• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
 
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | الثقافة الإعلامية   التاريخ والتراجم   فكر   إدارة واقتصاد   طب وعلوم ومعلوماتية   عالم الكتب   ثقافة عامة وأرشيف   تقارير وحوارات   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (10) الرد ...
    محمد تبركان
  •  
    تفيئة الاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في الأحاديث النبوية سندا ومتنا
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    طرق فعالة للاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي
    محمود مصطفى الحاج
  •  
    حول مصنفات وآثار الإمام ابن جرير الطبري (9) بسيط ...
    محمد تبركان
  •  
    تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني طبعة دار البر ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    التحقيق في ملحمة الصديق (7) دلالات وعبر
    محمد صادق عبدالعال
  •  
    بين العبادة والعدالة: المفارقة البلاغية والتأثير ...
    عبد النور الرايس
  •  
    الثقة بالاستشراق
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    الطعن في شخصية النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
  •  
    المجموع في شعر علماء هجر من القرن الثاني عشر إلى ...
    محمود ثروت أبو الفضل
  •  
    المصحف المرتل بروايات أخر غير رواية حفص عن عاصم
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    موقف أبي موسى الأشعري مع جندي من جنوده
    الشيخ عبدالعزيز السلمان
  •  
    النقد العلمي
    أ. د. علي بن إبراهيم النملة
  •  
    المصحف المرتل وفق رواية حفص عن عاصم الكوفي بصوت ...
    الشيخ أ. د. عرفة بن طنطاوي
  •  
    الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم
    أ. د. فالح بن محمد الصغير
شبكة الألوكة / ثقافة ومعرفة / التاريخ والتراجم / تاريخ
علامة باركود

العلم والتعليم في الأندلس

د. أنور محمود زناتي

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 7/8/2015 ميلادي - 21/10/1436 هجري

الزيارات: 102937

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

العلم والتعليم في الأندلس


مجَّد الأندلسيون العلماء والفقهاء ورجال الأدب، وكان لهؤلاء القيادة والريادة في المجتمع الأندلسي[1].

 

أما العلماء فقل من تجده متبحرًا في علم واحد أو علمين، بل فيهم من يعد من الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والأدباء والمؤرخين واللغويين[2].

 

ولم يقتصر الأندلسيون على العلوم العملية، بل كانت لهم دراسات في علوم أخرى[3]؛ كالفيزياء، وعلم العقاقير، والزراعة (علم الفلاحة) الذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة[4].

 

وكان شعب الأندلس شعبًا يقبل على العلم للعلم ذاته، ومن ثم كان علماؤهم متقنين لفنون علمهم؛ لأنهم يسعون إليها مختارين غير مدفوعين بهدف غير التعلم، وكان الرجل ينفق ما عنده من مال حتى يتعلم، ومتى عرف بالعلم أصبح في مقام التكريم والإجلال، ويشير الناس إليه بالبنان[5].

 

وقد أشادت جل المصادر التي أرخت للأندلس بدور الحكام الهام في رعاية الحركة العلمية، وشغفهم الشديد بالعلم؛ فهناك عبدالرحمن الداخل (138 - 172 هـ / 755 - 788 م) قد شكل في عهده قاعدة قوية للحضارة، فكان أعظم حكام الأندلس مكانة في البلاغة والأدب[6]، وسار على نهجه أمراء وخلفاء وملوك الأندلس، من أمثال هشام الرضى (172 - 180 هـ / 788 - 986 م)، الذي تعتبر فترة حكمه فترة حاسمة في مجال التعليم في الأندلس؛ فقد كان مهتمًّا اهتمامًا مباشرًا بالعلم والفقهاء، مانحًا إياهم كل ما يستطيع من حماية وتأييد[7]، وكان له ديوان أرزاق لتوزيع عطاياه، حتى إنه "لم يقتل أحد من جنده في شيء من ثغوره أو جيوشه، إلا وألحق ولده في ديوان أرزاقه"[8].

 

ومن بعده جاء الحكم الربضي الذي عمل بعد القضاء على ثورة الربض الشهيرة على تشجيع العلم والعلماء، حتى الدولة بعد وفاته في عصرها الذهبي علمًا وتعليمًا وثقافة، وهو عصر عبدالرحمن الأوسط، الذي يمكن أن نطلق عليه "عصر النجوم اللامعة"، ويكفي أن نورد بعض الأسماء اللامعة لنتبين مدى ما وصل إليه هذا العصر من ازدهار ورقي.


فظهر في ذلك العصر الفقيه يحيى بن يحيى الليثي، المعروف باسم "عاقل الأندلس"، الحكيم عباس بن فرناس، والموسيقي المغني زرياب.

 

لذلك لا غرابة إن انتشرت المكتبات والكتب في جميع أنحاء البلاد، وكثر عشاقها، وكثر التأليف والمؤلفون، ولا سيما أنه وُجد حكام شجعوا العلم، وهم أنفسهم كانوا مُثلًا عليا في حب الكتب وجمعها، والاهتمام بها؛ فقد اشتهر عبدالرحمن الناصر بحبه للكتب، حتى بلغت شهرته في ذلك الإمبراطور البيزنطي، الذي رأى أغلى هدية يمكن أن يقدمها إليه هي كتاب "ديسقورس"[9].

 

ولن نجد مثلًا آخر أروع من الحكم المستنصر، الذي يحتل مكانة خاصة بين الحكام المثقفين، ووصفوه بأنه كان "جمَّاعًا للكتب"، وكان يرسل المبعوثين إلى القاهرة ودمشق وبغداد والمدن الأخرى التي تهتم بالكتب؛ وذلك لشراء الكتب بأثمان عالية، حتى استطاع أن يجمع نحو 400 ألف مجلد لمكتبته[10]، بل ويروى أنه سجل عليها ملاحظات غاية في الدقة، كما أنشأ دارًا لنسخ الكتب، وأودعها بمدينة الزهراء[11].

 

وأكد ابن حيان على أن الحكم المستنصر قد أمر بـ:"تحبيس حوانيت السراجين بسوق قرطبة على المعلمين الذين قد اتخذهم لتعليم أولاد الضعفاء والمساكين بقرطبة"[12]، ذا يعني أن الدولة قد تبنت تخصيص مصروفات للمدارس[13]، وقد بلغ عدد المدارس 27 مدرسة مجانية، منها ثلاث مدارس ازدهرت في المساجد، و24 مدرسة في أحياء قرطبة المختلفة[14].

 

ويذكر ابن حزم في جمهرته نقلًا عن تليد الخصي: أن عدد الفهارس التي فيها تسمية الكتب أربع وأربعون فهرسة، وفي كل فهرسة خمسون ورقة، ليس فيها إلا ذِكر أسماء الدواوين لا غير[15].

 

ومما ساعد على انتشار الكتب وازدهار الحياة العلمية انتشار صناعة الوراقة في الأندلس؛ حيث تولى الوراقون Librerias نسخ ما يظهر من مؤلفات، كما اشتهرت الأندلس بمصانع الورق، وتميزت بهذا الإنتاج بعض المدن، مثل: غرناطة وبلنسية وطليطلة، وشاطبة، وقد حاز مصنع شاطبة شهرة واسعة في صناعة الورق الجيد[16].

 

وأسس العرب في الأندلس الكتاتيب لتعليم الصبيان اللغة العربية وآدابها ومبادئ الدين الإسلامي، على غرار نظام الكتاتيب في المشرق العربي، واتخذوا المؤدبين يعلمون أولاد الضعفاء والمساكين اللغة العربية ومبادئ الإسلام[17].

 

المناهج الدراسية:

أما المناهج الدراسية في الأندلس فقد أشار إليها ابن خلدون بقوله:

(وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة، وجعلوه أصلًا في التعليم، فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم الولدان رواية الشعر، والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجربة الخط والكتابة... إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شد بعض الشيء في العربية والشعر وأبصر بهما، وبرز في الخط والكتاب، وتعلق بأذيال العلم على الجملة[18].

ويتلقى الأطفال العلم منذ صغرهم؛ إذ كان ميسورًا، يؤتى لهم بالمدرس إلى البيت، وإلا أرسل بهم إلى الكتاب الأقرب إلى مسكنه، وتخضع هذه المدارس الابتدائية نظريًّا لإشراف "المحتسب"، ويجمع المعلم أو المؤدب عددًا محدودًا من الأطفال في مكان صغير مفتوح على الشارع، يطلق عليه اسم "المصرية"، يدرس لهم بأجر برنامجًا معروفًا غير مكتوب، تحدده التقاليد، وبعقد محترم منه ومن ولي الطفل، وفي هذه المرحلة يحفظ الطفل جانبًا من القرآن الكريم، ويحفظ قصائد من الشعر، ومقتطفات من النثر، ويدرس شيئًا من النحو وقليلًا من الحساب، والكتابة والقراءة على الطريقة "الجملية"، ويبدو أنها لم تكن مقبولة من الكافة، ويدفع الأجر للمعلم في كتابه، أو جاء إلى البيت، طبقًا للعقد، ويكون سنويًّا، ويتضمن المادة أو المواد المطلوب تعليمها، وشكل التعليم، والزمن المخصص لها، وشروط دفع النفقات من مال يدفع آخر العام، أو مواد غذائية من دقيق وزيت تدفع شهريًّا، ومن العادات المتأصلة أن تقدم الهدايا للمعلم في عيدي الأضحى والفطر، وأخرى أجل وأكبر حين يختم الطفل القرآن[19].

 

ويتردد على بيوت القادرين، غالبًا، أكثر من معلم لتربية أطفالهم، وأحيانًا يقع الاتفاق على إكمال العمل، يقوم المعلم بتعليم الصبي، مقابل أجر معلوم، مادة معينة، أو مواد متعددة، وفي هذه الحالة يلزم ولي الأمر أن يقدم تقريرًا وافيًا عن عقلية الصبي وقدراته الذهنية.

 

ورغم أن التعليم أهلي، كانت المدارس المجانية كثيرة، ينفق عليها من ريع الحوانيت والعقارات والأراضي التي أوقفها الحكم الثاني، وآخرون غيره، وأسهم الشعب بدوره، يجمع الهبات، ويدعم المدارس، بعيدًا عن رقابة الدولة وتدخلها في النظم أو المناهج، ما دامت لا تستهدف نشر أفكار ضارة بأمن المجتمع وهدوئه، وقد تحقق في قرطبة المثل الأعلى الذي نطمح إليه: أن يكون التعليم الابتدائي مجانًا وإجباريًّا؛ مجانًا: لأن العاجزين لم يكونوا يحرمون منه لعجزهم، وإجباريًّا: بضغط من المجتمع نفسه، دون حاجة إلى أمر يصدر أو قانون يشرع؛ لأن التجار أصحاب الحرف والمصانع يرفضون أن يقبلوا في حوانيتهم عمالًا لا يعرفون القراءة والكتابة، حتى ولو كنت مهنهم لا تحتاج إليها، فإذا بلغ الطفل سن الحلم انتقل إلى مصنع أو متجر ليعمل، أو يواصل تعليمه إذا سمحت له ظروفه بذلك، وفيها يحضر الطالب المواد التي تعجبه، على الأستاذ الذي يطمئن إليه، ويقرأ في الكتاب الذي يراه نافعًا ومفيدًا، ويتعمق في درسه بالقدر الذي يسمح له به ذكاؤه ورغبته وإمكاناته، ومن الصعوبة تحديد متى يبدأ التعليم في المرحلة الأعلى ومتى ينتهي، وليس من الممكن كذلك تحديد المادة، أو المواد، التي يبدأ طلاب التعليم بدراستها: القرآن، أو الرياضيات، أو الطب، أو اللغة، أو الأدب؛ فقد كان الطلاب أحيانًا يجمعون بين أكثر من مادة في الوقت نفسه، ولكن يمكن القول: إن الطلاب كانوا يبدؤون دراسة النحو والتعمق فيه؛ ليعينهم على فهم بقية المواد الأخرى، وتليه دراسة المواد الدينية؛ من فقه وحديت وتفسير وأصول[20].

 

وكان هناك الطلاب المنتسبون، وهم الذين لا تمكنهم ظروفهم من حضور الدرس، فيعتمدون على الكتاب، وإذا وثقوا من أنفسهم تقدموا للأستاذ ليجيزهم، ويعتمد الطلاب على ذواكرهم كثيرًا، وكان فيهم من يحفظ آلاف القصائد من الشعر، ومن يحفظ كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني كاملًا، وفيه تتعدد الروايات وتتشابه ولا رابط بينها، ويتنوع محتواه من شعر ونثر وحكايات، ومن يحفظ القرآن لا يغيب عن ذاكرته حرف واحد منه، ومن يحفظ موطأ مالك، أو مدونة سحنون، أو ديوان المتنبي، أو كتاب الكامل للمبرد، نعم، وكان في الأندلس من يحفظ هذا دون حاجة إلى أن يكون عالمًا أو متخصصًا، ويقص علينا ابن بشكوال أنه كان في سوق قرطبة باعة عنب وتين يستطيع الواحد منهم أن يقرأ من الذاكرة أمامك كتاب "معاني القرآن" لأبي جعفر النحاس، أما أولئكم الذين لا تواتيهم ذواكرهم فيشعرون بخيبة أمل مريرة، ويحاولون ما استطاعوا أن يزيدوها حدة بالأدوية، وأشهر هذه شراب "البلاذر"، ويتخذ من ثمار شجرة هندية، يصفه الأطباء، ويتناوله القادرون، ليجعل ذواكرهم أشد حدة، وأصفى صفحة، وفيما بعد أسرفوا في الحفظ، وأقلوا من التفكير، وكان ذلك، فيما لحظ ابن خلدون، وراء تدهور الثقافة والعلم في أخريات أيام الأندلس؛ لأن المعرفة لا تتقدم بالحفاظ عليها، وإنما بتعهدها إنماءً وتجديدًا، وكان العمل بالتعليم العالي مناط تقدير المجتمع واحترامه، ويرفع العاملين فيه إلى مستوى كبار القوم، ممن جاءهم الجاه وراثة، وأساتذته في مستوى بقية الوظائف الكبرى عسكرية أو مدنية؛ كالولاة، والقضاة والقادة، ولكنها مهنة تميزت بأنها مفتوحة الأبواب أمام كل ذكي، وكان يعمل فيها من ينتسبون إلى طبقة الخاصة حبًّا في العلم، وطلبًا للمزيد من الجاه، والقادمون من تحت يجدون فيها الأمن والحماية والطريق إلى الشهرة، وعادة تلتقط الدولة خيرة الأساتذة وترشحهم للمناصب العالية، جلبًا لرضا العامة، وكسبًا لثقـتها، فلم تكن هناك أحزاب ولا صحافة ولا مجامع علمية ولا برلمان يلمع فيها الناس، وتظهر الكفاءات[21].

 

ومن جانب آخر، لم يكن لدى الأدباء وكبار الكتاب، في وقت لم تكن عرفت فيه الطباعة، من وسيلة لنشر آرائهم وأفكارهم غير أن يجدوا لهم حلقة في المسجد الجامع، وهي دروس لم تكن تجذب الطلاب والشباب فحسب، وإنما كانت تتجه إليها صفوة المجتمع القرطبي، ويقص علينا أحد تلاميذ أبي وهبة عبدالأعلى، يقول: كان أستاذي يقيم قريبًا من مقبرة قريش في قرطبة، في بستان له يقوم هو نفسه على غرسه، وذات يوم بعد أن قدم طعام الغذاء لتلاميذه، جاء من يطلب الإذن بالدخول، وكان القادم الوزير هاشم بن عبدالعزيز وأقرب الناس إلى الأمير، وقد رحب به الأستاذ، وعندما دخل وجدنا نتناول خضرًا مطبوخة، وهي مما غرس في الحديقة، وقد ارتبك صاحب البيت قليلًا قبل أن يدعوه، خشية أن يكون الطعام دونه، ولكن هاشمًا بادره، ألا تدعوني لمشاركتهم، أو تخاف أن آتي على المائدة بأجمعها؟ فقال: هي دونك!، فرد: ولماذا؟ فشمر على ساعده، واقتحم المائدة معنا، وبعده انتحى به جانبًا، فاستشاره في بعض القضايا الفقهية وتلقى رأيه، وعندما خرج هممت بالوقوف تحية، ولكن الأستاذ أشار إلي في قسوة أن أجلس، وبعد أن ودعه عاد فعتب علينا في شدة أننا أسرفنا في الأدب والمجاملة، ولم نكن عاديين[22].

 

وكانت هناك شروط معينة يجب توافرها في الأستاذ، أولها العلم، ويحرص الأستاذ على أن يحصله بكل جهد ممكن له: يذهب إلى المشرق ليدرس هناك، وكان تعبير "وله رحلة" يعادل في لغتنا الحديثة "عائد من بعثة"، وموضع زهو من صاحبه، وتقدير من المجتمع، ونلتقي به وصفًا لعدد من العلماء الكبار، وأن يختلف إلى مجالس كبار العلماء في قرطبة، والقادمين من المشرق بخاصة، وأن يحرص على اقتناء، أو على الأقل دراسة، ما يؤلف من الكتب لحظة صدورها، وحين استقامت الحياة الثقافية، وتكونت شخصية الأندلس، وأحس بذاته - استُغني عن الرحلة، وعن الأستاذ الوافد، بل أقسم عالم من إشبيلية أن يذهب إلى القاهرة، وأن يجلس في صحن الأزهر، وأن يدرِّس "الكتاب" لسيبويه؛ ليثبت أن الأندلسيين لم يعودوا دون المشارقة؛ تمكنًا من العلم، واستيعابًا له.

 

والصفة الثانية: التقوى، والعالم غير التقي لن يجد طلابًا يجلسون إليه ويتلقون العلم منه، وكلما كان الأستاذ مالكي المذهب، كان إقبال الطلاب عليه أشد، وكثيرون من الأندلسيين ذهبوا إلى المشرق ورأوا مذاهب فقهية أخرى تحمسوا لها، وعادوا على أمل أن يبشروا بها، فلما عرف الطلاب منهم هذا، انصرفوا عنهم واحدًا وراء آخر، فبقُوا وحدهم لا يجدون من يستمع إليهم[23].

 

وإلى جانب العلم والتقوى ثمة صفات أخرى يود الناس والطلاب أن تكون مما يتحلى به المعلم، منها: الصدق، واستقامة العادات، وعليه أن يكون في درسه لطيفًا واجتماعيًّا، سخيًّا في الشرح والتعليق والتفسير، لا يحجب عن طلابه شيئًا، وأن يكون منهم بمنزلة الأب أو الأخ الأكبر، وكان الأساتذة كذلك بعامة، فتميزت علاقاتهم بطلابهم بعطف حنون، ومودة صادقة.

 

وليس سهلًا أن يصبح المرء أستاذًا معترفًا به وله طلابه إلا بعد أن تتقدم به السن في المهنة، أو يبلغ شأوًا كبيرًا من الشهرة والذيوع في وظيفة عامة ذات طابع ثقافي، قاضيًا أو مفتيًا أو مشاورًا أو واليًا، وليس ثمة سن معينة يتقاعد عندها الأستاذ، والطلاب وحدهم هم الذين يقررون، فإذا تبينوا في أستاذهم خرف الشيخوخة، أو طفولتها، بدؤوا يفارقونه، وحينئذ يحيل نفسه إلى التقاعد، ولم يكن للأساتذة زي محدد، ولكن الأجلاء منهم يضعون الطيلسان على رؤوسهم، وكان ابن حبيب، الفقيه المالكي، يذهب إلى الدرس في أحسن أزيائه، وهي من نسيج يمني، على حين يرى آخرون أن أفضل زي يرتديه الأستاذ أن يكون في رأسه شيء يقوله للطلاب، ويزاول الأساتذة إلى جانب التدريس مِهنًا أخرى تدر عليهم رزقًا في الحياة، ويلقى الواحد منهم طلابه في بستانه أو حانوته أو مصنعه، وآخرون يلقون دروسهم في المسجد الجامع أخرة اليوم، بعد صباح جاهد من أجل لقمة العيش، وقبول الأجر من الطلاب لا يلجأ إليه الأستاذ إلا عند الضرورة القصوى، وطلبه أو قبول الهدية أمرٌ مخجل على أية حال[24].

 

وقد انتشرت الحلقات التعليمية في أغلب جوامع الأندلس، وبشكل خاص في المدن الرئيسية؛ كقرطبة وطليطلة وإشبيلية، ولقد وجد في كل جامع مكتبة غنية بمختلف فروع المعرفة الإنسانية.

 

وقد ألف الأندلسيون في علوم القرآن والحديث والفقه، والجدير بالذكر أن المذهب الذي كان عليه أهل الأندلس في تلك الفترة هو المذهب المالكي[25].

 

كما ألف أهل الأندلس في القضاء واللغة وآدابها وعلومها والمعاجم والتراجم، والتاريخ والسيرة والجغرافية، وألفوا في علوم الطب والحساب والهندسة والفلَك والكيمياء والمنطق والفلاحة والملل والنحل، وفي الفلسفة والموسيقا، بحيث لم يتركوا حقلًا من حقول العلم والمعرفة إلا طرقوها[26].

 

وممن اختلفت منزلتهم باختلاف سماتهم واتجاهاتهم الشخصية: الشعراء؛ فقد كان منهم طبقة بارزة أسهمت في السياسة العامة للدولة، وظفرت لذلك بالحظوة عند الأمراء[27].

 

وكان من أهم مظاهر الحياة الثقافية في الأندلس "ظهور الروح أو الشعور بالأندلسية، وقد بدا واضحًا في عنايتهم بجمع تراثهم وكتابة تاريخ الأندلس، والترجمة لأعلامها في جميع الميادين"[28]، وكانوا شديدي التعصب لبلادهم، نرى ذلك من أنسابهم، فلا نكاد نجد عالمًا ولا أديبًا إلا وينسب لبلده[29].

 

أما عن الحالة الثقافية إبان عصر الطوائف، فالعجيب أنه، على النقيض، لم تكن الثقافة الأندلسية يومًا أشد إشعاعًا وأقوى خصوبة[30] كما كانت عليه في تلك الفترة.

 

ويجمع الدارسون على ازهار الحركة الثقافية في عصر ملوك الطوائف؛ وذلك راجع إلى تداعيات وظلال العصر السابق، بما يؤكد أن الظواهر الفكرية في تطورها وفي أفولها تحتاج إلى فترة زمنية طويلة[31]؛ ففي الغالب تكون الأزمة "تحديًا" يوجب "الاستجابة" حسب مفهوم "أرنولد توينبي"، وغالبًا ما تناط النخبة المفكرة بريادة الاستجابة على الصعيد المعرفي[32].

 

وقد كان كل ملك من ملوك الطوائف يحاول أن يجعل من مملكته ملتقى للشعراء والأدباء والمغنين، ونشطت بذلك تجارة الرقيق، واجتهد النخاسون في تعليم الجواري Las esclavas الروميات الغناء، وضروبًا أخرى من الثقافة؛ لترتفع أجورهن، وكثر الطلب على الجواري المغنيات؛ فقد دفع هذيل بن رزين صاحب السهلة في جارية ابن الكتاني ثلاثة آلاف دينار[33].

 

انتشار المذهب المالكي في الأندلس:

منذ دخل الإسلام الأندلس وأهلها على مذهب الأوزاعي[34]، وكان دخول المذهب المالكي إلى الأندلس في حياة الإمام مالك نفسه؛ وذلك بفضل من درسوا عليه من تلاميذه الأندلسيين، ونقلوا كتابه " الموطأ"، وهم على التوالي: الغازي بن قيس (ت 199/ 815) [35]، وزياد بن عبدالرحمن اللخمي الملقب بشبطون[36]، وهو أول من أدخل مذهبه في الأندلس (ت204/ 819)، ويحيى[37] بن يحيى الليثي (ت234/ 848) [38].. وساهم غيره من الفقهاء في انتشار المذهب المالكي أيضًا، مثل: عيسى بن دينار الغافقي الطليطلي[39].

 

ويكمن أثر المذهب المالكي في الأندلس في كونه أهم المحاور التي دارت حولها المؤلفات الأندلسية المبكرة، شرحًا وتوضيحًا لكتاب الموطأ، ودراسة لرجاله وأسانيده، ودفاعًا وانتصارًا له، وتأليفًا حول المذهب بشكل عام[40].

 

وفي هذا الصدد يذكر القاضي عياض ما نصه:

"وأما أهل الأندلس فكان رأيهم منذ فتحت على رأي الأوزاعي، إلى أن رحل إلى مالك زياد بن عبدالرحمن، وقرعوس بن العباس، ومن بعدهم؛ فجاؤوا بعلمه، وأبانوا للناس فضله"[41].


ثم انتشر المذهب بفضل تأييد ومناصرة الأمير عبدالرحمن بن الحكم، الذي جعل الأمر ليحيى بن يحيى الليثي (ت 234 هـ)، وبفضله استحكم المذهب المالكي في الأندلس، وفي ذلك يقول ابن حيان: "وغلب يحيى بن يحيى جميعهم على رأي الأمير عبدالرحمن، وألوى بإيثاره، فصار يلتزم من إعظامه وتكريمه وتنفيذ أموره ما يلتزم الوالد لأبيه، فلا يستقضي قاضيًا، ولا يعقد عقدًا، ولا يمضي في الديانة أمرًا إلا عن رأيه وبعد مشورته"[42].

 

وفي النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي جاء قاسم بن محمد بن سيار بالمذهب الشافعي من المشرق، وانصرف إلى نشره عن طريق الدرس والتأليف، وكان يلقي دروسه في المسجد الجامع، ووجد رعاية من الأمير محمد الأول، الذي عينه مؤلفه الخاص؛ حماية له من علماء المالكية، وعاش المذهب الشافعي في الظل طوال أيام عبدالرحمن الناصر؛ لأن ابنه الأمير عبدالله، وكان شافعيًّا، اتهم بالاشتراك في مؤامرة لخلع أبيه الناصر؛ لأنه بايع ابنه الحكم بولاية العهد دونه، وقد فشلت المؤامرة، ولقي عبدالله حتفه على يد أبيه، وكان لذلك أثره السيئ على المذهب الشافعي؛ فتوقف نشاطه حتى أيام الحكم المستنصر، الذي كان يحسن وفادة القادمين إلى الأندلس من أهل الأدب المشارقة، وبينهم عدد من شيوخ المذهب الشافعي، فانتعش المذهب الشافعي من جديد، ولكنه انكمش ثانية في عهد المنصور بن أبي عامر، وكان حاكمًا واقعيًّا؛ فرأى من صالحه أن يجاري فقهاء المالكية ليكسب تأييدهم، وفيما بعد سوف يصبح ابن حزم واحدًا من أتباعه، قبل أن يتحول إلى المذهب الظاهري [43].

 

ودخل المذهب الظاهري الأندلس في الوقت الذي دخل فيه المذهب الشافعي تقريبًا، على يد عبدالله بن قاسم بن هلال (ت 272هـ = 885م)، واجتهد - رغم أنه شافعي - في نشر المذهب الظاهري، ويبدو أنه لم يوفق كثيرًا فيما رمى إليه، وتعرض الظاهرية لمثل ما تعرض له الشافعية من مضايقات علماء المالكية، وأول شخصية ظاهرية نلتقي بها ذات مقام وتأثير منذر بن سعيد البلوطي، وتلقى أصوله في رحلة له إلى المشرق، وظل عليه حتى وفاته عام 355هـ - 966م، ثم ضعف صوت الظاهرية إلى أن عاد قويًّا مع ابن حزم العظيم[44].

 

ومع وصول كتب الجاحظ إلى الأندلس وشيوعها على نحو خفي بين مجموعة من المثقفين، عرفت قرطبة عددًا محدودًا من المعتزلة، ولكننا في النصف الثاني من القرن العاشر لا نكاد نعثر لهم على أثر[45].

 

والذين جاؤوا الأندلس من الخارج لنشر هذا المذهب أبعدوا منه، مثلاً وصل قرطبة أبو الطيب بن أبي بردة عام 361 هـ = 971 م، وأحسن الحكم الثاني استقباله كواحد من كبار علماء الشافعية على أيامه، ولكن ما إن علم أنه من المعتزلة حتى أصدر قرارًا بإبعاده، ولكن ابن حزم يقول لنا: إن وادي بني توبة كان كله معتزليًّا، وربما ارتبطت فكرة المعتزلة بالزهد، لقد كان الطريق الوحيد، فيما يرى أسين بلاثيوس، أمام الذين يرغبون أن يبشروا بأفكارهم دون أن يعرضوا أنفسهم للاضطهاد والملاحقة أن يزهدوا وينسكوا في "الروابط"؛ لأن هذه الخلوات تمتعت بمهابة جليلة لدى الحكام والفقهاء والعامة، وكانت تقع خارج المدينة، في الجبال أو الغابات، وتجري الحياة فيها على نحو زاهد، ويطلق على سكانها اسم: زاهد أو ناسك أو عابد أو صوفي، وآخرون من الزهاد ظلوا بين العامة، وتميزوا بالتقشف، واحتقار الترف، وإهمال الأناقة، وعاشوا حياة رقيقة، يمتهنون أعمالاً متواضعة، ويشاركون في الجهاد.

 

وكان الفيلسوف ابن مسرة أوضح شخصيات هؤلاء العباد، وأقام خلوة له في جبل قرطبة، على مقربة من العاصمة، وعرف بالجبلي، وفي ثياب زاهد خاشع بدأ يتأمل أفكار المعتزلة، ويبني لنفسه فلسفة جديدة، راح يبشر بها بين عدد محدود من تلاميذه، وفي البدء، بتأثير من حياته المستقيمة، ونسكه الصادق، وتقواه الخاشعة، كسب إلى جانبه قلوب القرطبيين، ثم بدأ الهمس: إنه معتزلي يبشر بمذهب فلسفي جديد، بينه وبين الإلحاد خطوة واحدة، وأحس ابن مسرة بالهمس، وبما يجري حوله وخطورته، فرحل إلى المشرق، وأدى فريضة الحج، وبعده عاد إلى خلوته، وباشر حياته الزاهدة ودروسه، وضيق الحياة، ودع الدنيا عام 319 هـ = 931 م، وقد مهد الطريق لفكر فلسفي حر، ومن بعده واصل تلاميذه إشاعة فكره، ونشر كتبه، وتعرض لمذهبه ابن حيان في الجزء الخامس من المقتبس الذي نشره بدرو شالمتا، من كتاب "المقتبس" لابن حيان، ويضم نصوصًا كثيرة، ذات فائدة قصوى في توضيح مذهب ابن مسرة وتحديد مساره[46].

 

أما وضع الأقليات فنجد نصارى الأندلس انتشرت بينهم اللغة العربية؛ فقد دعوا بالمستعربين Los Mozarabes؛ لمعرفتهم بها واستعمالهم لها في أمورهم الدينية والدنيوية، "وكانت سماحة الإسلام وسلاسة اللغة العربية والمعاملة الكريمة التي تعامل بها الداخلون الأولون مع المعاهـدين من أسـباب ظاهرة الاستعراب السريعة التي حصلت بعد قرن أو يزيد قليلًا من دخول الإسلام إلى شبه الجزيرة الأيبيرية"[47].

 

وقد شكا بعض الرهبان من إقبال أبناء ملتهم على تعلم اللغة العربية وولعهم بآدابها، وشكوى الراهب القرطبي Alvaro معروفة، وقد جاء فيها أن إخوانه في الدين يجدون لذة كبرى في قراءة أشعار العرب وحكايتهم، وأن الموهوبين من شبان النصارى لا يعرفون إلا لغة العرب وآدابها، ويؤمنون بها، ويقبلون عليها في نهم، وينفقون أموالًا طائلة في جمع كتبها[48].

 

ومن أغرب ما يذكر أن الدواوين الحكومية كانت تعطل يوم الأحد، جاء في المقتبس لابن حيان: "وكان أول من سن لكتاب السلطان وأهل الخدمة تعطيل الخدمة يوم الأحد من الأسبوع والتخلف عن حضور قصره قومس بن أنتنيان كاتب الرسائل للأمير محمد وكان نصرانيًّا، ودعا إلى ذلك لنسكه فيه، فتبعه جميع الكتاب؛ طلبًا للاستراحة من تعبهم، والنظر في أمورهم، فانتحوا ذلك، ومضى إلى اليوم العمل عليه[49].

 

وأما يهود الأندلس فقد ظهر فيهم كتاب وشعراء ومؤلفون باللغة العربية، ومن المعروف أنه كانت لهم ثقافتهم، ولكنها نبعت من موارد الثقافة الإسلامية ودونت باللغة العربية، وتأثر اليهود بالثقافة العربية، واقتباسهم منها وتقليدهم لها يبدو أول ما يبدو في عناوين كتبهم التي ألفوها بالعربية طوال العهد الإسلامي في نحو العبرية وبلاغتها وعَروض شعرها وموشحها، ومنها - على سبيل المثال - كتاب "الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل" ليهودا ابن ليفي الطليطلي[50].

 

المرأة:

واحتلت المرأة في عصر الطوائف مكانة عظيمة؛ وقد ألف فيها الأندلسيون كتبًا، أشهرها "طوق الحمامة" لابن حزم، وابن حزم هذا الذي يعد مثلًا رائعًا في سعة المعارف وتنوع الثافة، قد أشرفت النساء على تربيته.

 

وكان لانتشار الفروسية بالأندلس أثر عظيم في تكريم المرأة وتبجيلها، وكانت السيدات المسلمات يؤلفن عنصرًا بارزًا بين المشاهدين في الميادين التي كانت تقام بالعاصمة[51].

 

اللغة:

كان مع هذا التعدد في الأديان بالأندلس تعدد في اللغات؛ فإلى جانب اللغة العربية التي كانت لها السيادة وجدت لغة عجم الأندلس، الذين ظل عدد منهم على نصرانيتهم، ولكنهم - كما أسلفنا - تعربوا وأصبحوا يدعون بالمستعربين Los mozarabes، وكانت العجمية أو اللاطينية، كما سماها ابن حزم، مسموعة ومعروفة لدى عامة أهل الأندلس وخاصتهم باستثناء أهل قبيلة بلي، الذين يقول فيهم ابن حزم: "وهم هناك إلى اليوم على أنسابهم لا يحسنون الكلام باللاطينية، لكنه بالعربية فقط، نساؤهم ورجالهم"، وتوجد آثار هذه اللاطينية أو الرومانثية في خرجات الموشحات وغيرها[52].

 

وكانت اللغة العربية الفصحى اللغة القومية، ولأنها لغة ثقافة ووعاء حضارة لم توجد على بطحاء شبه الجزيرة الأيبيرية لغة أخرى تدخل معها في صراع، أو تقاوم زحفها، ولأنها لغة القرآن فرضت نفسها لغة للإدارة أيضًا، وأصبحت لغة الحديث في اجتماعات الأصدقاء المثقفين، وفي "الصالونات الأدبية"، وتحرير الرسائل والوثائق الرسمية، وفي الإبداع الأدبي شعرًا ونثرًا، ولغة التعليم بنوعيه، المبتدئ والعالي على السواء، وفي العلاقات الدولية، ومع المشرق بخاصة، أفرادًا أو على مستوى الدول، وكان التمكن منها شرطًا لتولي أي من المناصب العامة، والتفوق فيها الطريق الوحيد إلى النبل المكتسب والوظائف العليا، ومن ثم كان على الأندلسيين من غير المسلمين، يهودًا أو مستعربين، أن ينبغوا فيها إذا أرادوا أن يجدوا لهم مكانًا مرموقًا تحت شمس الخلافة، ونعرف من بينهم أدباء وشعراء كانوا يكتبون فيها شعرًا جميلًا ونثرًا راقيًا، ويعبر عن هذا الواقع زفرة أرسلها ألفارو مطران قرطبة، عام 854 م؛ أي: قبل الفترة التي نعرض لها بنحو قرن كامل، ولما يمضِ على الفتح الإسلامي غير مائة وأربعين عامًا، يقول: "من الذي يعكف اليوم بين أتباعنا من المؤمنين على دراسة الكتب المقدسة، أو يرجع إلى كتاب أي عالم من علمائها، ممن كتبوا في اللغة اللاتينية؟ من منهم يدرس الإنجيل أو الأنبياء أو الرسل؟ إننا لا نرى غير شبان مسيحيين هاموا حبًّا للغة العربية، يبحثون عن كتبها ويقتنونها، يدرسونها في شغف، ويعلقون عليها، ويتحدثون بها في طلاقة، ويكتبون بها في جمال وبلاغة، ويقولون فيها الشعر في رقة وأناقة، يا للحزن! مسيحيون يجهلون كتابهم وقانونهم ولاتينيَّتهم، وينسَون لغتهم نفسها، ولا يكاد الواحد منهم يستطيع أن يكتب رسالة معقولة لأخيه مسلِّمًا عليه، وتستطيع أن تجد جميعًا لا يحصى يظهر تفوقه وقدرته وتمكنه من اللغة العربية"[53].

 

علم التاريخ في الأندلس:

وقد نال علم التاريخ من الأندلسيين كل عناية واهتمام، وأصبحت الدراسات التاريخية ثمرة ناضجة، وموضع الدرس والإقبال من الطلاب في مختلف جوانبه، بدءًا بأيام العرب القديمة، وظلت تروى شفاهًا بالطريقة التقليدية، أو المدونات التي تسجل الأحداث شهرًا فشهرًا، وعامًا فعامًا، وتترجم للأعلام في السياسة والدين والأدب، أو تختص بتدوين الأحداث التي وقعت في بلد ما، أو لشعب ما، أو لجنس ما، وانتهاءً بتلك التي تبلغ قمة الرقي، فتهتم بدراسة العلاقات الاجتماعية، بل وفلسفة التاريخ[54].

 

وتمثل التيار الإبداعي في الفكر التاريخي في عدد من المؤرخين الذين خرجوا من رحم المذهب السني نفسه، وهم أتباع المدرسة الحزمية التي جمعت بين العقل والنقل، بين الرواية والدراية، ونظرًا لاضطهاد أعلام هذه المدرسة، لم يقر لإبداعاتهم الرواج؛ إذ اعتبروا في نظر السلطة ومؤرخي المحدثين "أهل بدع"،ورغم ذلك، نتيجة لتعاظم المد الليبرالي في العالم الإسلامي بأسره، وتأثر الأندلس به، فقد انعكست آثاره الإيجابية على مؤرخي الأندلس عمومًا، من المحافظين والمبدعين في آن[55].

 

وانعتق علم التاريخ من إسار المصادر اللاهوتية باندثار دور "المؤرخ - المحدث"، وإفساح المجال للمؤرخ الفقيه والتاجر والوراق والكاتب والطبيب والفيلسوف، الأمر الذي أفضى إلى تحويل العلم من "الرواية" إلى "الدراية"[56].

 

فكان من البديهي أن يزدهر الفكر التاريخي إبان تلك الحقبة التي شهدت "القرن الذهبي" في تاريخ الفكر الإسلامي[57].



[1] Juan Vernet Gines, Literatura arabe (Barcelona,) p.115،

[2] مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، ج3، مطبعة الاستقامة، ط1، 1940، ص 331.

[3] مصطفى الشكعة: الأدب الأندلسي، دار العلم للملايين، ط5، 1983، ص 71.

[4] راجع: ابن بصال: كتاب الفلاحة، ص11- 36.

[5] الشكعة: الأدب الأندلسي، مرجع سابق، ص 71.

[6] ابن سعيد: البيان المغرب: ج2، 58.

[7] محمد عبدالحميد عيسى: تاريخ التعليم في الأندلس، دار الفكر العربي، ط1، 1982 م، ص 81.

[8] مجهول: أخبار مجموعة: ص 120.

[9] خوليان ريبيرا: اهتمام المسلمين في الأندلس بالكتب، ترجمة: جمال محرز، مجلة معهد المخطوطات العربية، ص 86.

[10] ألكسندر ستيبتشفيتش: تاريخ الكتاب، القسم الأول، ترجمة محمد الأرناؤوط، سلسلة عالم المعرفة 1993 العدد 169، ص245.

[11] أحمد مختار العبادي: في التاريخ العباسي والأندلسي، ص420.

[12] ابن حيان القرطبي: المقتبس (تحقيق الحجي)، ص207.

[13] يوسف أحمد يوسف: علم التاريخ في الأندلس، ط1، مؤسسة حمادة للنشر، الأردن، 2002 م، ص 25.

[14] Imamudin، Apolitical history of muslim Spain Dacca,1969, p، 176

[15] للمزيد، راجع: خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية في الأندلس، ط2، ترجمة الطاهر مكي، 1994 م ص 157، ومحمد عبدالحميد عيسى: تاريخ التعليم، مرجع سابق.

[16] عبدالرحمن الحجي: الكتب والمكتبات في الأندلس ص361، مجلة كلية الدراسات الإسلامية العدد الرابع، بغداد 1972.

[17] ابن عذاري: البيان المغرب، جـ2، ص245.

[18] ابن خلدون: المقدمة جـ2، ص1240.

[19] الطاهر أحمد مكي: دراسات عن ابن حزم، ص 45.

[20] الطاهر أحمد مكي: نفسه.

[21] الطاهر أحمد مكي: نفسه.

[22] الطاهر أحمد مكي: نفسه.

[23] الطاهر أحمد مكي: نفسه.

[24] الطاهر أحمد مكي: نفسه.

[25] راجع: توفيق بن أحمد الغلبزوري: المدرسة المالكية بالأندلس، مجلة الشريعة والدراسات الإسلامية، العدد 63، الكويت 2005، ص 106.

[26] كريم عجيل: الحياة العلمية في بلنسية، جامعة بغداد، 1975م، ص263.

[27]سعد شلبي: البيئة الأندلسية وأثرها في الشعر، دار نهضة مصر، 1978م، ص 56.

[28]ك، بويكا: المصادر التاريخية العربية في الأندلس، ط1، ترجمة نايف أبو كرم، دمشق 1999، ص 12.

[29] ظهر الإسلام، أحمد أمين، دار الكتاب العربي بيروت 1969م، ج3/ ص 8/..

[30] M، Bennabound، " The Socio - plotical Role of the Andalusian Ulama during the 5th / 11th Century، " Islamic Studies، vol، 23،no، 2 (1984)، pp، 103 - 141.

[31] محمود إسماعيل، وآمال محمد حسن: في تاريخ المغرب والأندلس، القاهرة، بدون، ص 157.

[32] محمود إسماعيل: إشكالية المنهج في دراسة التراث، رؤية للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة، 2004، ص 39.

[33] ابن عذاري، البيان المغرب، مرجع سابق، ص 308.

[34] للمزيد راجع: خالد الصمدي: مدرسة فقه الحديث بالغرب الإسلامي، ج1، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 2006 م، ص 35، والأوزاعي هو: أبو عمرو عبدالرحمن بن يحمد الأوزاعي، إمام أهل الشام، لم يكن بالشام أعلم منه، قيل: إنه أجاب في سبعين ألف مسألة، وكان يسكن بيروت، توفي سنة 157 هـ، للمزيد راجع: ابن خلكان: وفَيَات الأعيان، ج3، ترجمة رقم 361، ص 127.

[35] للمزيد راجع: خالد الصمدي: مدرسة فقه الحديث بالغرب الإسلامي، ج1، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 2006 م، ص 35.

[36] شبطون: هو أبو عبدالله زياد بن عبدالرحمن، قرطبي، سمع من مالك الموطأ، وله عنه في الفتاوى كتاب سماع معروف بسماع زياد، وروى عنه يحيى الليثي الموطأ، فأشار عليه زياد بالرحيل إلى مالك ما دام حيًّا، وأخذه عنه، ففعل، للمزيد راجع: بغية الملتمس: ص 294 ، نفح الطيب، ج2، ص 45، الاستقصا، ج2، ص 510، خالد الصمدي: مدرسة فقه الحديث بالغرب الإسلامي، ج1، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، 2006 م، ص 122.

[37] ذكر بلاد الأندلس، ص 125.

[38] راجع: (محمود علي مكي: الثقافة الدينية في الأندلس في عصر عبدالرحمن الناصر، ألقي هذا البحث في الجلسة السادسة من مؤتمر المجمع في الدورة السادسة والستين بتاريخ 3 من المحرم سنة 1421هـ الموافق 8 من أبريل (نيسان) سنة 2000م، راجع: مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة / ع 91، ص 133.

[39] ترتيب المدارك، ج1، ص 200، وعيسى هو: عيسى بن دينار، فقيه الأندلس ومفتيها، الإمام أبو محمد الغافقي، القرطبي، وكان صالحًا خيِّرًا ورِعًا، كان ابن وضاح يقول: هو الذي علم أهل الأندلس الفقه، وقال الفقيه أبان بن عيسى بن دينار: كان أبي قد أجمع على ترك الفتيا بالرأي، وأحب الفتوى بالحديث، فأعجلته المنية عن ذلك، وقد ألف في شيوخ مالك بن أنس؛ (راجع: ترتيب المدارك ج1، ص 200، الزركلي: الأعلام، ج5، ص 102، ابن الفرضي: تاريخ علماء الأندلس، ج2، ص 556، الضبي: بغية، ج2، ص 525.

[40] يوسف أحمد يوسف: علم التاريخ في الأندلس، مرجع سابق، ص 65.

[41] ترتيب المدارك: ج1، ص 26.

[42] المقتبس (تحقيق مكي)، ص 42 - 43.

[43] الطاهر أحمد مكي: دراسات عن ابن حزم، ص 51.

[44] نفسه، ص 51.

[45] نفسه، ص 52.

[46] راجع: ابن حيان: المقتبس (شالميتا)، ص 25 وما يليها.

[47] محمد محمد بنشريفة: الجذور التاريخية للاستعراب الإسباني، مقالة لنا منشورة في ندوة "المغرب في الدراسات الاستشراقية": 64 مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية 1993م.

[48] انظر هذه الشكوى في تاريخ الفكر الأندلسي: 485 - 486 ترجمة الدكتور حسين مؤنس.

[49] المقتبس: 138 تحقيق الدكتور محمود علي مكي.

[50] محمد محمد بنشريفة: التأثير المتبادل.

[51] Amir Ali: Ashort History of Supacens، Newyork، 1899، p، 519.

[52] محمد محمد بنشريفة: التأثير المتبادل، ص 186.

[53]الطاهر أحمد مكي: دراسات عن ابن حزم، ط 4، دار المعارف 1993، ص 24.

[54] خوليان ريبيرا: التربية الإسلامية، مرجع سابق، ص 64.

[55] محمود إسماعيل: الفكر التاريخي في الغرب الإسلامي، ط1، منشورات الزمن، المغرب 2008 م، ص 72.

[56] محمود إسماعيل: إشكالية المنهج، مرجع سابق، ص 14.

[57] نفسه، ص 14.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • الحضارة العربيّة في الأندلس وأثرها في أوربا
  • من أيام رمضان في دولة الموحدين بالأندلس
  • من أيام رمضان في دولة المرابطين بالأندلس
  • المجتمع الأندلسي في القرنين الرابع والخامس الهجريين من خلال شهادة ابن حيان القرطبي
  • الوقف على المكتبات في الحضارة الإسلامية (الأندلس نموذجا)
  • تطور الفكر التاريخي في الأندلس
  • الاعتقاد المجرم: علوي في الأندلس
  • العلم وفضله
  • العلم والتعليم (1) فضل العلم والعلماء

مختارات من الشبكة

  • طبيعة العلم من المنظور الإسلامي(مقالة - موقع أ. د. فؤاد محمد موسى)
  • لماذا نكرر العلم؟(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • نصف العلم لطالب العلم: بحث في علم الفرائض يشتمل على فقه المواريث وحساب المواريث (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)
  • نصائح مهمة للمبتدئين في طلب العلم(مقالة - آفاق الشريعة)
  • من أقوال السلف في أهمية السؤال وآدابه(مقالة - آفاق الشريعة)
  • شرف العلم وفضيلته في القرآن الكريم ودلالته الدينية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • حث الطلاب على الجمع بين علم التفسير والحديث والفقه(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • المعلم واستحضار فضل العلم والتعليم(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • العلم والتعليم: الواقع والمستقبل(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • خدمة العلم وتفعيله وتحبيب الناس إليه(مقالة - موقع د. محمد بريش)

 


تعليقات الزوار
2- معلومات رائعة
جهاد حسام الدين - مصر 20-11-2021 12:26 AM

فعلا معلومات رتبت أفكاري وأجابت على أسئلة كانت تجول بخاطري
بوركتم وجزيتم خيرًا

1- ثناء
طارق - العراق 27-09-2016 11:53 PM

من أجمل ما طالعت بوركتم ووفقتم

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • الدورة الخامسة من برنامج "القيادة الشبابية" لتأهيل مستقبل الغد في البوسنة
  • "نور العلم" تجمع شباب تتارستان في مسابقة للمعرفة الإسلامية
  • أكثر من 60 مسجدا يشاركون في حملة خيرية وإنسانية في مقاطعة يوركشاير
  • مؤتمرا طبيا إسلاميا بارزا يرسخ رسالة الإيمان والعطاء في أستراليا
  • تكريم أوائل المسابقة الثانية عشرة للتربية الإسلامية في البوسنة والهرسك
  • ماليزيا تطلق المسابقة الوطنية للقرآن بمشاركة 109 متسابقين في كانجار
  • تكريم 500 مسلم أكملوا دراسة علوم القرآن عن بعد في قازان
  • مدينة موستار تحتفي بإعادة افتتاح رمز إسلامي عريق بمنطقة برانكوفاتش

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 11/11/1446هـ - الساعة: 0:55
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب