• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور سعد بن عبد الله الحميد
الدكتور سعد بن عبد الله الحميد  إشراف  الدكتور خالد بن عبد الرحمن الجريسي
  • الصفحة الرئيسية
  • موقع آفاق الشريعة
  • موقع ثقافة ومعرفة
  • موقع مجتمع وإصلاح
  • موقع حضارة الكلمة
  • موقع الاستشارات
  • موقع المسلمون في العالم
  • موقع المواقع الشخصية
  • موقع مكتبة الألوكة
  • موقع المكتبة الناطقة
  • موقع الإصدارات والمسابقات
  • موقع المترجمات
 كل الأقسام | مقالات شرعية   دراسات شرعية   نوازل وشبهات   منبر الجمعة   روافد   من ثمرات المواقع  
اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة اضغط على زر آخر الإضافات لغلق أو فتح النافذة
  •  
    نعمة البيوت والمساكن (خطبة)
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    سلسلة شرح الأربعين النووية: الحديث (39) «إن الله ...
    عبدالعزيز محمد مبارك أوتكوميت
  •  
    حين تمطر السماء.. دروس من قطرات الماء! (خطبة)
    محمد الشقيري
  •  
    الفطرة السليمة من أدلة اثبات وجود الخالق جل وعلا
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
  •  
    التسبيح والتحميد يملآن ما بين السماء والأرض
    د. خالد بن محمود بن عبدالعزيز الجهني
  •  
    نصائح وعظات لطالب العلم
    د. محمد أحمد صبري النبتيتي
  •  
    منهجية القاضي المسلم في التفكير: دروس من قصة نبي ...
    د. أحمد مصطفى نصير
  •  
    من يهد الله فهو المهتدي
    محمد شلبي محمد شلبي
  •  
    معادن الرجال في الأزمات (خطب)
    د. عبدالرزاق السيد
  •  
    لهذا صدقناه! (خطبة)
    محمد موسى واصف حسين
  •  
    علة حديث: ((الحجر الأسود من الجنة))، وحديث: ...
    د. محمد بن علي بن جميل المطري
  •  
    خطبة عن فاحشة اللواط والشذوذ والمثلية
    أحمد بن عبدالله الحزيمي
  •  
    تحريم إنكار أسماء الله وصفاته جملة أو تفصيلا
    فواز بن علي بن عباس السليماني
  •  
    فتنة نبي الله سليمان هبة الله لداود وعطاء الله له
    د. أحمد مصطفى نصير
  •  
    التذكير بالنعم المألوفة (7) الطعام والشراب
    الشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل
  •  
    التاريخ من أدلة إثبات وجود الخالق جل وعلا
    الشيخ عبدالله محمد الطوالة
شبكة الألوكة / آفاق الشريعة / مقالات شرعية / فقه وأصوله
علامة باركود

منهجية القاضي المسلم في التفكير: دروس من قصة نبي الله داود

منهجية القاضي المسلم في التفكير: دروس من قصة نبي الله داود
د. أحمد مصطفى نصير

مقالات متعلقة

تاريخ الإضافة: 9/10/2025 ميلادي - 17/4/1447 هجري

الزيارات: 86

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

منهجية القاضي المسلم في التفكير:

دروس من قصة نبي الله داود

 

قوله: ﴿ اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17]، أمرنا الله تعالى بالصبر على أصحاب العقائد الفاسدة، لعلهم ينتبهون إلى فسادها وبطلانها، وأشار في ذات الوقت إلى طريقة نبي الله داود في العبادة، تلك الطريقة التي ينبهر بها من آمن ومن لم يؤمن، فالعقائد الفاسدة يمكن إصلاحها بالعبادة الصحيحة؛ ولذلك اشترك مع الأمر بالصبر الأمر بذكر عبادة نبي الله داود، والاستشهاد بها لإبطال العقائد الفاسدة والعبادات المضللة.

 

ذلك أن كثيرًا من الأمور تعالج بالتربية العملية، أما الرد والتنظير والتقعيد، فقد يؤدي بنا إلى الاستغراق في المناظرات والفلسفات الفارغة دونما تحقيق شيء ملموس على أرض الواقع، وواقع المسلمين العبادة لله بإخلاص، فإذا رأى العالم المسلمين وهم يذكرون الله ويعبدونه بإخلاص استفاقوا من غفلتهم، ولنا في صبر نبي الله داود على العبادة مثال، فعن عَبْداللَّهِ بْن عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: «أَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ، وَكَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ، وَيَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»[1].

 

وبالرغم من اجتهاد نبي الله داود في العبادة فإنه لم يغفل عن الكسب والعمل ليأكل مما كسبت يده، فكما أنه كان يجتهد في العبادة فإنه لم يألُ جهدًا أن يعمل في أصعب الوظائف وأشدها مشقة، فعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ، وَإِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يَأْكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ»[2]، فبالعمل يحصل إعفاف النفس والعائلة من السؤال، وبالعبادة تزكو النفس عن طلب ما يزيد على الحاجة.

 

بهذه المثابة تصحح العبادة العقيدة، ويصحح العمل العبادة، فنبي الله داود اتخذ مهنة شديدة المشقة رغم أنه كان ملكًا، قال تعالى: ﴿ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ ﴾ [سبأ: 10، 11]، قال المناوي أن عمل داود (في الدروع من الحديد ويبيعها لقوته، وخص داود؛ لأن أكله من عمل يده لم يكن لحاجة لأنه ملك)[3]، وهكذا يستبين أنه لا تعارض بين عمل القاضي وانشغاله بالكسب ليعف نفسه ما لم يحصل تعارض بين عمله كقاضي وعمله الحرفي الذي يقتات منه.

