• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الدكتور زيد الرماني  الدكتور زيد بن محمد الرمانيد. زيد بن محمد الرماني شعار موقع الدكتور زيد بن محمد الرماني
شبكة الألوكة / موقع د. زيد بن محمد الرماني / مقالات


علامة باركود

الحج: غاياته وإعجازاته

الحج: غاياته وإعجازاته
د. زيد بن محمد الرماني


تاريخ الإضافة: 1/6/2025 ميلادي - 4/12/1446 هجري

الزيارات: 206

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الحج: غاياته وإعجازاته


كان العرب قبل الإسلام كسائر الأمم يحجون في عهد جاهليتهم إلى البيت الذي بناه إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام في مكة، حتى إن أبرهة عامل أصحمة ملك الحبشة باليمن ابتنى قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بنحو أربعين سنة كنيسة في صنعاء، وحاول أن يحمل العرب على الحج إليها، فلما لم ينجح في محاولته اعتزم أن يهدم الكعبة، فقصدها على رأس جيش ممتطيًا صهوة فيل له، فردَّه الله عنها، ولم يبلغ مراده منها.

 

ولما جاء الإسلام جعل الحج ركنًا من أركانه الخمسة، وهو أشد أركانه كلفة؛ لذلك أحاطه بكثير من وجوه الإعفاء جريًا على أسلوبه الحكيم في دفع الحرج عن متبعيه مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحج: 78]، وقوله: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ﴾ [المائدة: 6]، فاشترط له الاستطاعة من صحة ومال، وكره أن يرهق فيه أحد نفسه ولو تطوعًا وتطلبًا لزيادة الأجر.

 

يقول الأستاذ محمد فريد وجدي: لقد أقرَّ الإسلام الحج؛ ولكنه لم يدعه على ما كان عليه في عهد الجاهلية، فإن العرب كانوا يطوفون بالبيت عُراة الأجساد رجالًا ونساءً مشبكين بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون، وقد سجل الله عليهم ذلك، فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ﴾ [الأنفال: 35]؛ المكاء: الصفير، والتصدية: التصفيق، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم لما قوي سلطان الإسلام ألا يدخل البيت عريان.

 

ونظم صلوات الله وسلامه عليه الحج؛ فجعل له أميرًا يتقدم الناس ويتفقدهم، ويدفع بوائق الطريق عنهم، حتى إذا انتهوا إلى البيت تولاهم هو وخطباؤه بالإرشاد لخيري الدنيا والدين.

 

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد تعميم العلم بأمر من الأمور خطب به الناس في الموسم، أو أوعز إلى أميره أن يخطب الناس به هنالك.

 

فحوَّل الإسلام الحج على هذا الوجه من عبادة جسدية لا روح فيها إلى عبادة اجتماعية روحية ذات أثر بليغ في ترقية شؤون المسلمين، وقد أشار الله تعالى إلى هذه المزايا العظيمة بقوله تعالى: ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ ﴾ [الحج: 27، 28]، وقد فسَّر العلماء المنافع بأنها دينية ودنيوية معًا، وهذا شأن الإسلام في كل ما فرضه على الناس؛ يراعي فيه مصلحة الحياتين جميعًا.

 

فلو أردنا أن نستقصي ما يمكن أن يثمره الحج للمسلمين كافة من وجوه المنافع الأدبية والمادية لضاق علينا المجال، فإنْ لم يكن فيها إلا تعارف الشعوب الإسلامية، وإلمام بعضها بحاجات بعض؛ لكفاها ذلك عاملًا قويًّا في دفعها إلى تبادل الوسائل والتعاون على سد المفاقر، ولوصلت جميعًا على هذا النحو من التكافل إلى مستوى رفيع بين شعوب العالم.

 

ولكن هذه الثمرات الاجتماعية الجليلة لا يمكن أن تكون إلا إذا تطورت فكرة الحج لدى المسلمين حتى تبلغ المفهوم من مراد الله من الحج، فإن المشاهد لدى أكثر المسلمين الآن أنهم لا يلحظون فيه إلا الناحية الروحية وحدها، وكان لتجريده لهذه الناحية أثر ظاهر في حصره في طبقة من المسلمين لا تتعداها إلا نادرًا.

 

إن حكم الحج كثيرة، وفي كل واحد من أعمال المناسك تذكرة للمتذكر وعبرة للمعتبر، وقد شرف الله البيت الحرام، بالإضافة إلى نفسه، ونصبه مقصدًا لعباده، وجعل ما حوله حرمًا لبيته تفخيمًا لأمره، وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره.

 

وفي الطواف بالبيت تشبه بالملائكة المقربين الحافين حول العرش، الطائفين حوله، وما القصد طواف الجسم فحسب؛ بل طواف القلب بذكر الرب.

 

وفي السعي بين الصفا والمروة إظهار للخلوص في الخدمة، ورجاء للملاحظة بعين الرحمة.

 

وفي الوقوف بعرفة، وازدحام الخلق، وارتفاع الأصوات باختلاف اللغات تذكر لاجتماع الأمم بين يدي الله تعالى يوم القيامة.

 

وفي رمي الجمرات طاعة للرحمن، وانقياد لأمره، وإرغام للشيطان، وقصم لظهره، وفي كل مشعر وكل شعيرة حكم ومقاصد نبيلة.

 

هذا قليل من كثير، وغيض من فيض من مقاصد الحج وحكمه وفوائده، وما أفضل الحج، وشد الرِّحال إلى المسجد الحرام في البلد الحرام موطن الرسول، ومهبط الوحي، ومطلع النور!

 

ما أعظم الحج في عاصمة الإسلام، ومهوى أفئدة بنيه ومجتمع المسلمين كل عام من جميع أقطار الأرض على تعداد أجناسهم، وتنوع لغاتهم، وتنائي بلدانهم يجتمعون ليشهدوا منافع لهم روحية وجسدية، دينية ودنيوية، فضلًا من الله ونعمة!

 

ما أجمل رؤية الحجاج محرمين وملبِّين، ولله درُّهم طائفين وعاكفين، وراكعين وساجدين، وساعين بين الصفا والمروة، ومتعارفين متراحمين في بيت الله عز وجل، يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا!

 

إنَّ مما ينبغي تأكيده أنَّ للحج في شعائره حكمًا وأسرارًا، وإن في كل عمل من أعمال مناسك الحج تذكرة للمتذكر، وعبرة للمعتبر، إذا انكشف بابها ظهر من أسرارها ما يقتضيه صفاء قلبه، وغزارة علمه وفهمه.

 

ثم إن الحج هو مؤتمر المسلمين العام الذي يُعقد كل عام في منزل الوحي، وفي البلد الأمين، وفي المسجد الحرام مهد الإسلام، ومطاف المسلمين، فما يظهر فيه من ألفة ومحبة يفوح شذى عَرْفه في سائر الأقطار الإسلامية، فيكون له أجمل وقع في نفس كل مسلم، فلا عجب إذا لبَّى المسلمون نداء ربهم.

 

نعم يعتبر الحج ((المؤتمر الإسلامي الأكبر)) الذي يلتقي فيه المسلمون - على اختلاف شعوبهم وألوانهم وألسنتهم، وتباعد ديارهم وأقطارهم - ليتعارفوا ويتعاونوا على حل مشكلاتهم، والفصل في قضاياهم، وتبادل الآراء والأفكار، وبذل المساعدات المادية والروحية حتى يحققوا قول الله تبارك وتعالى فيهم: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾ [آل عمران: 110].

 

وإذا كان الإحرام والتجرد من الثياب المخيطة هو رمز المساواة بين المسلمين جميعًا أمام خالقهم؛ فلا تفاضل أو تميز بجاه أو مال أو ثياب، ولا بلون أو جنس أو لسان؛ بل الكل عباد، وهم أمام الواحد القهار سواء، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود، إلا بتقوى الله والعمل الصالح.

 

وإذا كان الطواف حول الكعبة المشرفة، واتجاه المسلمين من مشارق الأرض ومغاربها إليها في كل صلاة هو رمز لوحدة الهدف والغاية، وهي عبادة الله والفوز برضوانه.

 

وإذا كان رمي الجمار تمثيلًا رائعًا لطاعة الرحمن وعبادته، ورجمًا للشيطان ومخالفته، والدفاع عن الحق، ومواجهة الباطل وإنكاره.

 

وإذا كان النحر تحقيقًا للإخاء والتعاون، والتكافل بين المسلمين بإطعام الفقراء والمساكين في يوم العيد.

 

إذا كانت كل هذه المناسك والشعائر هي رموز لهذه المقاصد السامية والغايات الشريفة والمبادئ الكريمة، فإن أروع ما في الحج من مقاصد وأهداف وغايات، هو تجسيد معنى أن المسلمين - على اختلاف شعوبهم وألوانهم وجنسياتهم - هم ((أمة واحدة)) و((وطن واحد))، وهذا يتجلى بأروع مظهر يوم الوقوف بعرفة.

 

فجميع الحجاج الذين وفدوا من كل بلد وقطر، وقفوا في ثياب واحدة بيضاء، رمز الطهر والصفاء، حاسرة رؤوسهم، يرفعون الأكف في ضراعة وخشوع، وانكسار وخضوع، يذكرون ربًّا واحدًا وخالقًا واحدًا، ويسألونه المغفرة وقبول التوبة، والرحمة والعفو عن الذنوب والسيئات، ويدعون ويلحون عليه في الدعاء، راجين منه العون.

 

وفي هذا الموقف ترى العربي والهندي، والفارسي والإفريقي، والتركي والأفغاني، والإندونيسي والأوروبي والأمريكي، يذكرون الله وحده بلسان عربي، لا بلغة أعجمية ولا بلهجة إقليمية مردِّدين: ((لا إله إلا الله محمد رسول الله))، ((لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) ((سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)).

 

هناك على عرفات، ترى الشعوب الإسلامية - على اختلاف ديارها، وتباعد أقطارها، واختلاف ألوانها وألسنتها وأزيائها - قد انصهرت في بوتقة الإسلام، هنا يتجلى ويتجسد معنى أن المسلمين ((أمة واحدة)) وأن ((الإسلام وطن وجنسية))، وصدق الله العظيم إذ يقول: ﴿ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [الأنبياء: 92].

 

فالمسلمون في مشارق الأرض ومغاربها أمة واحدة، يعبدون ربًّا واحدًا، ويتبعون رسولًا ونبيًّا واحدًا، ويحكمون دستورًا وقرآنًا واحدًا، ويعيشون على رقعة من الأرض، إن اتسعت وامتدت من المحيط إلى المحيط، إلا أنها وطن واحد.

 

تُرى هل فقه الحجاج الواقفون على عرفات هذا المعنى؟ وهل أدركه المسلمون من غير الحجاج - وقد سُنَّ لهم أن يصوموا يوم عرفة - ليتصلوا بقلوبهم وأرواحهم بإخوانهم الحجاج؟

 

وهل يسعى الجميع ليحققوا هذا الهدف النبيل والغاية السامية من مقاصد الحج؟

 

إذ في الحج توحيد الله تعالى والإيمان به إيمانًا صادقًا، والتصديق بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن أبرز مشاعر الحج هي التهليل والتكبير والتلبية، ولسان الحاج لا يفتر عن ذلك أينما حل أو رحل، وهو حين يؤدي مناسك حجه وعمرته يتبع ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فعله عليه الصلاة والسلام.

 

حتى إن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما رأى الرَّمَل- وهو إسراع الناس بالمشي عند الطواف- أراد أن يمنع الناس من ذلك بحجة أن الرَّمَل إنما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهرًا مقصودًا؛ ليرى منه المشركون أن المؤمنين أقوياء أصحاء؛ لأنهم كانوا يقولون: لقد طحنتهم حمى يثرب، فظنوا بهم الضعف، فأراد المسلمون أن يظهروا بمظهر القوة في طوافهم، فكان ذلك الرَّمَل؛ أي: الإسراع، هكذا رأى عمر أولًا، ثم عاد إلى نفسه، فقال: لا ينبغي أن نبطل شيئًا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلعل الرَّمَلَ مشروعٌ تعبُّدًا، أو لحكمة غير هذه لا نعلمها.

 

وبذلك بقي الرَّمَل من سنن الطواف، وهذا اقتداء واتباع للرسول صلى الله عليه وسلم، وكثير من أفعال الحج كذلك.

 

وقد قال عمر في تقبيل الحجر الأسود: والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبَّلتك.

 

يقول الأستاذ محمد محمد المدني: لو أننا تتبعنا الكثير من أعمال الحج من طواف وسعي ورمي وإحرام؛ لوجدناها كلها إنما تنبعث من مبدأ الإيمان بالله، والتصديق برسوله، والرضا بحكم الله ورسوله؛ وذلك لأنها أمور تعبُّدية قد لا تظهر حكمتها لكثير من الناس، فطاعة الله فيها هي بذاتها آية على صدق الإيمان بالله إلهًا واحدًا، ومشرعًا حكيمًا، وصدق الإيمان برسوله نبيًّا هاديًا، ومبلغًا يتبع ما يوحى إليه.

 

وفي الحج تؤدَّى الصلوات المفروضة، ويزداد المصلي قربًا إلى الله بقربه من الكعبة المشرفة التي جعلها الله قبلة للمسلمين يولون شطرها وجوههم حيثما كانوا.

 

فالمصلي حين يتجه إلى الكعبة وهو في بلده يهفو قلبه إلى هذه القبلة، ويشعر نحوها بالتعظيم والإجلال، وبالشوق والحنين، فإذا حج وطاف بالبيت وتمتع برؤية الكعبة المشرفة، وصلى متجهًا إليها وليس بينه وبينها فاصل - بعد أن كان بينه وبينها آلاف الأميال - لا شك أنه حينذاك يشعر بالقرب ولذته، فيكون الاتجاه في الحج محسوسًا ملموسًا.

 

ثم إن المصلي يظل يعبد الله زمانًا وهو بعيد عن حرمه وبيته، فإذا حج فقد دُعي بهذا الحج إلى زيارة بيت الله، فمثله كمثل رجل سمع من بعيد بعظيم من العظماء، فجعل يتصور عظمته، ويعمل كل ما يرضيه على بُعده، ثم يزوره في بيته، فلا شك أنه يجد من الفرحة واللذة والصلة، والقرب والأنس أضعاف ما كان يجد وهو بعيد، ((ولله المثل الأعلى)).

 

وإذن فروح الصلاة وسرها وعمق معناها الذي توحي به، كل ذلك يتهيأ في الحج أكثر مما يتهيأ قبله، وبه تتوطد الصلة بين العابد والمعبود على أكمل وجه.

 

وفي الحج بعد ذلك بذل المال والجود به، وهو المعنى الذي تصدر عنه الزكاة، بل إن بذل المال في سبيل الحج يقترن بأن الإنسان يترك عمله ومصادر رزقه، ويتخلى عن كل مورد من موارده - ولو إلى حين - كي يؤدي فريضة الحج، فالتضحية في الحج تضحية مزدوجة؛ لأنها تضحية في المورد، وتضحية في الصرف، أما الزكاة فإنها تضحية في الصرف فقط.

 

وفي الحج أيضًا رقابة للنفس كرقابة الصائم؛ إن من يفرض الحج على نفسه يجب أن يلتزم بأدب الحج التزامًا قويًّا، فهو في حالة إحرام مادي حينًا، ومعنوي دائمًا، فإذا كان الصائم يمتنع بعض يوم عن رغباته وشهواته، فإن الحاج يكف عن ذلك طول نهاره وطول ليله، ويمتد به هذا الحرمان أيامًا، وربما امتدَّ أسابيع.

 

والإحرام الذي لا يفارقه الحاج هو ذلك الشعور الملازم له بأنه ضيف الله في حرمه، وأنه إنما قدم تاركًا أهله وماله وجميع مصالحه ليلتمس من الله رحمته ورضوانه، وليتطهر من ذنوبه؛ تحقيقًا للأمل الشريف المنبعث من قوله صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه».

 

لقد فرض الله الحج على المسلمين ليحققوا الحكمة الجليلة، والسر المجيد في قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ [الحجرات: 13].

 

يقول الأستاذ محمود إبراهيم طيرة: يجتمع المسلمون في مكة، فيتعرف المصريُّ بالهنديِّ، والشاميُّ بالمغربيِّ، والفارسيُّ بالعراقيِّ، والحجازيُّ بالأفغانيِّ، واليمنيُّ بالجاويِّ، والنجديُّ بالتركيِّ، وهكذا تتقارب قلوبهم وإن تباعدت أجسادهم، وتجتمع كلمتهم وإن تفرق شملهم، وتنتظم صفوفهم وإن تبعثرت وحداتهم؛ فيصبحون على كثرتهم وتعدد أوطانهم، وتباعد بلادهم جسمًا واحدًا، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائره بالحمى والسهر.

 

فهناك يجتمع المسلمون من أقاصي الأرض، مزودين بالأموال الطائلة، والخيرات العظيمة، يدرونها على إخوانهم المسلمين، وفي هذا من التعاون المبني عليه نظام الكون ما لا يخفى على ذوي الألباب.

 

لقد شرع الله الحج رياضة للنفس، وتزكية للروح، وصفاء للقلب، وفرصة طيبة للرجوع إلى الله، فهنالك يجتمع المسلمون من فوق عرفات، أشباه حفاة عراة، قد جردوا أنفسهم من كل نعيم الحياة وزخارفها، واتجهوا إلى الله بقلب واحد، والمقصد الأسمى للجميع واحد، والمكان واحد، والرب واحد، وقالوا كلهم بلسان واحد: الله أكبر، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك لبيك، اللهم اغفر ذنوبنا، واستر عيوبنا، وكفِّـر عنا سيئاتنا، وتوفَّـنا مع الأبرار، فيستجيب الله دعاءهم، ويخرجهم من ذنوبهم كما يخرج الطفل يوم ولدته أمه.

 

يجتمعون هكذا حفاة عراة مجردين من كل نعيم، اللهم إلا من قلب ينبض بذكر الله، ولسان ينطق بعظمة الباري جل علاه؛ ليكون هذا الموقف الرهيب تذكيرًا لهم بيوم المحشر، كل بنفسه مشغول وبعمله رهين ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ ﴾ [عبس: 34 - 37].

 

نعم، شرع الله الحج على المسلمين ليعرفهم ببلادهم الأولى، مشرق شمس النبوة، ومهبط الوحي حيث كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل الأمين من عند رب العالمين.

 

نعم، وجب على المسلم أن يحج بيت الله ليرى بعيني رأسه تلك البلاد المقدسة، التي بعثت أول قبس من نور العلوم والمعارف أضاء العالم، وهو يومئذٍ يتخبط في لُجَّة من الجهل والضلال والخسران، ونشر على المعمورة ألوية العدل والحرية والسلام في زمان الظلم والأنانية والاستبداد والاستعباد الضارب أطنابه في سائر الأمم والبلاد.

 

وا أسفاه! ألا يمتع المسلم أنظاره بهذه المشاهد المشرفة، ويعرف هذه البلاد المقدسة، التي تشد إليها الرحال، وتنتهي عندها الغايات والآمال.

 

إن العمل العظيم في مغزاه ليصغر إذا جهل الناس هدفه ومرماه، وكذلك هذا الحج أقام الله به دعائم الصلاح والقوة في الحياة؛ ولكن - مع الأسف - فقد أصبح عند بعض المسلمين عبادة آلية عادية يؤدونها، وخيرهم من يرجو بها المثوبة والأجر، أما ما وراء ذلك من منافع مادية وروحية واجتماعية فإنهم لا يطيلون فيها التفكير، ولا ينظرون إليها نظرة الفاحص الخبير.

 

إذا تقرر هذا كان من أوجب واجباتنا أن ننوه بمنافع الحج للدين والدنيا معًا، وأن نكثر من ترويج هذه الحقيقة في الأذهان، وأن ننبه خطباء المساجد إلى ملاحظة هذا الأمر الجلل في شهور الموسم من كل عام.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • مقالات
  • قراءات وملخصات
  • صوتيات
  • بحوث ودراسات
  • كتب
  • محطات وخبرات
  • تحقيقات وحوارات ...
  • نُبذ عن الكتب
  • المطويات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة