صمت الرحيل

صمت الرحيل

(نرحل بصمتٍ، وصمتُنا يرحل معنا)!

هذا ما حدث معنا، نحن نازحي العراق وسوريا، فقد تركْنا منازلَنا ورحلنا عنها بصمتٍ وبدون كلامٍ، وبقيت المنازل صامتةً على ذلك الرحيل؛ لأنه فجأة أُخليت المنازل من أهلها، وبقيت الأماكن خالية..

ما أصعبها من ظروف! وما أقساها من لحظات! تلك التي رحلنا فيها إلى طريق المجهول، فحدَث معنا ما حدث.

فالذي حدث معنا ليس بقليلٍ؛ ذلٌّ وفراق ورحيل، ودموعنا على الخدود تسيل، الحي الذي بقي منا عليل، والطفل عابر سبيل!

الذي حدث معنا ليس بقليل؛ موت وصراخ وعويل، والميت منا ذليل، هذا شيء مستحيل، فحسبي الله ونعم الوكيل.

(نرحل بصمتٍ، وصمتنا يرحل معنا)!

هذا ما تراه كلما يمرُّ يومٌ من الأيام تتساقط أرواح الشباب العربي بصمتٍ، كما تتساقط أوراق الخريف، فلا تُحِسُّ بهم، إلا أنك ترى أجسادهم ملقاةً على الطرقات، كما تُلقى أوراق الخريف، بعدما كانوا كما تكون الأوراق على الأشجار مخضرَّة يانعة، تنعش النفس برؤيتها، هم هكذا كانوا، فلمَ ترحلون يا شباب الأمة على عجالة من أمركم بصمتٍ؟! فشعوبكم محتاجة إليكم؛ لأنكم قوتها، وحماة أراضيها، وسدُّها المنيع ضد أي قوة استعمارية رجعية.

(نرحل بصمتٍ، وصمتنا يرحل معنا)!

نحن الذين رحلوا بوجعٍ، وهاجروا إلى بلاد اللجوء، إلى سواحل الضياع، إلى حيث نبحث عن الأمان، لكننا رغم إيجادنا للأمان بعدما قطعنا شوطًا من الرعب، الذي انتابنا من أجل أن نصل إلى تلك البلاد، فإنه يستقر معنا الفقدان أينما نحل، مثل فقدان البلاد والأهل والجيران، وكل العَلاقات الحميمة، وحتى الطرقات التي كنا نسير فيها، وذكرياتنا في بلادنا بحلوها ومرِّها، رحلنا عنها بصمتٍ، وتركناها تتوجع من رحيلنا عنها.

(نرحل بصمت، وصمتنا يرحل معنا)!

نحن أطفال النزوح واللجوء، رَحَلْنا عن مقاعدِنا الدراسية، وعن مدارسنا وطرقاتها بصمت، وفي أوقات قليلة تحوَّلت المدارسُ إلى ساحات كبيرة لا حدود لها، ولا أمان ولا حقوق، فقد ضاعت حقوقنا في بلادنا وخارجها، ووجدنا أنفسنا بلا مدارس، بلا مأوى يجمعنا، رحَلنا عن تلك اللحظات التي كنا فيها يجمعنا سقف واحد، وطاولة طعام واحدة، تغيَّر كل شيء، فقد أصبحنا نلتقط فُتات الطعام، ووجدنا أنفسنا مشرَّدين في أرض العراء، لا أرض تحمي سوى العناء، فقد جرَّدونا من البراءة بكل قساوة وجَراءة، وبعد كل ما حدث معنا، أصبحنا في نهاية الأمر أيتامًا بلا أقلام؛ أي: أطفالًا بلا آباء، وبلا مدارس وعلم.

(نرحل بصمت، وصمتنا يرحل معنا)!

نحن شيوخَ العراق وسوريا النازحين، فقد رحلنا عن بلادنا وأراضينا، وعن كل شيء له مكانة في قلوبنا ونفوسنا؛ من أماكنَ وأشجار، ونخيل وأنهار، ووجدنا أنفسنا - رغم شيخوختنا - منهكين ولا طاقة لنا بالحروب والظلم والتشرد، لكننا تحمَّلنا وطال الزمان بنا، وضاع الأمان، وتخللتنا الأحزان، ولكن لكل حكاية نهاية، فقد كانت نهاية أكثرِنا أنهم ماتوا بعيدين عن بلادهم.

فقد رحلنا بصمتٍ، ورحل معنا صمتنا!

فليس الرحيل رحيلًا، وإنما وداع أبدي؛ لأنه يمكن أن يكون الرحيل وداعًا، وليس كل وداع بالدنيا نسمِّيه الوداع الأبدي، الذي هو وداع الدنيا بحالها، وداع العمر بأكمله، وهذا ما حدث للشيوخ والشباب، والأطفال والنساء، الذين ماتوا في غير بلادهم، ودُفنوا بغير مقابرهم وأراضيهم، وبذلك تحقَّق عليهم الرحيل بصمت، أو صمت الرحيل!