 

ما يعني أن العمل عبادة إذا كان بقصد الوصول إلى التفرغ للعبادة، وليس بقصد تعظيم الكسب وحسب، وذلك عندما تكون النية الأساسية منه قضاء واجب المجتمع، وسد حاجته من أصحاب المهارات والعلوم والمهن المختلفة، أما إذا كان العمل مجردًا من تلك النية، فليس بعنوان لنشر دعوة الإسلام، وأما دليل النية الصالحة في العمل فهو دوام الذكر أثناء العمل، فإذا فرغ العبد منه استقام على العبادات الخالية من حظوظ النفس؛ ولذلك قال سبحانه: ﴿ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 17]؛ أي: يؤوب إلى الله في السراء والضراء، وبعد الفراغ من كل عمل، كما في قوله: ﴿ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ﴾ [الشرح: 7]، فكلما فرغ من أعمال الحدادة آب إلى قيام الليل ما يستطيع، فكان يقوم نصفه: ثلثه في أوله وسدسه في آخره.

 

قال ابن جزي: (فإن قيل: ما المناسبة بين أمر الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بالصبر على أقوال الكفار وبين أمره له بذكر داود؟ فالجواب عندي أن ذكر داود ومن بعده من الأنبياء في هذه السورة فيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، ووعد له بالنصر وتفريج الكرب، وإعانة له على ما أمر به من الصبر، وذلك أن الله ذكر ما أنعم به على داود من تسخير الطير والجبال، وشدَّة ملكه، وإعطائه الحكمة وفصل الخطاب، ثم الخاتمة له في الآخرة بالزُّلْفى وحسن المآب، فكأنه يقول: يا محمد، كما أنعمنا على داود بهذه النعم، كذلك ننعم عليك، فاصبر ولا تحزن على ما يقولون، ثم ذكر ما أعطى سليمان من الملك العظيم، وتسخير الريح والجن والخاتمة بالزُّلفى وحسن المآب)[4].

 

قوله: ﴿ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ * وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 18، 19] بيَّنت الآيات كيف أن الكون كله كان ينسجم مع داود في عبادته لله تعالى، سواء أكان جمادات (الجبال) أو طيرًا في السماء، كما في قوله: ﴿ يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ ﴾ [سبأ: 10]، فالمشاركة في عبادة الله تزيد العبد قوةً وهمةً؛ ولذلك تشارك معه الجماد والطير، فضل من الله ونعمة، فالله إذا أحب عبادة عبده أعانه عليها، وجعل خلقه يشاركونه.

 

وهذه الميزة ليست خاصة بالأنبياء وحسب، بل يشترك معهم الصالحون من عباد الله تعالى، فعن أبي ذَرٍّ قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ حصيات فسبحن في يده، ثم وضعهن فخرسن، ثم أخذهن فسبحن في يده، ثم أعطاهن أبا بكر فسبحن في يده، ثم أخذهن النبي صلى الله عليه وسلم فسبحن في يده، ثم وضعهن فخرسن، ثم أعطاهن عمر فسبحن في يده، ثم أخذهن النبي صلى الله عليه وسلم فسبحن في يده، ثم وضعهن فخرسن، ثم أعطاهن عثمان فسبحن في يده، ثم أعطاهن عليًّا فوضعهن في يده فخرسن)[5].

 

وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَهُ: (إِنِّي أَرَاك تُحِبُّ الْغَنَمَ وَالْبَادِيَةَ، فَإِذَا كُنْتَ فِي غَنَمِكَ وَبَادِيَتِكَ فَأَذَّنْتَ بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَكَ بِالنِّدَاءِ، فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ جِنٌّ وَلَا إِنْسٌ وَلَا شَيْءٌ إِلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم)[6].

 

وفي ذلك دلالة على أن دعوة الإسلام لا تقف عند حدود البشر، فالمخاطب بهذه الدعوة الإنس والجن، حتى الجمادات فإنها تنفعل بهذه الدعوة، بل وتشهد يوم القيامة بوصول البلاغ لها، وهو الأمر الذي يشرح صدر المؤمن عندما يجد أن لدعوته صدى حتى في الجمادات، فلا ييأس من أن يظل ثابتًا على الحق وإن خاصمه قومه وشاقوه.

 

قوله: ﴿ وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ ﴾ [ص: 20] تضمنت هذه الآية ثلاثة دعائم لإقامة دين الله بين الناس، وهي: (القوة العسكرية، الحكمة الدعوية، القضاء الفاصل بالعادل).

 

فأما الركن الأول فهو تشديد الملك، بمعنى أن جعله قويًّا محكمًا حيثما حارب الأعداء انتصر عليهم، قال تعالى: ﴿ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 251]، وفي ذلك إشارة إلى أن الصدام مع المشركين الذين يشاقون الله ورسوله سوف يؤول إلى حرب ينتصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عليهم، وينهزم فيها الأحزاب، وأنه بحاجة إلى أن يؤيده الله بمدد ويعينه ليشتد ملكه؛ ولذلك شدد الله ملك داود بعدما آتاه الله الملك، قيل: كان أشد الملوك قوة على الأرض[7]، وقد مهد ذلك لملك نبي الله سليمان (ابنه).

