• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  موقع الشيخ خالد الرفاعيالشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي شعار موقع الشيخ خالد الرفاعي
شبكة الألوكة / موقع الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي / استشارات


علامة باركود

{لا يُسألُ عمَّا يَفعل وهُم يُسْألُون}

الشيخ خالد بن عبدالمنعم الرفاعي


تاريخ الإضافة: 9/2/2012 ميلادي - 16/3/1433 هجري

الزيارات: 38518

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق 
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
السؤال:

السلام عليكم.

أنا طالبة في السنة الأخيرة في الجامعة، مررت مؤخرًا بتجربة قاسية جدًّا، كنت قد أرسلت لكم عنها في استشارةٍ خاصة قبل فترة، أخطأتُ كثيرًا؛ ولكني ظُلمت أكثر، جعلتني هذه التجربة أكره النَّاسَ، والدنيا، وحتى نفسي، وبدأت أتساءل: لماذا فعل الله هذا بي؟! خاصة أنني استخرته قبل بداية قصتي كلها، ولكنه جعلها تستمر؛ لتنتهي بكسري، وإن كان هذا اختبارًا، فلماذا وضعني في اختبارٍ يعلم أني أضعف بكثيرٍ من أن أنجح فيه؟ لماذا جعلني أمرُّ بكلِّ ما مررت به، ولا زلت أعاني حتى الآن منه، ولا زلت أعيش حياتي خائفة؟

والآن وبعد مرور أشهر على تجربتي تلك؛ أصبحَتْ تدورُ في عقلي الكثيرُ من الأسئلة، ولم يعد الأمر يقتصر على سخطي مما مررت به، فأنا الآن أتساءل: لماذا خلقنا الله؟ ستقول لي: كي نعبده، ولكن لماذا خلقنا لنعبدَه وهو الله وهو الغني عن عبادتنا؟ لماذا يجعلنا نعيشُ ونبكي ونتألم ونفرح ونحاسب ونخطئ؟ كل هذه التفاصيل إن كان هو غنيًّا عنَّا جميعنا وغني عن عبادتنا وعن مكافأتنا أو عقابنا، فما حاجته لعبادتِنا له؟ وإن كان خلقنا كي نعبده، ألا يجب أن نكون جميعًا بنفس الظروف؛ كي تكون المحاكمة عادلة؟ فأنا لا أرى أيَّ تكافؤ في الفرص بين الناس؛ فهناك من يولد في بيئةٍ متدينة، ومستقيمة؛ ومن الطبيعي أن تكون تربيته ملتزمة، رغم أنه لا يَدَ له في ذلك، وهناك العكس؛ من يولَدُ في بيئةٍ سيئة منحرفة، وتربيته تؤثر عليه سلبًا، ولا يَدَ له في ذلك، ولا ذنب له سوى أنه ولد في بيئة سيئة.

هذا إن كنَّا نتحدثُ عن المسلمين، ولكن حتى غير المسلمين؛ ما ذنبهم إن كانوا وُلِدوا على دينٍ غير دين الإسلام؛ ليتم زجُّهم في جهنم ومحاكمتُهم؟ خاصَّةً أنَّ زمن الرسل انتهى، وهم لا ذنب لهم، لماذا يحاكمهم الله وهو خلقهم هكذا؟ لماذا لا يوجد أي تكافؤ في الفرصِ بين الناس، لا في الدين، ولا في الظروف، ولا حتى في الاختباراتِ التي يمرُّون بها؟ إن الله لا يكلِّفُ نفسًا إلا وسعها، أليس كذلك؟ ولكن لماذا يجعلنا الله أحيانًا نختبر أمورًا ليست بوسعنا أصلاً؟ ولهذا تكون نتيجتها؛ إمَّا أن يجنَّ أصحابُها، أو يمرضون، أو يتفلتون للكفر والإلحاد؟ لماذا كل هذا الظلم في العالم؟ أي مغزًى يمكن أن نقولَه لفتاة تعرضت للاغتصابِ مثلاً؟ أو أب تعرَّض ابنه للقتل؟ أو وطن بكامله تعرض للاحتلال؟ ويقولون: إنَّ الابتلاء بقدر محبة الله، وهل كتب للمؤمن أن يعاني ويتألم ويذوق المر فقط لأنه مؤمن؟ ولأنَّ هناك جنة في انتظاره؟! حتى وصف جهنم؛ أجده أسطوريًّا بعض الشيء، وبه الكثير الكثير من الترهيب، هناك الكثيرُ من الأمورِ تثبت أنَّ الديانة المسيحية هي الصحيحة، ومثلما هناك إعجاز في القرآن، هناك مثله في الإنجيلِ والتوراة، فكيف أعرفُ أني على الدِّينِ الصحيح؟ أو كيف يعرف كلُّ واحدٍ هذا؟ وكل واحد يملك الأدلة على صحة دينه؟ حتى معجزة القرآن، وأنَّ آياته لا يستطيعُ أن يكتب أحدٌ مثلها؛ أيُّ متمكنٍ في الأدبِ يستطيع أن يكتبَ لك كلامًا يشبه آيات القرآن كثيرًا، وقد قرأت ذلك بنفسي، فأين الإعجاز في ذلك؟

أنا لا أكفر بوجودِ الله، شيء ما في داخلي يخبرني أنه موجود، ولكني لا أفهمُه، لا أفهمه أبدًا، وأكاد أُجَن من كثرة الأسئلة التشكيكية التي تمرُّ ببالي، رغم أني دعوتُ الله أن يريحني، ورغم أني تعوذتُ من الشيطان، وقد قيل: إنَّ التعوُّذ يطرد الوسوسة، ولكنها بقيت، فكيف ذلك؟ أعلم أنَّ أفكاري غير مترابطة، وأسئلتي أيضًا، ولكن اعذرني؛ فأنا موقنةٌ إنْ قرأتَ رسالتي، فستشعر بالحيرةِ التي أمرُّ بها، أنا متعبة جدًّا واللهِ، حتى إني بدأت أشعرُ أنَّ الأحاديث التي تصف ما بعد الموت وجهنم والصراط والبراق والجنة أشبه بالأساطيرِ اليونانية! أنا لست سيئة، لكني متعبة أكثر مما تتخيل، وتعبي قادني لكلِّ هذه الأسئلة التي أتمنَّى من كلِّ قلبي أن تجيبني عنها بإقناع؛ لأعود إلى الله؛ كما يحبُّ ويرضى؛ خاصة أني ومنذ بدأت كل هذه الأسئلة تدورُ في ذهني، وأنا بعيدة كليًّا عن الله، رغم أني أحوجُ ما أكون إلى قربه بعد أخطائي الماضية.

