محطات في رحلة البرازيل (4) - بين تاجرين

محطات في رحلة البرازيل (4)

بين تاجرين

ذهب تجار العرب المسلمون لجنوب شرق آسيا، ولم يكونوا دعاة؛ بل كانوا تجارًا، اصطبغت تِجارتهم بقيمهم ومبادئهم التي استمدُّوها من دينهم الحنيف، وكانوا يُمارِسونها ديانةً وقناعةً بأن الله لم يُشرِّع شيئًا إلا وكان خيرًا للعباد، فانبهر الناس بتعاملهم، فهم لا يسرقون، ولا يحتالون، ولا يُرابون، ولا يُطفِّفون الوزن والمكيال، ولا يَكذِبون بُغية تحصيل دراهم معدودات، ولا يُمارِس أحدهم المكر الذي يجلب له المال بأيسر الطرق، بل كانوا يصبرون ويتقون الله ويُراقِبونه، حتى وإن خسر أحدهم تِجارته فيعتبرها مصيبة حلَّت عليه من عند نفسه، فيرجع لله - عز وجل - ويتوب إليه ويستغفره، ويعود لنفسه فيقوِّمها ويقوِّم اعوجاجها، وإن أصابه الخير والمكسب الحلال، شكر الله على ما أنعم عليه، وكذلك لم ينسوا الفقراء، فأنفقوا عليهم الزكاة والصدقات.

وقد وصفهم الشيخ عائض القرني بقوله: "كان التاجر يذهب إلى جاكرتا في إندونيسيا وهو تاجر لا يحفظ إلا الفاتحة و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ و﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾، فيرون وجهه، فإذا عليه النور، ويَرون معاملته، فإذا هي الصدق والوفاء، ويَرون أخلاقه فإذا هو قرآن يمشي فوق الأرض، فيدخلون في دين الله أفواجًا"[1].

وها هو نِتاجهم، فمعظم مسلمي جنوب شرق آسيا نِتاج هؤلاء التجار، حتى غدت إندونيسيا أكبر دولة إسلاميَّة من حيث عدد السكان؛ إذ بلغ عددهم ما يَزيد عن 250 ميلون نسمة.

ولقد رحل تجار العرب إلى البرازيل، فكان بعضهم همه تحصيل المال من أي مكان وبأي طريقة، لا يَردعهم دين، ولا يثنيهم خوف من الله - عز وجل - نعم، إنهم تجار وليسوا لصوصًا، لكنهم كغيرهم ممن بلغ بهم الجشعُ والطمع حتى جعلوا الخداع نهجًا، والربا مغنمًا، فتاجَروا بالمُحرَّمات، وسلكوا كلَّ الطرق الجالبة للمال.

ويغلِب على أهل البرازيل اليوم البساطة والفقر، فيكفي أحدَهم إشباعُ جوعته، وإطفاء شهوته، وحسْبُه من الدنيا أن يؤمِّن له دخلاً مستمرًّا لا يَزيد عنه ولا يَنقُص، يسير في هذه الحياة كما تسير البهائم، ويتحصَّل منها على ما يفي لتحقيق مراده فقط.

ولقد ترفَّع بعض تجار العرب وتعالوا عليهم، إذ كيف بهم يتآخون مع فقير يتَّهِمه بعضهم بأنه لم يُسلِم إلا بُغية المصلحة المالية؟! مما دعاهم لأن يترفَّعوا عن مجالستهم، فأصبح مسلمو العرب شيئًا ومسلمو البرازيل شيئًا آخر، وإذا دخل المسلم الجديد للمسجد، فلا يجد الترحيب ولا البشاشة بحضوره، فإن وفَّقه الله لمن يُوضِّح له الإسلام، فيُفرِّق بينه وبين تعامُل بعض المسلمين السيئ، وإلا كان تعامُل وخُلُق المسلمين هو المنفر له.

قال لي شابٌّ بعد عودتي: ما هي أساليب الدعوة؟ وكيف أكون داعيًا لله؟ وكيف يقبل الناس مني ذلك؟

قلت له: لماذا لا نسأل أنفسنا: كيف نكون مسلمين مؤمنين نُطبِّق الدين على أنفسنا أولاً؟! ونحيا به صباح مساء، تَنصبِغ به حياتنا، وتقف عنده نزواتنا، فنكون أنموذجًا فريدًا، ونصبح أفرادًا ناجحين، ومجتمعًا فاضلاً، عندها نكون على نهْج الصحابة بتطبيقهم لدين الله، وتقيدهم بالقرآن والسنة؛ فنكون كما قيل فيهم: قرآنًا يمشي على الأرض.

أخي الحبيب، إن مما يقنع الآخرين بدعوتك، أن تقتنع أنت أولاً بها، فتقف أينما وقَفَتْ وتَسير أينما سارت، تحيا بها وتموت عليها، فهي سرُّ سعادتك، فلا تبتغِ السعادة في غيرها.

عندما تعيش تعاليم الإسلام بأنها شرعت لمصلحتك ولنفعك دنيا وآخرة، وليست مجرد تكاليف بأن تفعل أو لا تفعل تُلزَم بتطبيقها دون تذوُّق حلاوتها، كمثل شابٍّ يُكلَّف بأمور يشعر بمضاضة تطبيقها وقسوتها على نفسه، فهي تَحُدُّ من حريَّته، وتأسِر من انطلاقاته، فيَحنَق على مَن يُجبره، سواء كان أبًا أو مربِّيًا له، لكن عندما يعي أن تلك الأوامر ما أُلزِم بها إلا بُغية مصلحته ونفعه، فيستشعِر فداحة تفريطه بها، حينها يستقيم عوده، وتصلح حياته، عندها يصبح أنموذجًا للشباب، فيكون محط أنظارهم ومطلبهم إن أرادوا نجاحًا.

أسأل الله أن يهدينا جميعًا لسلوك الصراط المستقيم.

المصدر: كتاب: محطات في رحلة البرازيل لمؤلفه عبدالله أحمد أبوبكر باجعمان