 

الركن الثاني: الخطاب الدعوي، وضرورة أن يتحلى بالحكمة، فبها تنشرح الصدور المغلقة، والآذان الصُّمّ، وتبصر الأعين العمياء، فقوة الملك وحدها لا تكفي، وإن جاز القول إنها في غاية الأهمية لإزالة عوائق الدعوة، لكن إزالة الباطل ليس بكافٍ لإحقاق الحق، فكان لا بد من أن تتحلى الدعوة بالحكمة والخطاب الدعوي الحسن، كما قال: ﴿ ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ﴾ [النحل: 125] بذلك تكتمل للدعوة أركانها، فالقلوب لا تلين بالسيوف، وإنما وظيفة السيف إزاحة المتكبرين عن طريق الدعوة في سبيل الله، ومنهم الصادُّون عن سبيله، بينما تتفتح الصدور وتلين القلوب بالحكمة والخطاب المفصل؛ أي: بالحكمة في القول.

 

والأمر الثالث: العدالة الناجزة، وهو المراد بفصل الخطاب؛ أي: لا حاجة لإعادة الخصومة بعد فصل القاضي القول فيها، والتعريف الذي أورده المفسرون لفصل الخطاب هو (البيان الكافي في كل غرض مقصود)[8]؛ أي: (علم القضاء)[9]، (كلمات قليلة موجزة، تفصل في المقامات)[10]، فالقاضي لا يتكلم إلا في القضية إلا قولًا فصلًا، يفصل به في الخصومات، وهو ما نسميه في زماننا بحيثيات الحكم القضائي، بحيث يكون مسببًا على وقائع وأدلة يدور حولها ثبوت الاتهام أو نفيه، وهكذا كان داود عليه السلام يعمل قاضيًا بين الناس، فكان قوله فصلًا من هذه الجهة؛ ولذلك قال جعفر لملك الحبشة: (إنَّك ملك لا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم)[11].

 

وكذلك يشمل "فصل الخطاب" مقام الدعوة وإقناع من خالف الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، كما في قوله: ﴿ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ [النحل: 125].

 

قوله: ﴿ وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ ﴾ [ص: 21] هذه القصة الغرض من حكايتها تعليم النبي صلى الله عليه وسلم آداب الفصل في الخصومات توطئة لتمكينه في الأرض وإيتائه الملك ليحكم بين الناس بالحق، وأهم آداب القضاء بين الناس هو الاستماع التفصيلي للطرفين، وعدم الارتكان لقول أحدهما دون الآخر، وهو ما نسميه بمبدأ مجابهة الخصوم، وعليه يجب على القاضي ألَّا يتسرع في إصدار الأحكام قبل تحقيق أن يواجه الخصوم بأقوال بعضهم أمام بعض.

 

والقضية كما عرضها أحد الخصمين تحمل ظلمًا صارخًا مثيرًا لا يحتمل التأويل، ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة، ولم يوجه إلى الخَصْم الآخر حديثًا، ولم يطلب إليه بيانًا، ولم يسمع له حجة، ولكنه مضى يحكم.

 

ومن اللطيف الإشارة إلى أن مجلس القضاء يدخل عليه الخصوم بلا استئذان، ولا يجوز محاسبتهم على ذلك، ما دام لا يقطع الخصمان على القاضي مجلسه، ويعطلان عمله، وهذا هو الأصل ألا يحول بين القاضي والمتخاصمين حائل، فالسور المحيط بالمحراب وهو مكان العبادة لم يحل دون وصولهما إليه، كما أن مجلس القضاء هو ذلك المجلس الذي يكون فيه القاضي أينما ذهب وحل، فالقاضي ليس بحاجة أن يكون في مكان معين حتى تنعقد الجلسة للاستماع وإصدار حكمه، فالشكليات إذا كانت تؤدي إلى تأخير العدالة فإنها يجب أن تزال، وهكذا لا بد من فهم طبيعة العلاقة بين القاضي والخصوم، فيكون القاضي أقرب الناس إليهم، وليس ببعيد عنهم، ولا يجوز أن يتخذ دونهم حجابًا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ وَلَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَاحْتَجَبَ دُونَ حَاجَتِهِمْ وَخَلَّتِهِمْ وَفَقْرِهِمْ، احْتَجَبَ اللَّهُ عَنْهُ دُونَ حَاجَتِهِ وَخَلَّتِهِ وَفَقْرِهِ»[12].

 

قوله: ﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ ﴾ [ص: 22]، و"الفزع": (انقباض في النفس يحدث للإِنسان عند توقُّع مكروه)[13]، والفزع الذي حصل له طبيعي، نابع من الحيطة والحذر، فالقاضي وإن وجب أن يكون بين الناس فلا يحول دون الدخول عليه أحد إلا أنه في ذات الوقت لا بد وأن يكون مجلسه مأمونًا محروسًا، حتى لا تطوله أيدي الغادرين، ويطمئن في قضائه بين الناس أنه في منعة من انتقام الجناة وأتباعهم، فيكون الدخول عليه منظمًا، وموقوتًا بالوقت الذي يسمح فيه بعرض القضية، بينما الذي حدث هو أن الخَصْمين دخلا عليه لعرض القضية عليه دون أن يأذن لهما، فذلك هو سبب فزعه منهما، وقد صادف ذلك وقت فراغه، فأمّناه وقالا له: ﴿ لَا تَخَفْ ﴾؛ أي: إن الأمر عادي، فهذه مجرد قضية مطروحة أمامك فلتنظر فيها.

 

قوله: ﴿ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ ﴾ [ص: 22] تضمنت الشكوى بيان نوعها باختصار، وهذا هو الاختصاص النوعي للمحاكم، فهي شكوى مدنية وليست جنائية أو إدارية، وهذا هو أول شيء في إجراءات التقاضي.

 

كما تضمنت الشكوى طلب أن يحكم نبي الله داود بينهما، وهذا يعني الثقة المفترضة من المتقاضين في القضاء، وإلَّا لما دعت الحاجة للجوء إليه، قال النووي: (فأما من ليس بأهل للحكم، فلا يحل له الحكم، فإن حكم فلا أجر له؛ بل هو آثم، ولا ينفذ حكمه؛ سواء وافق الحق أم لا؛ لأن إصابته اتفاقه ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاصٍ في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها ولا يعذر في شيء من ذلك)[14]، وهذه مسألة تسمى برد القاضي، بمعنى إذا شك أحد المتخاصمين في نزاهة القاضي أو عدالته أو ظن انحيازه لأحد الأطراف، فله أن يتخذ إجراءات رد القاضي، لينظر المسألة غيره من القضاة ويفصل فيها، ولا شك أن من الواجب أن تتَّسِم هذه الإجراءات بالشدة حتى لا يتخذ ذلك ذريعة لإطالة أمد التقاضي، أو التشكيك في منظومة العدالة برمتها.

 

الأمر الثالث: هو تحفظهم على حكمه بأن يقضي بينهم قضاء لا شطط فيه، بمعنى أن الأصل على الخصوم التزام مفترض بأن يحترموا أحكام القضاء حتى ولو صدرت على غير رغبتهم طالما صدرت في ضوء تقدير القاضي للأدلة المعروضة دون شطط؛ أي: وفقًا للأصول والآداب المرعية، بمعنى أن القاضي إذا تجاوز حدود العقل والمنطق السليم لتسبيب حكمه، هنا يجوز نقضه أمام جهة قضائية أعلى منه؛ لأنه في هذه الحالة يكون قد شطَّ عن أصول التقاضي، فأصل الشطط: (مجاوزة الحد)[15]، و(تخطي الحق)[16]، وبمعنى أدق (البعد المفرط عن الحق)[17].

 

وهنا- أي في حالة الشطط وحسب- يشرع التقاضي على درجتين لمنع الشطط، أما في غير هذه الحالة فحكمه نافذ، ومن هنا لا ينبغي التوسع في حالات التقاضي على درجتين في غير هذه الحالة، فالحكم القضائي هو عنوان الحقيقة، والحكم إن صدر عن اجتهاد القاضي فإنه لا يُنقض بمثله، فلا معنى للسماح باجتهاد أن ينقض اجتهاد، وإن خالف الحكم الأول الحقيقة ذاتها، طالما أنه صدر في ضوء الأدلة الظاهرة، بعد تمحيصها والتثبت منها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «بَعْضكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ»؛ إذ لا يخفى ما في التوسُّع من حالات التقاضي على درجتين من إهدار لقوة وحجية الحكم الأول، وما يستتبع ذلك من مفاسد كثيرة فضلًا عن إطالة أمد النزاع دون فائدة مرجوة.

 

ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا بِقَوْلِهِ فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِن النَّارِ فَلَا يَأْخُذْهَا)[18]، (ألحن) يعني (أبين وأفصح وأظهر)[19]، وهنا إذا أخطأ الحاكم فلم يصب الحقيقة، يعذر باجتهاده طالما التزم آداب وأصول القضاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ»[20]، قال النووي: (قال العلماء: أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكمٍ عالمٍ أهلٍ للحكم، فإن أصاب فله أجران: أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده» [21].

 

قوله: ﴿ إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾ [ص: 23] استهلَّ الملكان المتلبسان في صورة بشر عرض حكايتهما لداود بإيجاز بليغ، فسرد أحدهما الوقائع المنتجة في النزاع، والظروف والحيثيات المحيطة بها ﴿ وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ ﴾؛ أي: ألحَّ عليَّ إلحاحًا شديدًا، وتلك مهارة المدافع أو المحامي ألَّا يشغل القاضي بوقائع غير منتجة في النزاع، ويطيل عليه في عرض خصومته، وإنما يذكر منها ما يحتاج إليه لعرض مقطع النزاع وما يرتبط به ارتباطًا لازمًا، ودون أن يلجئ القاضي لأن يستقصي ويستفسر عن المزيد، ففي حسن البيان ما يغني عن السؤال، وإن حُق للقاضي أن يفعل ذلك لمزيد من الإيضاح.

 

قوله: ﴿ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ ﴾ [ص: 24]، فالانسياق وراء العاطفة والانفعال اللحظي لا يجوز أن يستتبعه الفصل المتسرِّع في القضية؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لَا يَحْكُم الْحَاكِمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»[22]، فالصحيح أن يعتدل مزاج القاضي قبل أن يشرع في استئناف القضية، ويتجرَّد من الانحياز العاطفي، والشعور النفسي، بيد أن نبي الله داود استعجل في القضاء قبل أن يسمع الطرف المشكو في حقه، فأطلق حكمه بِناءً على تأثُّره العاطفي، ولم يكن بعد قد سمع من الطرف الآخر، مخالفًا بذلك أصول التقاضي، فالمشاعر العاطفية قد تنجذب للطرف الضعيف (الفقير، المرأة) لكن لا يجوز أن تكون هي معيار التحكيم؛ ولذلك قالوا إن نظارة العدالة سوداء لا تقيس الأمور برؤية عينية بل تزن الأشياء بميزان حساس دون رؤية ما في كِفَّة الميزان.