 

أتمنى أن تصلَكم رسالتي، وتُعَجِّلوا بإجابتي عن كلِّ ما ورد فيها بطريقةٍ تريحني؛ فأنا بي من الهمومِ ما يكفيني، ادع لي؛ أعتذر عن كثرةِ استشاراتي، وربما تجاوزي للحدودِ بأسئلتي.

 

الجواب:

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ ومن والاهُ، أمَّا بعدُ:

فلا داعيَ للاعتذار عن كثرة الاستشارات؛ فنحن هنا لنجيب عليكم، ونبذل الوسعَ لمساعدتكم، وإنما - حقًّا - ما يحتاج للاعتذار منه لله - تعالى - هو التجاوز والاسترسال في العباراتِ التي يظهرُ فيها الاعتراض، وكان الواجب الوقوف عند قوله - تعالى -: ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء : 23]،

فالواجِب على كلِّ مسلمٍ أن يعتقِدَ بأنَّ الله - تعالى - ربُّ كلِّ شيء ومليكُه، له التَّصرُّف المطْلَق، وله الحكْمة البالغة، يفعل ما يشاء ويحكم بما أراد، لا يُسأَل عمَّا يفعل، ولا معقِّبَ لحُكْمِه، ولا رادَّ لقضائِه، وأنَّه عليم حكيم عدْل، لا يظلمُ أحدًا؛ بل حرَّم - سبحانه - الظلمَ على نفسِه؛ قال - سبحانه وتعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء : 40]، وقال - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت : 46]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف : 49].

