مسألة الخبر الذي يكون بمعنى الأمر أو النهي

مسألة الخبر الذي يكون بمعنى الأمر أو النهي

ذكر أبوبكر ابن العربي (ت543) - رحمه الله - في كتابهأ "أحكام القرآن"[1] تقريرًا، وعدَّه من الدقائق، وقال: إنه فات العلماء!

ومفاد تقريره:

نفي ورود الخبر بمعنى الأمر أو النهي.

ولم يتعقبه في دعوى فوتها العلماء:

القرطبي في الجامع، وأبو حيان في البحر، والسيوطي في الإتقان والمعترك، وابن عقيلة في الزيادة والإحسان، مع أنهم نقلوا نصه بفوتها العلماء.

وقبل ابن العربي قد قال الراغب الأصفهاني[2] في تفسير[3] بالقول الذي نسبه ابن العربي إلى العلماء، لكنه قيده بما لو لم يحتمل لفظ الخبر التخصيص، وقال بأنه ليس منه الخبر في نحو قوله تعالى: ﴿وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ...﴾ [البقرة: 233]؛ لأن الخبر هنا يمكن أن يخصص، فلا يصار إلى جعله أمرًا بلفظ الخبر.

هذا محصل ما ظهر لي من قول الراغب لخصت معناه هنا[4].

وأما قول السيوطي في حاشيته على البيضاوي[5]:

إنَّ قول الراغب مثل قول ابن العربي = ففيه نظر؛ فالظاهر أن تقرير ابن العربي يرجع إلى جنس باب تعدد الحقائق (اللغوية، الشرعية، العرفية)، وأن ما في نحو قوله تعالى: ﴿وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ...﴾ [البقرة: 228] يرجع إلى الشرعية لا اللغوية، أي: يرتبصن شرعًا لا لغةً، أي هو من جنس قول بعض العلماءِ في النواهي: (لا صلاة... لا صيام...) أي: لا صلاة شرعية أو لا صيام شرعي، لا لغةً؛ أي واقعًا وحسًّا، والله أعلم.

وما قرره ابن العربي قد قرره أيضا أبو القاسم السهيلي[6]- دون دعوى فوتها العلماء - مع كون السهيلي قد أقر بوجود الخبر بمعنى الأمر في اللغة، بل صرح بأن ذلك كثير[7]، لكنه إنما لم يقر بذلك في النصوص الشرعية، وكأنه في المنتهى اختلاف عبارة، وقد ذكر ابن الشجري (ت542) أن نحو قوله تعالى: ﴿ يَتَرَبَّصْنَ﴾ خبر يراد به الأمر بإجماع علماء المسلمين[8]، والسهيلي نفسه قال: (ليس هو في الحقيقة خبرًا بمعنى الأمر... )، ثم قال: (ولكنَّها أخبار عمَّا استقر في الشريعة وثبت في الديانة التي نحن (مأمورون) بها على الجملة، فمن ههنا صرنا (مأمورين) بتلك الأفعال، وإن لم تكن على صيغ الأمر والنهي في المقال)[9]. حتى ابن حزم على ظاهريته يجعل مثل ذلك أمرًا[10].

ومقصد الخبر في مثل هذه الأوامر مزيد التأكيد؛ كأنه كالواقع، وهذا معنى بلاغيُّ مشهور، بل قال بعض الشافعية: إن جاء الأمرُ بصيغة الخبر امتنع نسخُه[11].

وقال بعض الحنابلة: إن جاء الأمرُ بصيغة الخبر لم يحتمل الندبَ[12].

وأبلغ في نفي الخلاف الحقيقي هنا تقديرُ بعض العلماء اللامَ في مثل ذلك، فـ﴿ يَتَرَبَّصْنَ﴾ أي: ليتربصن[13]. وفي المثَلِ: "أنجَزَ حرٌ ما وعد"، قال الأصمعي: "أراد: لينجز"[14]. وقال أبوبكر الأنباري: "أي: لينجز"[15]. وربما أخذت ابن العربي رحمه الله الحماسة[16]في هذا الموضع، ولذلك تجده في الصفحة نفسها[17] نقل قول صحابيين، ثم تعقبه بقوله: فيه نظر، ثم استنبط دليلًا معارضًا، ثم ختمه بمدح استنباطه؛ أنه بديع[18]. واختلاف العبارة فيما يظهر إنما هو مع ابن العربي، وأما الراغب فالخلاف معه في جزء من تقريره حقيقي، ولا يظهر الفرق في هذه المسألة في كلام العلماء بين التعبير بـ: معناه الأمر، أو التعبير بــ: المراد به الأمر[19].

وألطف تعبير وجدته لعالم وأدقه في هذه المسألة، تعبير الإمام ابن مالك في التسهيل؛ فإنه يعبر بالاستفادة؛ استفادة الأمر من الخبر[20].

تنبيهات:

1- التمثيل للخلاف في هذه المسألة بنحو آية: ﴿يَتَرَبَّصْنَ﴾ أحسن؛ لأن نحو آية: ﴿يُرْضِعْنَ﴾ يرد عليها جواب آخر، سبقت الإشارة إليه في كلام الراغب الأصفهاني.

2- ادعى أبو حيان في أول شرحه التسهيل أن مقتضى كلام ابن مالك في التسهيل أن الخبر لا يخرج عن بابه، ولا يأتي بمعنى الأمر[21]، وفيه نظر؛ فقد جاء عن ابن مالك التصريحُ بمجيء الخبر بمعنى الأمر، بل إن أبا حيان نفسَه في المجلد العاشر من شرح التسهيل شرح نص قول ابن مالك في مجيء الخبر بمعنى الأمر[22].

3- لا يلزم مما سبق القولُ بأنه ليس للخبر صيغة - أو ليس صيغة - كما هو قول بعض أرباب المذاهب الكلامية؛ لأننا نقول هنا: هو خبر في الأصل، لكن قد يُصرف إلى الأمر، أو تُقدر فيه اللام بدلالة وقرينة[23].