وهو المكان الذي يتخذ للصلاة فيه، كما تقدمت الإشارة إليه.

وقوله: (بنى): يُشعِر بوجود بناء حقيقةً، ويؤيده ما في رواية أم حبيبة رضي الله عنها ((من بنى لله بيتًا...))؛ أخرجه سمويه في فوائده بإسناد حسن، وما في رواية عمر: ((من بنى مسجدًا يُذكَر فيه اسم الله...))؛ أخرجه ابن ماجه وابن حبان، وأخرج النسائي نحوًا من حديث عمرو بن عنبسة؛ فكل ذلك مُشعِر بأن المراد بالمسجد: المكان المتخَذ لا موضع السجود فقط، لكن لا يمتنع إرادته؛ إذ بناء كل شيء بحسبه؛ فيدخل في بناء المسجد مساجد البادية التي يحوطونها ولا يكنسونها، وربما ظلَّلوها إن لم تكن في محل له ظل.

ثم وصف الراوي البناء بقوله: (يبتغي به وجه الله تعالى)؛ أي: يطلب به رضا الله تعالى. والراوي هنا هو بُكَيْر - بالتصغير - بن عبدالله بن الأشج، بإسناده إلى عثمان رضي الله عنه كما في الصحيحين من طريقه، بلفظ: قال بكير: حسِبت أنه قال: ((يبتغي به وجه الله))، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري: "هذه الجملة لم يجزم بها بكير في الحديث، ولم أرها إلا من طريقه هكذا، وكأنها ليست في الحديث بلفظها؛ فإن كل من روى حديث عثمان من جميع الطرق إليه - لفظهم: ((من بنى لله مسجدًا...))؛ فكأن بُكَيْرًا نسيها فذكرها بالمعنى مترددًا في اللفظ الذي ظنه؛ فإن قوله: (لله) بمعنى قوله: ((يبتغي به وجه الله))؛ لاشتراكهما في المعنى، وهو الإخلاص" اهـ؛ فصريح كلام الحافظ أن اللفظ الوارد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من رواية عثمان رضي الله عنه هو: ((من بنى لله مسجدًا، بنى الله له مثله في الجنة)).

وجواب قوله: ((من بنى...)) إلخ، هو قوله (بنى الله) عز وجل (له) بيتًا (مثله) في مُسمَّى البيت، حالة كونه (في الجنة)، لكنه في السعة والحسن أوسع وأجمل؛ فهو مما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلب بشر، وقد روى الإمام أحمد بإسناد لين من حديث عبدالله بن عمرو بن العاص مرفوعًا: ((من بنى لله مسجدًا، بنى الله له بيتًا أوسع منه)).

أو المراد بالجزاء: أبنية متعددة؛ أي: بنى الله له عشرة أبنية مثله؛ إذ الحسنة بعشر أمثالها.

والأصل: أن جزاء الحسنة الواحدة بحكم العَدل، والزيادة عليه بحكم الفضل.

• ومن الأجوبة المَرْضِيَّة أيضًا - كما في فتح الباري - "أن المِثْليَّة هنا بحسب الكمية، والزيادة حاصلة بحسب الكيفية؛ فكم من بيتٍ خيرٌ من عشرة، بل من مائة!

أو أن المقصود من المثلية أنَّ جزاء هذه الحسنة مِن جنس البناء لا من غيره، مع قطع النظر عن غير ذلك، مع أن التفاوت حاصل قطعًا بالنسبة إلى ضيق الدنيا وسَعة الجنة؛ إذ موضع شبر فيها خيرٌ من الدنيا وما فيها كما ثبت في الصحيح، وقد روى أحمد من حديث واثلة بلفظ: ((بنى الله له في الجنة أفضل منه))، وللطبراني من حديث أبي أمامة بلفظ: ((أوسع منه))، وهذا يشعر بأن المثلية لم يقصد بها المساواة من كل وجه.

وقال النووي: يحتمل أن يكون المراد أنَّ فضله على بيوت الجنة كفضل المسجد على بيوت الدنيا، وقوله: (في الجنة) يتعلق بـ (بنى) أو هو حال من قوله: (مثله)؛ وفيه إشارة إلى دخول فاعل ذلك الجنة؛ إذ المقصود بالبناء له أن يسكنه، وهو لا يسكنه إلا بعد الدخول، والله أعلم" اهـ.

قال مقيده رحمه الله تعالى:

بناء المساجد لله تعالى مما يلحق المؤمنَ من حسناته بعد موته، كما تقدم في النظائر التي تنفع الإنسان بعد موته عند حديث: ((ما من مسلم[1] يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا..)) إلخ في مبحث حديث: ((كل معروف صدقة))، ومن ذلك ما أخرجه ابن ماجه وابن خزيمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ مما يلحق المؤمن من حسناته بعد موته: علمًا نَشَره، أو ولدًا صالحًا تَرَكه، أو مصحفًا وَرَّثه، أو مسجدًا بناه، أو بيتًا لابن السبيل بناه، أو نهرًا أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته تلحقه بعد موته)) اهـ إلى غير ذلك مما سبق.

وقد ذكر العيني في شرح حديث المتن نحوًا من ثلاثة وعشرين حديثًا في فضل بناء المساجد، من رواية ثلاثة وعشرين صحابيًّا، فراجعها تقف على مخرجيها[2].

[راجعها في شرح العيني لصحيح البخاري، في كتاب الصلاة، في أبواب المساجد، فضل من بنى مسجدًا]، [ص212 جـ4 طبع منير الدمشقي].