أمَّا الاحتجاجُ بأنَّ الله - سبحانه وتعالى - يخلُق الإنسانَ، ويكتُب مصيرَه من السَّعادة أو الشَّقاء، فهذا أمرٌ طبيعي للإلَه القادِر العليم، الَّذي يحيطُ علمُه بكلِّ شيءٍ من مَخلوقاته؛ ولذا قال: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾[الملك : 14]، وكيف يكون ربًّا للأشياءِ وهو لا يعْلمُ مصيرَها، ولا ما تؤُول إليْه؟!
وهذا لا يُنافِي عدْله - سبحانه - لأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - إنَّما يُحاسِب الخلقَ بمقتضى عمَلِهم وسعْيِهم، واختِيارهم لأنفسهم الخيرَ أو الشَّرَّ، ولا يُحاسبهم بمقتضى ما علِمَه منهم، وجعل للعبد اختيارًا ومشيئة وإرادة، بها يَختار طريقَ الخير أو الشَّرِّ، وبها يَفْعل ما يريد، وعلى أساسِها يُحاسب على أفعاله التي اختارها لنفسِه، فالاختِيار مع وجودِ العقل وعدم الإكْراه هو مناطُ التَّكليف، وإذا فُقِد ارتفع التَّكليف؛ قال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [آل عمران : 182]، وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما منكُم من أحدٍ، وما من نفس منفوسةٍ، إلاَّ كُتِبَ مكانها من الجنَّة والنَّار، وإلاَّ قد كتبت شقيَّة أو سعيدة))، قال رجُلٌ: يا رسول الله، أفلا نتَّكل على كتابِنا وندعُ العمل؛ فمَن كان من أهلِ السَّعادة فسيصير إلى عملِ أهل السَّعادة، ومن كان من أهلِ الشَّقاء فسيصير إلى أهل الشَّقاوة؟ قال: ((أمَّا أهلُ السَّعادة، فييسَّرون لعمل أهل السَّعادة، وأمَّا أهل الشَّقاوة، فييسَّرون لعمل أهل الشَّقاء))، ثمَّ قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ﴾ [الليل : 5 - 7]؛ رواه البخاري.
فالمرْء لن يعمل إلاَّ بما قدَّر الله له في كتابِه، ولكنَّه لما أُتيح له من الأسباب ما يُمكنه من سلوك الطَّريق السوي، وبيَّن له ذلك، وجهل ما قدره الله له مِن السَّعادة أو الشَّقاوة يوم القيامة - كان عليه أن يعمَل ويأخذ بالأسبابِ الشَّرعيَّة ويدع ما سواها، ويدعو الله أن يرزُقَه الثَّباتَ على الدِّين.
فإذا اطمأنَّت نفسُ المسلِم لذلك، فلا ينبغي له البحْثُ وكثرة السؤال، والاستِرْسال مع وساوِس الشَّيطان التي يُريدُ أن يفسِدَ بها دين المرْء ودُنياه وأُخراه.
وقد سُئِل شيخُ الإسلام - قدَّس الله روحه - عن قومٍ قد خصُّوا بالسَّعادة، وقوم قد خصُّوا بالشَّقاوة، والسَّعيد لا يشقَى، والشَّقِي لا يسعد، وفي الأعمال لا تراد لذاتِها؛ بل لجلْب السَّعادة ودفْع الشَّقاوة، وقد سبقنا وجود الأعمال، فلا وجْه لإتْعاب النفس في عمل، ولا كفِّها عن ملذوذ؛ فإنَّ المكتوب في القِدَم واقع لا محالة، بيِّنوا ذلك.
فأجاب - رحمه الله -: "الحمد لله، هذه المسألة قد أجابَ فيها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غيرِ حديث؛ ففي "الصَّحيحين": عن عمران بن حصين قال: قيل: يا رسولَ الله، أعُلِم أهل الجنة من أهل النار؟ قال: ((نعم)) قيل: ففيم يعمل العاملون؟ قال: ((كلٌّ ميسَّر لِما خُلِق له))، وفي رواية البُخاري: قُلْت: يا رسولَ الله، كلٌّ يَعمل لما خُلِق له أو لِما يسِّر له؟ رواه مسلم في "صحيحه".
عن أبي الأسود الدؤلي قال: قال لي عِمران بن حصين: أرأيتَ ما يعمل النَّاس اليوم ويكدحون فيه، أشيءٌ قُضِي عليهم ومضى عليْهم من قدر سابق، أو فيما يستقْبِلون به ممَّا أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجَّة عليهم؟ فقلت: بل شيء قُضِي عليهم ومضى عليهم، قال: فقال: أفلا يكونُ ذلك ظلمًا، قال: ففزِعْتُ من ذلك فزعًا شديدًا، وقلت: كلُّ شيء خَلْقُ الله ومِلْكُ يده، فلا يُسْأل عمَّا يفعل وهم يسألون، فقال: يرحَمك الله، إنِّي لم أُرِد بما سألتُك إلاَّ لأجود عقلك؛ إنَّ رجُلين من مزينة أتَيَا رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقالا: يا رسولَ الله، أرأيتَ ما يعمل النَّاس اليوم ويكدحون فيه، أشيءٌ قُضِي عليْهِم ومضى فيهم من قدَرٍ سابق، أو فيما يستقبلون به ممَّا أتاهم به نبيُّهم وثبتت الحجَّة عليهم؟ فقال: ((لا، بل شيءٌ قُضِي عليْهِم ومضى فيهم، وتصْديق ذلك في كتاب الله: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ﴾ [الشمس : 7 ، 8])).
وروى مسلم في "صحيحِه": عن زهيرٍ عن أبي الزبير عن جابر بن عبدالله قال: جاء سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسولَ الله، بيِّن لنا دينَنا كأنَّا خُلِقْنا الآن، فيمَ العمل اليوم؟ أفيما جفَّت به الأقْلام وجرت به المقادير؟ أم فيما يستقبل؟ قال: ((لا، بل فيما جفَّت به الأقلام وجرت به المقادير))، قال: ففيم العمل؟ قال زهيرٌ: ثمَّ تكلَّم أبو الزُّبير بشيءٍ لَم أفهمْه، فسألت عمَّا قال، فقال: ((اعملوا فكلٌّ ميسَّر))، وفي لفظ آخر: فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كلُّ عامل ميسَّر بعملِه)).
وفي "الصَّحيحين": عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: كنَّا في جنازة في بقيع الغرْقد، فأتانا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقعد وقعدنا حوْلَه ومعه مخصرة، فنكس فجعل ينكُتُ بمخصرتِه، ثمَّ قال: ((ما منكم من أحدٍ، وما من نفسٍ منفوسة، إلاَّ وقد كتب الله مكانَها من الجنَّةِ والنَّار، إلاَّ وقد كتبتْ شقيَّة أو سعيدة))، فقال رجل: يا رسولَ الله، أفلا نتَّكل على كتابِنا وندَع العمل، مَن كان من أهل السَّعادة فسيصيرُ إلى عملِ أهل السَّعادة، ومَن كان من أهل الشَّقاوة فسيصير إلى عملِ أهل الشَّقاوة؟ فقال: ((اعمَلوا فكلٌّ ميسَّر؛ أمَّا أهل السَّعادة فسيُيَسَّرون لعمل أهل السَّعادة، وأمَّا أهل الشَّقاوة فسيُيَسَّرون إلى عمل أهل الشَّقاوة))، ثمَّ قرأ: {﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل : 5 - 10]، وفي روايةِ البخاري: أفلا نتَّكل على كتابِنا وندع العمل؛ فمَن كان منَّا من أهلِ السَّعادة سيصير إلى عمل أهل السَّعادة، ومن كان من أهْل الشَّقاوة سيصير إلى عمل أهل الشَّقاوة؟ وقال: ((أمَّا عمل أهل السَّعادة..))، الحديث.
وفي روايةٍ في "الصَّحيحين" عن علي قال: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ذات يوم وفي يدِه عود ينكُت به، فرفع رأسَه فقال: ((ما منكم من نفسٍ إلاَّ وقد علم منزلها من الجنَّة والنَّار))، فقالوا: يا رسولَ الله، فلِمَ نعمل؟ أولا نتَّكل؟ قال: ((لا، اعملوا فكلٌّ ميسَّر لِما خُلِق له)) ثمَّ قرأ: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ﴾ إلى قولِه: ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ﴾ [الليل: 5 - 10].
فقد أخبر النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في هذه الأحاديث وغيرِها بما دلَّ عليه القُرآن أيضًا، من أنَّ الله - سبحانه وتعالى - تقدَّم علمُه وكتابه وقضاؤه بِما سيصيرُ إليه العِباد من السَّعادة والشَّقاوة، كما تقدَّم علمُه وكِتابه بغير ذلك من أحْوال العباد وغيرهم؛ كما في الصَّحيحين عن عبدالله بن مسعود قال: حدَّثنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وهو الصَّادق المصْدوق: ((إنَّ أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمِّه أرْبعين يومًا نُطْفة، ثمَّ يكون علقةً مثلَ ذلك، ثمَّ يكون مضغةً مثْل ذلك، ثمَّ يبعث الله ملكًا بأرْبَع كلِمات، فيكتب عمله، وأجلَه، ورزقَه، وشقي أو سعيد، ثمَّ ينفخ فيه الرُّوح، فوالَّذي لا إلهَ غيرُه، إنَّ أحدَكم ليعملُ بعمل أهل الجنَّة حتَّى ما يكون بيْنه وبيْنها إلاَّ ذراع، فيسبق عليه الكتابُ فيعمل بعمل أهل النَّار فيدخُلها، وإنَّ أحدَكم ليعملُ بعمل أهل النَّار حتَّى ما يكون بيْنه وبيْنها إلاَّ ذراع، فيسبقُ عليه الكتاب فيعْمل بعمل أهل الجنَّة فيدخُلها)).
وفي "الصَّحيحين": عن أنسِ بن مالك - رضي الله عنه - ورفَع الحديث، قال: ((إنَّ الله وكل بالرَّحم ملكًا فيقول: أيْ ربِّ نطفة، أيْ ربِّ علقة، أيْ رب مضغة، فإذا أراد أن يقضي خلقه قال الملك: أيْ رب ذكرٌ أو أنثى؟ شقيٌّ أو سعيدٌ؟ فما الرِّزق؟ فما الأجل؟ فيكتب ذلك في بطن أمِّه))، وهذا المعنى في صحيحِ مسلم من حديث حُذيفة بن أسيد الغفاري أيضًا.