 

قوله: ﴿ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ ﴾ [ص: 24] هذا هو المبدأ القضائي الذي أسس نبي الله داود عليه حكمه؛ إذ لا بد وأن يذكره القاضي حيثيات حكمه قبل أن ينطق به، وبها يشيد حكمه، وذلك ليعذر إن أخطأ في اجتهاده، لكن نبي الله داود أخطأ مرة أخرى في تسبيب حكمه، فلم يذكر في أسباب حكمه الأدلة التي تساهم في تعزيز حكمه المرتكن على ذلك المبدأ، وهو مبدأ عام له اعتبار، ولكنه لا يحكم كل الوقائع، فالأصل أن الشراكة تفضي إلى التنازع بين الشركاء ما لم توجد قواعد حاكمة بينهم، تلك القواعد مفرغة في صورة عقد أو مصاغة تشريعيًّا وإلا اضطروا إلى اللجوء للقاضي في كل صغيرة وكبيرة.

 

والواقع يؤكد أنه كلما صيغ العقد بسوء نية، خفَّ النزاع بين الشركاء؛ لأنهم بهذه الصياغة يتلافون أسباب النزاع، وكلما صيغ العقد بحسن نية، زاد الشجار والنزاع بينهم؛ لأنهم يتركون في العقد ثغرات بسببها يقل ضمان تنفيذه بين الطرفين، ولا يوجد جزاء متفق عليه حال الإخلال بالالتزامات المتبادلة؛ أي: إن الخلطة في المال مفضية إلى الشجار ما لم يتم تعريف الحدود بين الشركاء تعريفًا نافيًا للجهالة الفاحشة، ضابطًا لسلطات واختصاصات كل شريك، وقليل من الناس من يمتلك تلك المهارة، وقليل من الناس من تستوي مهارته مع مهارات خَصْمه في اقتضاء حقوقه والاتفاق عليها.

 

قوله: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ﴾ [ص: 24] الظن هنا بمعنى العلم؛ أي: أيقن [23]، وإنما جاز حمل لفظ الظن على العلم؛ لأن العلم الاستدلالي يشبه الظن مشابهة عظيمة[24]، قال البقاعي قوله: ﴿ وَظَنَّ دَاوُودُ ﴾؛ أي: (بذهابهم قبل فصل الأمر)[25]؛ لأنه بمجرد أن أجاب المتخاصمين اختفيا، قيل: إنهما صعدا إلى السماء [26]، فعلم أنهما ملكان أنزلهما الله ليختبراه ويعلماه، فاستغفر ربَّه أن تسرع في الحكم دون أن يسمع الطرف الغني صاحب التسع والتسعين نعجة، وانحاز بحكمه لصاحب النعجة الواحدة تعاطفًا لحاله، وهذا كله موقف افتراضي لتعليمه، كما في قوله: ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ [طه: 39].

 

فموطن فتنة القضاة أمران: إما الجهل بأصول التقاضي وعدم إحراز تقدم في العلم يكفي للفصل في القضية، وإما الظلم والحكم بالهوى أو القلب دون تحكيم العقل، ففي سنن ابن ماجه: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ تَوْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا خَلَفُ بْنُ خَلِيفَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هَاشِمٍ، قَالَ: لَوْلَا حَدِيثُ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ، وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَلِمَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ جَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ»، لَقُلْنَا: إِنَّ الْقَاضِيَ إِذَا اجْتَهَدَ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ[27]، فالحديث يدل على أنه لا يجوز للحاكم المجتهد تقليد الغير، وإن كان أعلم منه وأفقه حتى يجتهد باجتهاده هو بعد بحث المسألة والتحري، والبحث عن الدلائل، ثم يحكم بما لاح له بالدليل؛ إذ ينبغي للقاضي أن يكون مجتهدًا لا مقلدًا.

 

فمن الخطورة بمكان أن يرتكن القضاة للسوابق القضائية دون دراستها بعناية، والتمعُّن فيها، فالسوابق القضائية لها وجاهتها ولا شك، لكن لكل زمان حكمه ولكل حالة حكمها، فالأحكام تتبدَّل بتغيُّر الزمان والمكان والأحوال والأشخاص، فينبغي حالما يريد أن يتبنى مبدأ سبق إقراره بحكم قضائي سابق أن يتأكد من مناسبته للتطبيق في القضية الماثلة، لا أن يقلد غيره تقليد الأعمى وحسب.

 

إذ لا بد للقاضي أن يبني حكمه على اليقين وليس الظن، على الأدلة وليس القرائن، وما يرتكن للقرائن وحدها، فإن القرينة تعزز الأدلة ولا تستقل في موطن الإثبات، فعَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَن الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ»[28].

 

قال الشيخ عبدالمحسن: (أورد أبو داود بابًا في القاضي يخطئ، القاضي إذا قضى بين الناس بجهل فهو غير معذور؛ لأن كونه يقضي بين الناس وهو جاهل لا يسوغ له ذلك، حتى ولو أصاب الحق فهو آثم؛ لأن إصابته الحق كما يقولون: رمية من غير رامٍ، ولأنه ليس عالمًا وإنما هو جاهل، فكونه صادف الحق ووافق الحق لا يفيده ذلك شيئًا؛ لأنه إنما قضى بجهل، وإنما الذي يغفر له الخطأ هو الذي يكون عنده قدرة وعنده علم ويجتهد ثم يخطئ، فإنه عند ذلك إذا اجتهد وأخطأ يكون مأجورًا أجرًا واحدًا، وقد رفع عنه الإثم، والذي اجتهد وأصاب يحصل على أجرين: أجر للاجتهاد، وأجر للإصابة)[29].

 

ومن جهة أخرى لا بد وأن يستكمل القاضي ما نقصه من علم سواء بوقائع الدعوى والتحرِّي عن صحتها أو النصوص والمبادئ التي يحكم بها، فإذا ما صادف القاضي مسألة فنية أو حسابية أو هندسية...إلخ، ليس له بها علم، فإنه يستحب للقاضي مشاورة أهل العلم في المسائل التي ليس له علم بها وتحتاج لدراية وخبرة ليست عنده، فيستعين بأهل الخبرة والرأي في العلوم والفنون المختلفة، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله: ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ ﴾ [آل عمران: 159]، وروي عن أبي هريرة قال: (ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن القاضي له أن يستعين بأهل الخبرة في تلك المسائل وإن كان يستطيع هو الإدلاء برأي فيها متى كان من المتعارف عليه أن أهل الخبرة أكثر دراية منه، مثل المسائل الحسابية، وذلك حتى يقطع الشك باليقين، ولذلك قال الحسن: (إن كان صلى الله عليه وسلم عن مشاورتهم لغنيًّا، ولكنه أراد أن يستن بذلك الحكام بعده)[30].

 

والأصل في الإسلام استصحاب البراءة في كل متهم ما لم يؤيد الاتهام بدليل؛ ولذلك قال علماء أصول الفقه: (لئن يخطئ الإمام في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة)[31]، وفي ذلك قضت المحكمة الدستورية العليا برئاسة الدكتور المستشار/ عوض المر، بأن افتراض براءة المتهم أصل ثابت يتعلق بالتهمة الجنائية من ناحية إثباتها، وليس بنوع العقوبة المقررة لها، وينسحب إلى الدعوى الجنائية في جميع مراحلها- حتمية ترتيب الدستور على افتراض البراءة، عدم جواز نقضها بغير الأدلة الجازمة التي تخلص إليها المحكمة، أصل البراءة يمتد إلى كل فرد مشتبه فيه أو متهم، باعتباره قاعدة أساسية في النظام الاتهامي أقرتها الشرائع جميعها، لا لحماية المذنبين وإنما درءًا للعقوبة عن الفرد إذا ما أحاطت الشبهات بالتهمة، الاتهام الجنائي لا يزحزح أصل البراءة الذي يلازم الفرد دومًا ولا يزايله سواء في مرحلة المحاكمة أو أثنائها ولا سبيل لدحضه بغير الأدلة التي تبلغ قوتها الإقناعية مبلغ الجزم واليقين، وبشرط أن تكون دلالتها قد استقرت حقيقتها بحكم قضائي استنفد طرق الطعن، افتراض البراءة لا يتمحض عن قرينة قانونية ولا هو من صورها- علة ذلك أن القرينة القانونية تقوم على تحويل للإثبات من محله الأصلي ممثلًا في الواقعة مصدر الحق المدعى به إلى واقعة أخرى قريبة منها متصلة بها، وهذه الواقعة البديلة يعتبر إثباتها إثباتًا للواقعة الأولى بحكم القانون، وليس الأمر كذلك بالنسبة إلى البراءة التي افترضها الدستور، فليس ثمة واقعة أحلها الدستور محل أخرى وأقامها بديلًا عنها، وإنما يؤسس افتراض البراءة على الفطرة التي جبل الإنسان عليها، إذ ولد حرًّا مبرَّأً من الخطيئة أو المعصية ومفترضًا على امتداد مراحل حياته أن أصل البراءة لا زال كامنًا فيه)[32].

 

قوله: ﴿ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 24، 25]، وتلك هي آداب ما بعد جلسة القضاء، حيث يؤوب القاضي إلى ربِّه ويستغفره من أي تقصير أو خطأ بدر منه في حكمه لعل الله يغفر له، كما غفر لنبي الله داود، ولعل قربه من الله وتزلُّفه له بالأعمال الصالحة يغفر له ذلَّاته، ولذلك قالوا: من تولى القضاء فكأنما ذبح بغير سكين، حيث ينبغي للقاضي فضلًا عما تقدم من حيازة المبادرة في العلم وتبوُّء مركز الصدارة في الاجتهاد أن يكون قلبه منيبًا لربه، كثير القربات، يحسن الأوبة لله بعد الفراغ من كل مجلس يقضي فيه بين الناس.

 

قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ جَلَسَ فِي مَجْلِسٍ فَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ذَلِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا كَانَ فِي مَجْلِسِهِ ذَلِكَ»[33]، قال ابن علان: (عمومه مخصوص بما عدا الكبائر فإنها لا تكفر إلا بالتوبة أو بالفضل الإلهي)[34].

 

قوله: ﴿ يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ﴾ [ص: 26] إذن أصول التقاضي يجب العلم بها قبل الجلوس في مجلس القضاء، وأهمها المساواة بين طرفي النزاع في السماع والإنصات وإتاحة الفرصة للدفاع والرد، وعلى المحكمة أن تستقصي كل أوجه الدفاع وتستفصل عنها جميعًا، وتحيط بها علمًا، وتتحقَّق من جديتها، والإخلال بشيء من ذلك هو إخلال بحق الدفاع ومبادئ التقاضي، والحكم الذي يصدر عند الإخلال بحقوق الدفاع هو والعدم سواء، ويجوز الطعن عليه بدعوى البطلان الأصلية.

 

فالقاعدة التي أرستها الشريعة الإسلامية في مبادئ التقاضي تقضي بوجوب تجريد النفس من الهوى في عمل القضاء خصوصًا، فقوله: ﴿ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ﴾، يعني أن القاضي الحق لا يتأثر بالعواطف والظروف النفسية للأحداث، بل عليه أن يتبع الحق الذي يدل عليه العقل السليم.

 

يتفرَّع عن ذلك أنه لا يجوز للقاضي أن يقضي بعلمه الشخصي؛ لأنه حين يقضي بعلمه الشخصي يكون شاهدًا على ما قضى به، ولا يجوز أن يكون القاضي خَصْمًا وشاهدًا في آن واحد، بل عليه أن ينسحب من القضية ليتولى الحكم غيره من القضاة.

 

والضابط الأساسي لمسألة الاحتراز من هوى القاضي هو مبدأ التسبيب الذي سلف ذكره في حيثيات قضاء نبي الله داود، فإذا ما حصل التسبيب فلا بد من أن يكون ثمة جهة تراقب هذا التسبيب، وهو ما نسميه في زمننا الحاضر بمبدأ التقاضي على درجتين، بيد أن الإشكالية في درجة تفعيل المبدأ وضبطه وفقًا لقواعد أخرى تتعلق بنسبة كبيرة بشروط تولي المنصب كما في قوله: ﴿ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ﴾.

 

ولأجل الاحتراز من أن يقضي القاضي بهواه دون الالتزام بأصول التقاضي، فقد سعت كثير من الأنظمة القضائية إلى وضع أكثر من قاضي في المحكمة لتكون المداولة بين عدد فردي من القضاة، ويكون اتخاذ الرأي الحاسم في القضية عن طريق التصويت على الحكم بالأغلبية، وليس ذلك بكافٍ حينما تجنح الأغلبية إلى الهوى، ولكن ذلك ولا شك يقلل من فرص الجنوح للهوى إذا تولى الحكم قاضٍ واحد، لكن تعدُّد قضاة هيئة المحكمة لا يمنع ولو قليلًا من أن تجنح الهيئة برمتها للهوى، فذلك ليس بمستبعد؛ ولذلك شرع مبدأ التقاضي على درجتين للحيلولة دون حصول ذلك، فهيئة المحكمة إذا لم ينقض حكمها هيئة أعلى منها يسهل عليها مخالفة المبادئ المتعارف عليها قضائيًّا، أما إذا علمت أن حكمها سوف ينتقض فإنه أحرى بأن تلتزمها، بيد أن المحكمة الأعلى كذلك قد تجنح للهوى وتغير حكم أول درجة وهي تعلم أنه لا ينقض حكمها محكمة أعلى، وهي الأعلى في سلم التدرج القضائي؛ ولذلك فإن قصر الطعن على الأحكام في حدود دعوى البطلان الأصلية (الشطط) يكفل منع التوسع في الطعن بلا سبب، وإعطاء الفرصة لأن تميل المحكمة الأعلى للشطط دون رقيب، ويتبقى وحسب لكي تنغلق دوائر التقاضي بتنصيب محكمة أعلى من هاتين المحكمتين تتولى الرقابة على إجراءات التقاضي والتزام المحكمة الأعلى حدود الطعن أمامها من عدمه، وعدم تجاوز اختصاصاتها بنظر طعن في غير الأحوال المقررة لها، وهكذا نجد أن العمل القضائي عمل جماعي وشاقّ، ودقيق في كل مرحلة من مراحل التقاضي لضمان الاحتراز من الهوى فيه، وذلك كله من باب السياسة الشرعية المرعية في كل أمة، ضبطًا لمسألة اتباع الهوى أو الشطط في الأحكام القضائية.



[1] رواه البخاري، ج4، ص 294، رقم 1063.

[2] رواه البخاري، ج7، ص 235، رقم 1930.

[3] التيسير بشرح الجامع الصغير، ج2، ص 665.

[4] التسهيل لعلوم التنزيل، ج1، ص 1781.

[5] رواه الطبراني في المعجم الأوسط، ج4، ص 245، وصححه الألباني: صحيح كنوز السنة النبوية، ج1، ص209.

[6] رواه البخاري، ج11، ص 74، رقم 3053، رواه أحمد، ج23، ص 11، رقم 10966، وصححه الألباني: صحيح كنوز السنة النبوية، ج1، ص 209.

[7] الدر المنثور للسيوطي، ج8، ص 381، نقله عن مجاهد.

[8] النكت والعيون، ج3، ص 486.

[9] الدر المنثور، ج8، ص 381، أخرجه ابن جرير والحاكم عن السدي.

[10] الشيخ مصطفى العدوي: https://www.youtube.com/watch?v=DdyCGkmvHs8

[11] الشيخ محمد بن عبدالوهاب التيمي: مختصر سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ج1، ص 87، جامعة الإمام محمد بن سعود.

[12] رواه أبو داود، ج8، ص 177، رقم 2559، وصححه الألباني: السلسلة الصحيحة، ج2، ص 205، رقم 629.

[13] الوسيط لطنطاوي، ج1، ص 3609.

[14] شرح النووي على مسلم، ج12، ص 14.

[15] الشنقيطي: أضواء البيان، ج3، ص 215، الزمخشري: الكشاف، ج6، ص10.

[16] البحر المحيط، ج9، ص 339.

[17] تفسير الألوسي، ج11، ص 171.

[18] رواه البخاري، ج9، ص 176، رقم 2483.

[19] ابن عثيمين: شرح رياض الصالحين، ج1، ص 252.

[20] اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان، ج1، ص 526.

[21] شرح النووي على مسلم، ج12، ص 14.

[22] رواه الترمذي، ج5، ص 171، رقم 1254، وصححه الألباني: سنن الترمذي مع تعليقات الشيخ أحمد شاكر والألباني، ج3، ص 620، رقم 1334.

[23] التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي، ص 1787.

[24] تفسير أبو السعود، تفسير الألوسي، ج17، ص 318، تفسير الرازي، ج 13، ص 183.

[25] نظم الدرر، ج6، ص 376.

[26] أبو السعود، إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم، ج5، ص 471، وهو أقرب إلى القول بعصمة الأنبياء، فمن قال إنهما بشر وليسا ملائكة لم يوفق للقول بعصمتهم.

[27] رواه ابن ماجه، ج7، ص 104، رقم 2306، وصحَّحه الألباني: صحيح ابن ماجه، ج 2، ص34، رقم 1873.

[28] رواه الترمذي، ج5، ص 322، رقم 1344، ومعناه صحيح، أخذ به علماء الأصول وإن ضعف إسناده.

[29] شرح سنن أبي داود لعبدالمحسن العباد، ج19، ص 101.

[30] شرح السنة للإمام البغوي، ج10، ص 118.

[31] الأشباه والنظائر للسيوطي، ج1، ص 122، ابن عبدالبر الاستذكار، ج7، ص 511، نيل الأوطار للشوكاني، ج7، ص 156.

[32] برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر، رئيس المحكمة، والسادة المستشارين/ الدكتور محمد إبراهيم أبو العينين، وفاروق عبدالرحيم غنيم، وعبدالرحمن نصير، وسامي فرج يوسف، ومحمد علي عبدالواحد، وماهر البحيري،القضية رقم 13 لسنة 12 قضائية دستورية، جلسة 2 فبراير سنة 1992. نشر بالجريدة الرسمية، العدد رقم 8، بتاريخ 20/2/1992 . القضية رقم 49 لسنة 17 قضائية دستورية، جلسة 15 يونية سنة 1996. نشر بالجريدة الرسمية، العدد رقم 25 في 27/6/1996 .

[33] رواه الترمذي، ج11، ص 319، رقم 3355، وصححه الألباني: صحيح الترمذي، ج2، ص 153.

[34] دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين، ج6، ص 120.

 





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر

مقالات ذات صلة

  • دروس من قصة الغلام المؤمن (خطبة)
  • عبر ودروس من قصة آل عمران عليهم السلام (خطبة)

مختارات من الشبكة

  • إضاءات منهجية من بعض مواقف الإمام مالك العقدية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • القرآن منهجية شاملة لهداية البشر(مقالة - آفاق الشريعة)
  • خطبة: من وحي عاشوراء (الطغاة قواسم مشتركة، ومنهجية متطابقة)(مقالة - آفاق الشريعة)
  • بين الثناء على البخاري ورد أحاديثه: تناقض منهجي في رؤية الكاتب(مقالة - آفاق الشريعة)
  • التطوير المنهجي متعدد التخصصات في واقع التعليم الأمريكي ومسارات التعليم العربي لتحسين مخرجات المستقبل(مقالة - مجتمع وإصلاح)
  • نقد المنهج المعاصر في تضعيف الأحاديث الصحيحة: دراسة في مظاهر الخلل المنهجي ومخاطر الابتعاد عن أصول النقد الحديثي(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منهج القرآن الكريم في تنمية التفكير التأملي(مقالة - ثقافة ومعرفة)
  • مرتكزات منهج التيسير في الشريعة الإسلامية(مقالة - آفاق الشريعة)
  • منهج أهل الحق وأهل الزيغ في التعامل مع المحكم والمتشابه: موازين الاستقامة والانحراف(مقالة - آفاق الشريعة)
  • أهم الأخطاء المنهجية في الرسائل الأكاديمية، وأسبابها، وكيفية علاجها (PDF)(كتاب - مكتبة الألوكة)

 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

مرحباً بالضيف
الألوكة تقترب منك أكثر!
سجل الآن في شبكة الألوكة للتمتع بخدمات مميزة.
*

*

نسيت كلمة المرور؟
 
تعرّف أكثر على مزايا العضوية وتذكر أن جميع خدماتنا المميزة مجانية! سجل الآن.
شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • بنر
  • بنر
كُتَّاب الألوكة
  • تكريم طلاب الدراسات الإسلامية جنوب غرب صربيا
  • ختام الندوة التربوية لمعلمي رياض الأطفال المسلمين في البوسنة
  • انطلاق سلسلة محاضرات "ثمار الإيمان" لتعزيز القيم الدينية في ألبانيا
  • أكثر من 150 مشاركا يتعلمون مبادئ الإسلام في دورة مكثفة بمدينة قازان
  • انطلاق فعاليات شهر التاريخ الإسلامي 2025 في كندا بمشاركة واسعة
  • أطباء مسلمون يقودون تدريبا جماعيا على الإنعاش القلبي الرئوي في سيدني
  • منح دراسية للطلاب المسلمين في بلغاريا تشمل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه
  • مبادرة "زوروا مسجدي 2025" تجمع أكثر من 150 مسجدا بمختلف أنحاء بريطانيا

  • بنر
  • بنر

تابعونا على
 
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة
آخر تحديث للشبكة بتاريخ : 16/4/1447هـ - الساعة: 15:38
أضف محرك بحث الألوكة إلى متصفح الويب