والنُّصوصُ والآثار في تقدُّم عِلْم الله وكتابته وقضائه، وتقْديره الأشياء قبل خلْقِها، وأنواعها - كثيرة جدًّا، وقد بيَّن النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّ ذلك لا يُنافي وجودَ الأعْمال التي بها تكون السَّعادةُ والشَّقاوة، وأنَّ مَن كان من أهْل السَّعادة، فإنَّه ييسر لعملِ أهل السَّعادة، ومَن كان من أهل الشَّقاوة، فإنَّه ييسَّر لعمل أهل الشقاوة، وقد نَهَى أن يتَّكلَ الإنسان على القدَر السَّابق، ويدَع العمل؛ ولهذا كان من اتَّكلَ على القدَر السابق، وترك ما أُمِر به من الأعمال - هو من الأخْسرين أعمالاً، الَّذين ضلَّ سعْيُهم في الحياة الدُّنيا، وكان ترْكهم لما يجب عليْهم من العملِ من جُملة المقْدور الَّذي يسِّروا به لعمل أهل الشَّقاوة؛ فإنَّ أهل السَّعادة هم الَّذين يفعلون المأْمور، ويتركون المحْظور، فمَن ترك العمل الواجب الَّذي أُمِر به وفعل المحْظور متَّكلاً على القدر، كان من جملةِ أهل الشَّقاوة الميسَّرين لعمل أهل الشَّقاوة.
وهذا الجواب الذي أجاب به النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في غايةِ السَّداد والاستِقامة، وهو نظيرُ ما أجابَ به في الحديث الَّذي رواه التِّرمذيُّ أنَّه قيل: يا رسولَ الله، أرأيتَ أدويةً نتداوى بِها، ورقًى نسترْقِي بها، وتقاةً نتَّقيها، هل تردُّ من قدَر الله شيئًا؟ فقال: ((هي من قدَر الله))؛ وذلك لأنَّ الله - سبحانه وتعالى - هو يعلَم الأشياء على ما هي عليه، وكذلك يكتُبها، فإذا كان قد علِم أنَّها تكون بأسبابٍ من عمل وغيرِه، وقضى أنَّها تكون كذلك وقدَّر ذلك - لم يَجُز أن يظنَّ أنَّ تلك الأمورَ تكون بدون الأسْباب التي جعلَها الله أسبابًا، وهذا عامٌّ في جَميع الحوادثِ.
مثال ذلك: إذا علم الله وكتَب أنه سيُولد لهذَين ولدٌ، وجعل الله - سبحانه - ذلِك معلَّقًا باجتِماع الأبويْن على النِّكاح، وإنزال الماء المهين الَّذي ينعقِد منه الولد - فلا يجوز أن يكون وجود الولَد بدون السَّبب الَّذي علق به وجود الولد، والأسباب وإن كانت نوعين: معتادة وغريبة.

فالمعتادة: كولادةِ الآدمي من أبوَيْن.
والغريبة: كوِلادة الإنسان من أمٍّ فقطْ؛ كما وُلد عيسى، أو من أبٍ فقط؛ كما وُلِدتْ حوَّاء، أو من غير أبويْن؛ كما خُلِق آدم أبو البشر من طين.
فجميع الأسباب قد تقدَّم عِلْم الله بها وكتابتُه لها، وتقْديره إيَّاها وقضاؤُه بها، كما تقدَّم ربْط ذلك بالمسبِّبات، كذلك أيْضًا الأسباب التي بها يخلق النَّبات - من إنزال المطَر وغيره - من هذا الباب؛ كما قال - تعالى -: ﴿ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ﴾ [البقرة : 164]، وقال: ﴿ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ﴾ [الأعراف : 57]، وقال: ﴿ وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ ﴾ [الأنبياء : 30]، وأمثال ذلك.
فجميعُ ذلك مقدَّرٌ معلوم، مقْضيٌّ مكتوب قبل تكْوينه، فمَن ظنَّ أنَّ الشَّيء إذا عُلم وكتب أنَّه يكفي ذلك في وجودِه، ولا يحتاج إلى ما به يكونُ من الفاعل الَّذي يفعله وسائر الأسباب - فهو جاهلٌ ضالٌّ ضلالاً مبينًا؛ من وجهين:

أحدهما: من جِهة كونِه جعل العِلْم جهلاً؛ فإنَّ العِلْم يُطابق المعلوم، ويتعلَّق به على ما هو عليْه، وهو - سبحانه - قد علم أنَّ المكوَّنات تكون بما يخلقه من الأسباب؛ لأنَّ ذلك هو الواقع، فمَن قال: إنَّه يعلم شيئًا بدون الأسباب، فقد قال على الله الباطل، وهو بمنزلة مَن قال: إنَّ الله يعلمُ أنَّ هذا الولد ولد بِلا أبويْن، وأنَّ هذا النَّبات نبت بلا ماء، فإنَّ تعلُّقَ العلمِ بالماضي والمستقْبل سواء، فكما أنَّ مَن أخبر عن الماضي بعِلْم الله بوقوعِه بدون الأسباب يكون مبطلاً، فكذلك مَن أخْبر عن المستقبل، كقوْل القائل: إنَّ الله علم أنَّه خلق آدم من غير طين، وعلم أنَّه يتناسل النَّاس من غيرِ تناكُح، وأنَّه أنبت الزُّروعَ من غيرِ ماء ولا تراب، فهو باطلٌ ظاهرٌ بطلانُه لكلِّ أحد، وكذلك إخباره عن المستقبل، وكذلك "الأعمال" هي سببٌ في الثَّواب والعِقاب، فلو قال قائل: إنَّ الله أخْرج آدم من الجنَّةِ بلا ذنب، وأنَّه قدر ذلك، أو قال: إنَّه غفر لآدم بلا توبة، وإنَّه علم ذلك - كان هذا كذبًا وبهتانًا، بخلافِ ما إذا قال: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ﴾ [البقرة : 37]، ﴿ فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ﴾ [طه : 121]، فإنَّه يكون صادقًا في ذلك.
والله - سبحانه - علِم ما يكون من آدمَ قبل أن يكون، وهو عالِمٌ به بعد أنْ كان، وكذلك كل ما أخبر به من "قصص الأنبِياء"، فإنَّه علم أنَّه أهلك قومَ نوح وعاد وثمود، وفرعون ولوط ومدْين وغيرهم بذنوبهم، وأنَّه نجَّى الأنبياءَ ومن اتَّبعهم بإيمانهم وتقْواهم؛ كما قال: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ﴾ [الأعراف : 165]، وقال: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا ﴾ الآية [العنكبوت : 40]، وقال: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ ﴾ [الأنعام : 146]، وقال: ﴿ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ﴾ [غافر : 21]، وقال: ﴿ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ ﴾ [الأنعام : 6]، وقال: ﴿ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴾ [النمل : 52 ، 53]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود : 102]، وقال: ﴿ وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف : 56]، وقال: ﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ [الإسراء : 3]، وقال: ﴿ إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ * نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ ﴾} [القمر : 34 ، 35]، وقال: ﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ﴾ [الأعراف : 137]، وأمثال ذلك في القرآنِ كثير.
وكذلك خبره عمَّا يكون من السَّعادةِ والشَّقاوة بالأعمال؛ كقوله: ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾ [الحاقة : 24]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الزخرف : 72]، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ﴾ [الطور : 21]، وقوله: ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [المؤمنون : 111]، وقوله: ﴿ وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴾ [الإنسان : 12] الآيات، وقوله: ﴿ هَلْ ثُوِّبَ الكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾ [المطففين : 36]، وقوله: ﴿ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا اليَقِينُ * فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ﴾ [المدثر : 42 - 48]، وأمثال هذا في القُرآنِ كثيرٌ جدًّا.
بيَّن - سبحانه - فيما يذكره من سعادةِ الآخِرة وشقاوتها: أنَّ ذلك كان بالأعْمالِ المأمور بها والمنهيِّ عنْها، كما يذكر نحْو ذلك فيما يقضيه من العقوباتِ والمثوبات في الدُّنيا أيضًا.


والوجه الثاني: أنَّ العِلْم بأنَّ الشَّيء سيكون، والخبر عنْه بذلك، وكتابة ذلك - لا يُوجِبُ استِغْناء ذلك عمَّا به يكون من الأسباب الَّتي لا يتمُّ إلاَّ بها، كالفاعلِ وقدرته ومشيئته، فإنَّ اعتقاد هذا غاية في الجهل؛ إذ هذا العلم ليس موجبًا بنفسِه لوجود المعلوم باتِّفاق العُلماء؛ بل هو مطابق له على ما هو عليه، لا يكسبه صفةً، ولا يكتسب منه صفة، بِمنزلة عِلْمِنا بالأمور الَّتي قبلنا، كالموجودات التي كانتْ قبل وجودِنا، مثل عِلْمنا بالله وأسمائِه وصفاته، فإنَّ هذا العِلْم ليس مؤثرًا في وجود المعلوم باتِّفاق العُلماء، وإن كان من علومِنا ما يكون له تأثير في وجود المعلوم، كعِلْمنا بما يدعونا إلى الفعلِ ويعرفنا صفته وقدره، فإنَّ الأفعالَ الاختياريَّة لا تصدرُ إلاَّ ممَّن له شعورٌ وعلم؛ إذِ الإرادةُ مشروطةٌ بوجودِ العلم، وهذا التَّفصيل الموجود في علمنا بحيث ينقسم إلى علمٍ فعْلي له تأثير في المعلوم، وعلم انفِعالي لا تأثير له في وجود المعلوم - هو فصْلُ الخطابِ في العلم، وهكذا علْم الرَّبِّ - تبارك وتعالى - فإنَّ علمه بنفسِه - سبحانه - لا تأثير له في وجودِ المعلوم، وأمَّا علمه بمخلوقاتِه التي خلَقَها بمشيئتِه وإرادته، فهو ممَّا له تأثيرٌ في وجود معلوماتِه، والقول في الكلامِ والكِتاب كالقول في العلم؛ فإنَّه - سبحانه وتعالى - إذا خلق الشيءَ خلقه بعلمِه وقدرته ومشيئته؛ ولذلك كان الخلقُ مستلزمًا للعلمِ ودليلاً عليه؛ كما قال - تعالى -: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك : 14]، وأمَّا إذا أخبر بما سيكون قبل أن يكون، فعِلْمُهُ وخبره - حينئذٍ - ليس هو المؤثر في وجودِه؛ لعلمه وخبره به بعْد وجودِه؛ لثلاثة أوجُه:
أحدها: أنَّ العلمَ والخبر عن المستقبلِ كالعِلم والخبر عن الماضي.

الثاني: أنَّ العلمَ المؤثِّر هو المستلزمُ للإرادة المستلزمة للخلْق، ليس هو ما يستلزم الخبر، وقد بيَّنَّا الفرقَ بين العِلْم العمَلي والعلم الخبري.

الثالث: أنَّه لو قدر أنَّ العلمَ والخبر بما سيكون له تأثيرٌ في وجود المعْلوم المخْبر به، فلا ريْبَ أنَّه لا بدَّ مع ذلك من القُدرة والمشيئة، فلا يكون مجرَّدُ العلم موجبًا له بدون القُدْرة والإرادة، فتبيَّن أنَّ العلم والخبر والكِتاب لا يوجب الاكتِفاء بذلك عن الفاعل القادِر المريد؛ ممَّا يدلُّ على ذلك أنَّ الله - سبحانه وتعالى - يعلم ويُخبر بما سيكونُ من مفعولاتِ الرَّبِّ، كما يعلم أنَّه سيُقيم القيامةَ ويخبر بذلك، ومع ذلك فمعلومٌ أنَّ هذا العلمَ والخبر لا يُوجب وقوع المعْلوم المخبر به بدون الأسْباب التي جعلها الله أسبابًا له.
إذا تبيَّن ذلك، فقول السائل: "السعيد لا يشقى، والشَّقي لا يسعد" كلامٌ صحيح؛ أي: مَن قدَّر اللهُ أن يكون سعيدًا، يكون سعيدًا؛ لكن بالأعمال التي جعلَه يسعدُ بها، والشَّقيُّ لا يكون شقيًّا إلاَّ بالأعمال التي جعلَه يشقى بها، التي من جُملتها الاتِّكال على القدر، وترك الأعمال الواجبة.
وأمَّا قوله: "والأعمال لا تُراد لذاتِها؛ بل لجلْب السَّعادة ودفع الشَّقاوة، وقد سبقنا وجود الأعمال"، فيُقال له: السَّابق نفس السَّعادة والشَّقاوة، أم تقدير السَّعادة والشَّقاوة علمًا وقضاءً وكتابًا؟ هذا موضع يشتبه ويغلط فيه كثيرٌ من النَّاسِ؛ حيثُ لا يميِّزون بين ثبوتِ الشَّيءِ في العلم والتَّقدير، وبين ثبوته في الوجودِ والتَّحقيق، فإنَّ الأوَّل هو العلم به والخبر عنْه وكتابته، وليس شيءٌ من ذلك داخلاً في ذاتِه ولا في صفاتِه القائِمة به؛ ولهذا يغلطُ كثيرٌ من النَّاس في قوْل النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الصَّحيح الَّذي رواه ميْسرة قال: قلتُ: يا رسولَ الله، متى كنتَ نبيًّا؟ وفي رواية: متى كتبتَ نبيًّا؟ قال: ((وآدم بين الرُّوح والجسد))، فيظنُّون أنَّ ذاته ونبوَّته وجدتْ حينئذٍ، وهذا جهلٌ؛ فإنَّ الله إنَّما نبَّأه على رأْسِ أرْبعين من عمرِه، وقد قال له: ﴿ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف : 3]، وقال: ﴿ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ﴾ [الضحى : 7]، وفي "الصَّحيحين" أنَّ الملَك قال له - حينَ جاءَه -: اقرأ، فقال: ((لستُ بقارئ)) - ثلاث مرات.
ومَن قال: إنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان نبيًّا قبل أن يُوحى إليه، فهُو كافرٌ باتِّفاق المسلِمين، وإنَّما المعنى: أنَّ الله كتَب نبوَّته فأظْهرها وأعلنها بعد خلْقِ جسد آدَم، وقبْل نفْخ الرُّوح فيه، كما أخبر أنَّه يكتب رزق المولود وأجله وعمله، وشقاوته وسعادته، بعْد خلق جسده، وقبْل نفْخ الرُّوحِ فيه؛ كما في حديث العِرْباض بن سارية الَّذي رواه أحْمد وغيرُه عن النَّبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: ((إنِّي عبدُالله وخاتم النبيِّين)) وفي رواية: ((إنِّي عبدالله لمكتوب خاتم النبيِّين، وإنَّ آدمَ لمجنْدل في طينتِه، وسأنبِّئكم بأوَّل ذلك: دعوة أبي إبراهيم، وبشْرى عيسى، ورؤْيا أمِّي؛ رأت حين ولدتْني أنَّه خرج منها نورٌ أضاءتْ له قصورُ الشَّام)).
وكثيرٌ من الجهَّال - المصنِّفين وغيرهم - يرويه: "كنتُ نبيًّا وآدم بين الماء والطين"، "وآدَم لا ماء ولا طين"، ويَجعلون ذلك وجوده بعيْنِه، وآدم لم يَكُن بين الماءِ والطِّين؛ بل الماء بعْضُ الطين، لا مقابله، وإذا كان كذلك، فإن قال: السَّابق نفس السَّعادة والشَّقاوة، فقد كذب؛ فإنَّ السَّعادة إنَّما تكونُ بعد وجود الشَّخص الَّذي هو السَّعيد، وكذلك الشَّقاوة لا تكون إلاَّ بعد وجودِ الشَّقيِّ، كما أنَّ العمل والرِّزْق لا يكون إلاَّ بعد وجود العامل، ولا يَصير رزقًا إلاَّ بعد وجودِ المرتزق، وإنَّما السَّابق هو العلم بذلك وتقْديره، لا نفسه وعيْنه، وإذا كان كذلك، فالعمل - أيضًا - سابقٌ كسبْق السَّعادة والشَّقاوة، وكلاهما معلوم مقدر، وهما متأخران في الوجود، والله - سبحانه - علم وقدَّر أنَّ هذا يعمل كذا؛ فيسعد به، وهذا يعمل كذا؛ فيشقى به، وهو يعلم أنَّ هذا العملَ الصالح يجلبُ السعادة، كما يعلم سائر الأسباب والمسببات، كما يعلم أنَّ هذا يأكل السم؛ فيموت، وأنَّ هذا يأكل الطعام؛ فيشبع، ويشرب الشراب؛ فيروى، وظهر فسادُ قول السائل: فلا وجهَ لإتعابِ النفس في عمل، ولا لكفِّها عن ملذوذات؛ والمكتوب في القِدم واقع لا محالة؛ وذلك أنَّ المكتوب في القدم، هو سعادةُ السعيد؛ لما يُسِّر له من العملِ الصالح، وشقاوة الشقي؛ لما يُسِّر له من العملِ السيئ، ليس المكتوب أحدَهما دون الآخر، فما أُمر به العبدُ من عملٍ فيه تعب أو امتناع عن شهوة، هو من الأسبابِ التي تُنال بها السعادة، والمُقدر المكتوب هو السعادة، والعمل الذي به يُنال السعادة.
وإذا تَرَك العبد ما أُمر به، متكلاً على الكتاب، كان ذلك من المكتوبِ المقدور الذي يصيرُ به شقيًا، وكان قوله ذلك، بمنزلة من يقول: أنا لا آكل ولا أشرب، فإنْ كان الله قضى بالشبعِ والرِّي، حصل، وإلا لم يحصل، أو يقول: لا أجامع امرأتي، فإن كان الله قضى لي بولد، فإنه يكون، وكذلك من غَلط فتَرَك الدُّعاءَ، أو ترك الاستعانة والتوكل، ظانًّا أن ذلك من مقاماتِ الخاصة، ناظرًا إلى القدر، فكل هؤلاء جاهلون ضالُّون؛ ويشهد لهذا ما رواه مسلم في "صحيحه" عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((المؤمنُ القوي خيرٌ من المؤمنِ الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجِز، وإن أصابك شيء، فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ، لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإنَّ "لو" تفتح عمل الشيطان))، فأمره بالحرصِ على ما ينفعه، والاستعانة بالله، ونهاه عن العجزِ الذي هو الاتكالُ على القدر، ثم أمره إذا أصابه شيء، أن لا ييئس على ما فاته، بل ينظرُ إلى القدر، ويسّلم الأمرَ لله، فإنه هنا لا يقدر على غيرِ ذلك؛ كما قال بعضُ العقلاء: الأمور أمران؛ أمرٌ فيه حيلة، وأمر لا حيلةَ فيه، فما فيه حيلة، لا يعجز عنه، وما لا حيلة فيه، لا يجزع منه.
وفي "سنن أبي داود": أنَّ رجلين اختصما إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقضى على أحدهما، فقال المقضي عليه: حسبنا الله ونعم الوكيل، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله يلوم على العجز، ولكن عليك بالكيس، فإذا غلبك أمرٌ، فقل: حسبي الله ونعم الوكيل))، وفي الحديثِ الآخر: ((الكيِّس من دانَ نفسَه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنّى على الله الأماني))؛ رواه ابن ماجه والترمذي، وقال حديث حسن.
ثم قال: "ومما يوضح ذلك: أنَّ الله قد علم وكتب أنه يخلق الخلق، ويرزقهم ويميتهم ويحييهم، فهل يجوزُ أن يظنَّ أن تقدم العلم والكتاب مغنٍ لهذه الكائنات عن خلقِه وقدرته ومشيئته؟! فكذلك علم الله بما يكونُ من أفعالِ العباد وأنهم يسعدون بها ويشقون، كما يعلم - مثلاً - أنَّ الرجلَ يمرضُ أو يموت بأكله السم، أو جرحه نفسه، ونحو ذلك.
وهذا الذي ذكرناه، مذهبُ سلف الأمة وأئمتها، وجمهور الطوائف من أهلِ الفقه والحديث والتصوف والكلام وغيرهم، وإنما نازع في ذلك غلاةُ القدرية..."، إلى آخر ما قال؛ وهو بحث نادر حَرِيٌّ بأن يقرأ كاملاً.
واعلمي أنَّ الله - سبحانه - لا يقضي قضاءً إلا لحكمةٍ بالغة، ومصلحة عظيمة، وقد تخفى هذه المصلحةُ على العبد، فيبادر بالتسخطِ والاعتراض، والأولى له أن يرضى بحكمِ الله، ويستسلم لقضائه وقدره؛ قال - تعالى -: ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة : 216].

والله - تعالى - لا يقضي قضاءً للمؤمن إلا كان خيرًا له، فارضَيْ بما يُقَدِّره الله ويقضيه، واستسلمي لحكمِ الله فيك، واعلمي أنه الخير لك والمصلحة، ولا تظنِّي باللهِ ظنَّ السوء؛ يقول الحافظ ابن القيم - رحمه الله -:

"فأكثر الخلق - بل كلُّهُم - إلا من شاء الله، يظنُّون بالله غير الْحَقِّ ظنَّ السوء؛ فإنَّ غالب بني آدم يعتقد أنه مبخوس الحق، ناقص الحظ، وأنه يستحقُّ فوق ما أعطاه الله، ولسان حاله يقول: ظلمني ربي، ومنعني ما أستحقُّه، ونفسه تشهد عليه بذلك، وهو بلسانه ينكرُه، ولا يتجاسر على التصريحِ به، ومن فتش نفسه، وتغلغل في معرفةِ دفائنها وطواياها، رأى ذلك فيها كامنًا كمونَ النَّارِ في الزناد، فاقدح زناد من شئت، ينبئك شراره عمَّا في زنادِه، ولو فتشت من فتشته، لرأيت عنده تعتبًا على القدر، وملامةً له، واقتراحًا عليه خلاف ما جرى به، وأنه كان ينبغي أن يكونَ كذا وكذا، فمستقلٌّ ومستكثرٌ، وفتِّش نفسك: هل أنت سالمٌ من ذلك؟

 

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ
وَإِلاَّ فَإِنِّي لاَ إِخَالُكَ نَاجِيَا

 

فليعتنِ اللبيبُ الناصح لنفسِه بهذا الموضع، وليتب إلى الله - تعالى - وليستغفره كلَّ وقتٍ من ظنِّه بربه ظنَّ السوء، وليظنَّ السوءَ بنفسِه التي هي مأوى كل سوءٍ، ومنبع كل شرٍّ، المركَّبة على الجهلِ والظلم؛ فهي أولى بظنَّ السوءِ من أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، وأرحم الراحمين، الغني الحميد الذي له الغنى التام، والحمد التام، والحكمة التامة، المنزَّه عن كلِّ سوءٍ في ذاته وصفاته وأفعاله وأسمائه؛ فذاته لها الكمالُ المطلق من كلِّ وجهٍ، وصفاته كذلك، وأفعاله كذلك، كلها حكمةٌ ومصلحةٌ ورحمةٌ وعدلٌ، وأسماؤه كلها حسنى". اهـ.

وليس الإعطاءُ من عرضِ الدنيا الفاني هو علامةَ الاصطفاء والرضا عن العبد، ولا المنع منها هو علامة السخط عليه؛ فقد يمنع الله عبدَه شيئًا من الدنيا، وهو يحبه؛ لعلمِه أنه لو أعطاه ذلك، لكان خلافَ مصلحتِه، والعكسُ بالعكس؛ كما قال - تعالى -: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا... ﴾[الفجر : 15 - 17].

يقول ابن القيم: "أي: ليس كلُّ من وسعتُ عليه وأكرمته ونعَّمتُه، يكون ذلك إكرامًا منِّي له، ولا كل من ضيقتُ عليه رزقه وابتليته، يكون ذلك إهانة مني له". اهـ.

وبه يتبين لك بيانًا واضحًا أنَّ العطاء والمنع في الدنيا ليس هو أمارةَ رضا الله عن العبد، أو محبتِه له، وأنَّ الواجب على العبد أن يصبرَ لحكم الله، وألاَّ يتسخط شيئًا من أقضيتِه عالمًا أنَّ فيها المصلحةَ والرحمةَ والحكمة.

كما أنه - سبحانه - قد نزَّه نفسَه عن الظلمِ في غير موضع من كتابه، فالظلمُ من صفاتِ النقص، وهو مستحيلٌ في حقِّه - تعالى - لأنه موصوفٌ بكمالِ العدل، واعتقادُ خلافِ هذا، تكذيبٌ لصريح القرآن؛ قال - جل اسمه -: ﴿ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ [غافر :31]، وقال - تعالى -: ﴿ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف : 49]، وقال - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت : 46]، وقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾ [يونس : 44]...، إلى غيرِ ذلك من الآيات.

وفي الحديث القدسي الشريف الذي خرجه مسلمٌ في "صحيحِه": ((يا عبادي، إني حرَّمتُ الظُّلمَ على نفسي)).

وليس للعبادِ عليه - سبحانه - حقٌّ يستوجبون به فضلاً أو إحسانًا، بل ما أعطاه إياهم؛ فهو محضُ فضلِه ورحمته، وما منعه إياهم، فلعدلِه وحكمته، فأفعاله - سبحانه - دائرةٌ بين الفضلِ والعدل، والحكمة والرحمة، ولقد أحسن من قال:

 

مَا لِلْعِبَادِ عَلَيْهِ حَقٌّ وَاجِبٌ
كَلاَّ وَلاَ سَعْيٌ لَدَيْهِ ضَائِعُ
إِنْ عُذِّبُوا فَبِعَدْلِهِ أَوْ نُعِّمُوا
فَبِفَضْلِهِ وَهُوَ الْكَرِيمُ الْوَاسِعُ

 

يقول ابن القيم - رحمه الله -: "التَّصرفات الواقعة منه - تعالى -في ملكه لا تكون ظلمًا قط، وهذا حقٌّ؛ فإنَّ كلَّ مَا فعله الربُّ ويفعله لا يخرجُ عن العدل والحكمة والمصلحة والرَّحمة، فليس في أفعالِه ظلمٌ ولا جور ولا سفه، وهذا حقٌّ لا ريبَ فيه فهو - سبحانه - في تصرفِه في ملكِه غير ظالم". انتهى بتصرف.

وذكر أدلةِ هذا الأصل الشريف وبيان كلام العلماء فيه يطولُ جدًّا، فعلى المسلمِ أن يعتقدَ كمال الرب - عزَّ وجلَّ - وأنه منزَّه عن كلِّ نقص، وأنه ما أصابه من الخيرِ والنعمة فهو محضُ فضله - تعالى - وما أصابه من البلاءِ والشرِّ فهو بحكمتِه وعدله - تعالى - وقد استحقه بما كسبتْه يدُه ولم يظلمه الله - تعالى – شيئًا؛ كما قال - تعالى -: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء : 79].

يقول ابن القيم - رحمه الله -: "النَّفسُ جاهلة ظالمة، وهي منشأ كلِّ شَرٍّ يحصُل للعَبد، فلا يحصل له شرٌّ إلاَّ منها، قال - تعالى -: ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء : 79]، وقال - تعالى -: ﴿ أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ ﴾ [آل عمران : 165]، وقال: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى : 30]، وقال - تعالى -: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ﴾ [الأنفال : 53]، وقال: {﴿ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ [الرعد : 11].

وَقد ذكر عقوباتِ الأممِ من آدم إلى آخر وقت، وفي كلِّ ذلك يقول: إنَّهم ظلمُوا أنفسَهم، فهم الظَّالمون لا المظلومون، وأول من اعترف بذلك أبواهم: ﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الأعراف : 23]". اهـ.

أما إعجازُ القرآن فأوضحُ من الشمس، ومما يدلُّ على ذلك أنَّ الله تحدَّى العربَ بالإتيان بقرآنٍ مثله فعجزوا، ثم تحداهم بالإتيانِ بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم بسورةٍ من مثله فعجزوا، ثم أخبر - سبحانه وتعالى - أنهم لن يأتوا بمثلِه ولو تعاونوا جميعًا، ولم يُسمع في التاريخ من ذلك العصر إلى اليومِ أنَّ أحدًا كتب مقالاً يحاكي القرآن، وصدق الله - تعالى - إذ يقول: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء : 88]؛ قال ابنُ كثير في "البداية والنهاية" - في معرِضِ حديثه عن دلائلِ النبوة المعنوية -: "وهي معنوية وحسية؛ فمن المعنوية: إنزال القرآن عليه، وهو أعظمُ المعجزات، وأبهر الآيات، وأبين الحجَجِ الواضِحات؛ لما اشتمل عليه من التركيبِ المعجز الذي تحدَّى به الإنسَ والجنَّ أن يأتوا بمثلِه فعجزوا عن ذلك، مع توافرِ دواعي أعدائه على معارضتِه، وفصاحتهم وبلاغتهم، ثم تحدَّاهم بعشر سورٍ منه فعجزوا، ثم تنازل إلى التحدِّي بسورة من مثله، فعجزوا عنه، وهم يعلمون عجزَهم وتقصيرهم عن ذلك، وأن هذا ما لا سبيل لأحدٍ إليه أبدًا؛ قال الله - تعالى -: ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء : 88]، وهذه الآية مكية.

وقال في سورةِ الطور - وهي مكية -: ﴿ أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ﴾ [الطور : 33 ، 34]؛ أي: إن كنتم صادقين في أنه قالَهُ من عنده، فهو بَشَرٌ مثلكم، فأتوا بمثلِ ما جاء به؛ فإنَّكم مثله، وقال - تعالى - في سورةِ البقرة - وهي مدنية - معيدًا للتحدي: ﴿ وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة : 23 ، 24]، وقال الله - تعالى -: {﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [هود : 13 ، 14]، وقال الله - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ﴾ [يونس : 37 - 39]، فبيَّن - تعالى - أنَّ الخلقَ عاجزون عن معارضةِ هذا القرآن، بل عن عشرِ سورٍ مثله، بل عن سورةٍ منه، وأنهم لا يستطيعون ذلك أبدًا؛ كما قال الله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ﴾ [البقرة : 24]؛ أي: فإن لم تفعلوا في الماضي، ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، وهذا تحدٍّ ثانٍ؛ وهو أنه لا يمكنُ معارضتهم له، لا في الحال، ولا في المآل، ومثل هذا التحدِّي إنما يصدرُ عن واثقٍ بأنَّ ما جاء به لا يمكنُ للبشرِ معارضتُه، ولا الإتيانُ بمثله، ولو كان من مُتقوِّلٍ من عند نفسِه، لخاف أن يعارض فيفتضح، ويعود عليه نقيضُ ما قصده من متابعةِ النَّاس له، ومعلوم لكلِّ ذي لبٍّ أنَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - من أعقلِ خلق الله؛ بل أعقلهم وأكملهم على الإطلاقِ في نفس الأمر، فما كان ليقدمَ هذا الأمرَ إلاَّ وهو عالم بأنه لا يمكنُ معارضتُه، وهكذا وقع؛ فإنه من لَدُن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وإلى زماننا هذا، لم يستطع أحدٌ أن يأتيَ بنظيرِه، ولا نظيرِ سورةٍ منه، وهذا لا سبيل إليه أبدًا؛ فإنه كلامُ ربِّ العالمين الذي لا يشبهه شيءٌ من خلقه، لا في ذاته، ولا في صفاتِه، ولا في أفعاله، فأنَّى يشبه كلامُ المخلوقين كلامَ الخالق؟!". اهـ. 





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق 
شارك وانشر


 


شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • مقالات
  • بحوث ودراسات
  • استشارات
  • كتب
  • مواد مترجمة
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة