• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع مواقع المشايخ والعلماء / د. محمود بن أحمد الدوسري / مقالات


علامة باركود

الآثار السيئة للابتداع (4)

الآثار السيئة للابتداع (4)
د. محمود بن أحمد الدوسري


تاريخ الإضافة: 16/1/2022 ميلادي - 12/6/1443 هجري

الزيارات: 9751

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الآثار السيئة للابتداع (4)

 

 

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

 

انتشار البدع له من آثار سيئة تضرُّ بدين الله تعالى، ما يجعلنا على يقين تام بضرورة محاربتها بكل ما أُوتينا من قوة؛ نُصرةً لدين الله، وقد سبق الحديث في (الجزء الأول والثاني والثالث) عن الآثار السيئة للبدعة للابتداع، ويتواصل الحديث عن ذلك، كما يلي:

 

 

 

14- المُبتدِع عليه وِزْرُ مَن اتَّبَعَه:

 

من شؤم الابتداع في الدِّين أنَّ المُبتدع عليه وِزْرُ وإثمُ مَن اتَّبعه إلى يوم الدِّين؛ مصداقًا لقوله تعالى: ﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ﴾ [النحل: 25].

 

 

فالمبتدعة الداعون إلى بدعهم عليهم وِزرٌ وإثم عظيم؛ لأنهم يحملون وِزرَهم ووِزرَ مَن انقاد لهم إلى يوم القيامة، فبئس ما حملوا من الوزر المُثقِل لظهورهم، من وزرهم ووزر مَنْ أضلُّوه، وهذا من شؤم البدع والضلالات.

 

 

وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (مَنْ سَنَّ في الإِسْلاَمِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا، وَلاَ يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)[1]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ دَعَا إِلَى ضَلاَلَةٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شَيْئًا)[2]. وجه الدلالة: أنَّ الإحداث والابتداع في الدِّين داخل في الأمور السَّيِّئة المُحرَّمة شرعًا؛ لذا كان على المبتدع مثلُ وزرِ كلِّ مَنْ يعمل ببدعتِه وضلالِه إلى يوم القيامة، سواء ابتدعه هو أم كان مسبوقًا إليه[3].

 

 

 

15- البدعة تدخل صاحبها في اللعنة:

 

كل مَن ابتدع بدعةً ليس لها أصل في الشرع فهي مردودة، وصاحبها مستحق للوعيد، فقد قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم – فيمَنْ أحدث في المدينة: (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا[4]، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ). قال ابن بطال رحمه الله: (دلَّ الحديث على أنه مَن آوى أهلَ المعاصي والبدع أنه شريكٌ في الإثم، وليس يدل الحديث على أنَّ مَنْ أحدث حدثًا أو آوى مُحدِثًا في غير المدينة أنه غير مُتوعَّد ولا ملوم على ذلك؛ لأنَّ مَن رَضِيَ فِعلَ قومٍ وعملَهم أنه منهم، وإنْ كان بعيدًا عنهم.

 

 

فهذا الحديث نصٌّ في تحذير فِعل شيء من المنكر في المدينة، وهو دليل في التحذير من إحداث مِثلِ ذلك في غيرِها، وإنما خُصَّت المدينةُ بالذِّكر في هذا الحديث؛ لأنَّ اللعنة على مَنْ أحدث فيها حدثًا أشدُّ، والوعيد له آكد؛ لانتهاكه ما حُذِّرَ عنه، وإقدامِه على مُخالفة رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فيما كان يلزمه من تعظيم شأن المدينة التي شرَّفها الله، بأنها مَنزِلُ وحيه، ومَوطِنُ نبيِّه، ومنها انتشر الدِّين في أقطار الأرض، فكان لها بذلك فضلُ مزيِّةٍ على سائر البلاد)[5].

 

 

 

16- يُطرد المبتدع عن حوض النبي صلى الله عليه وسلم:

 

وفيه ثلاثة أحاديث مشهورة:

 

أ- عن سهلِ بن سعدٍ رضي الله عنه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ، مَنْ وَرَدَ شَرِبَ، وَمَنْ شَرِبَ لَمْ يَظْمَأْ أَبَدًا، وَلَيَرِدَنَّ عَلَيَّ أَقْوَامٌ أَعْرِفُهُمْ وَيَعْرِفُونِي، ثُمَّ يُحَالُ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ)[6]. وفي لفظٍ: (فَأَقُولُ إِنَّهُمْ مِنِّي. فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا[7] لِمَنْ غَيَّرَ بَعْدِي)[8]. وفي لفظ: (فَيُقَالُ: إِنَّكَ لاَ تَدْرِي مَا بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا لِمَنْ بَدَّلَ بَعْدِي)[9].

 

 

ب- عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهما قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ؛ حَتَّى أَنْظُرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ، وَسَيُؤْخَذُ نَاسٌ دُونِي؛ فَأَقُولُ: يَا رَبِّ! مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي. فَيُقَالُ: هَلْ شَعَرْتَ مَا عَمِلُوا بَعْدَكَ؟! وَاللَّهِ مَا بَرِحُوا يَرْجِعُونَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ). فَكَانَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ! إِنَّا نَعُوذُ بِكَ أَنْ نَرْجِعَ عَلَى أَعْقَابِنَا أَوْ نُفْتَنَ عَنْ دِينِنَا[10].

 

 

ج- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَتَى الْمَقْبُرَةَ؛ فَقَالَ: (السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاَحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا). قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أَنْتُمْ أَصْحَابِي. وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ). فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ[11] أَلاَ يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟). قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ[12] عَلَى الْحَوْضِ، أَلاَ لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ أَلاَ هَلُمَّ! فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)[13].

 

 

قال النووي رحمه الله: (هذا مما اختلف العلماءُ في المراد به على أقوال:

 

أحدها: أنَّ المراد به المنافقون والمُرتدُّون، فيجوز أنْ يُحشَروا بالغُرَّة والتَّحجيل، فيناديهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم للسِّيما التي عليهم، فيقال: ليس هؤلاء مِمَّا وُعِدْتَّ بهم، إنَّ هؤلاء بدَّلوا بعدك، أي: لم يموتوا على ما ظهر من إسلامهم.

 

 

والثاني: أنَّ المراد مَنْ كان في زمن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ثم ارتدَّ بعده، فيناديهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإنْ لم يكن عليهم سِيما الوضوء؛ لِمَا كان يعرفه صلى الله عليه وسلم في حياته من إسلامهم فيقال: ارتدُّوا بعدك.

 

 

والثالث: أنَّ المراد به أصحاب المعاصي والكبائر الذين ماتوا على التوحيد، وأصحاب البدع الذين لم يخرجوا ببدعتهم عن الإسلام. وعلى هذا القول؛ لا يُقطع لهؤلاء الذين يُذادون بالنار، بل يجوز أنْ يُذادوا عقوبةً لهم، ثم يرحمهم الله سبحانه وتعالى فيدخلهم الجنة بغير عذاب. قال أصحاب هذا القول: ولا يمتنع أنْ يكون لهم غرةٌ وتحجيل، ويحتمل: أنْ يكون كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، لكن عَرَفَهم بالسِّيما)[14].

 

 

 

وقال ابن عبد البر رحمه الله: (كلُّ مَنْ أحدثَ في الدِّين ما لا يرضاه اللهُ، ولم يأذن به اللهُ؛ فهو من المطرودين عن الحوض، المُبعَدِين عنه، واللهُ أعلم، وأشدُّهم طردًا مَنْ خالفَ جماعةَ المسلمين، وفارقَ سبيلَهم؛ مثل الخوارجِ على اختلاف فِرَقِها، والرَّوافِضِ على تبايُنِ ضَلالِها، والمعتزلةِ على أصناف أهوائها، فهؤلاء كلُّهم يُبَدِّلون، وكذلك الظَّلَمةُ المُسرِفون في الجَور والظُّلم وطمسِ الحقِّ وقتلِ أهلِه وإذلالِهم، والمُعلِنون بالكبائر المُستخِفُّون بالمعاصي، وجميعُ أهلِ الزَّيغ والأهواء والبِدع، كلُّ هؤلاء يُخاف عليهم أنْ يكونوا عُنُوا بهذا الخَبَر)[15].

 

 

وهذا الجزاء للمبتدع إنما هو من جنس عمله؛ إذ إنه في الدنيا أعرض عن سُنَّته صلى الله عليه وسلم وخالف هديَه، فابتدع وسَنَّ لنفسه بنفسه أو بغيره، فكان جزاؤه في الآخرة أن يُعْرِضَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويُحرم من ورود حوضه.

 

 

 

17- المبتدعة متوعَّدون بالنار لكذبهم على اللهِ ورسوله صلى الله عليه وسلم:

 

المبتدعة يفترون على الله الكذب، ويقولون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله، ويدَّعون بأن هذه "البدع" هي من عند الله تعالى، وإذا كان الكذب مذمومًا، وهو من الكبائر، فكيف بالكذب على الله تعالى وعلى رسوله الله صلى الله عليه وسلم، وأجمع أهل العلم على كفر مَنْ كذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم متعمِّدًا مستحِلًا لذلك[16]؛ لذا كانت عقوبته النار، جزاءً وفاقًا.

 

 

وقد توعَّد الله تعالى مَنْ افترى عليه الكذب يوم القيامة بالعذاب الشديد والأليم، فقال سبحانه: ﴿ وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النحل: 116، 117]. وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ ﴾ [يونس: 69، 70]. ﴿ قُلْ ءآاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [يونس: 59، 60].

 

 

وأخبر سبحانه بأنهم ظالمون: ﴿ فَمَنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 94]. وبأنَّ لهم إثمًا مبينًا: ﴿ انظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ﴾ [النساء: 50]. وليس لهم إلاَّ النار: ﴿ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمْ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ ﴾ [النحل: 62].

 

 

وقال سبحانه: ﴿ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأعراف: 33].

 

 

 

قال ابن القيم رحمه الله: (وأمَّا القول على الله بلا علم؛ فهو أشدُّ هذه المحرَّمات تحريمًا وأعظمها إثمًا؛ ولهذا ذُكِرَ في المرتبة الرابعة من المحرَّمات التي اتَّفقت عليها الشرائع والأديان، ولا تُباح بحال؛ بل لا تكون إلاَّ مُحَرَّمةً... ثم انْتَقَلَ منه إلى ما هو أعظم منه، فقال: ﴿ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ فهذا أعظمُ المُحرَّمات عند الله وأشدُّها إثمًا؛ فإنه يتضمَّن الكذبَ على الله، ونسبتَه إلى ما لا يليق به، وتغييرَ دينه وتبديلَه، ونفيَ ما أثبته، وإثباتَ ما نفاه، وتحقيقَ ما أبطله، وإبطالَ ما حقَّقه، وعداوةَ مَنْ والاه، وموالاةَ مَنْ عاداه، وحُبَّ ما أبغضه، وبُغْضَ ما أحبَّه، ووصْفَه بما لا يليق به في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله، فليس في أجناس المُحرَّمات أعظمُ عند الله منه، ولا أشدُّ إثمًا، وهو أصل الشرك والكفر، وعليه أُسِّسَت البدعُ والضَّلالات، فكلُّ بدعةٍ مُضِلَّةٍ في الدِّين أساسُها القولُ على الله بلا علم)[17].

 

 

وقد حذَّر الله تعالى من التَّقوُّل عليه؛ ولو كان ذلك التَّقوُّل صادرًا من النبيِّ صلى الله عليه وسلم – وحاشاه أنْ يتقوَّل على ربِّه: ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ[18] * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ[19] * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ [الحاقة: 44-47].

 

 

فلو قُدِّرَ أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم -حاشا وكلاَّ- تقَوَّل على الله؛ لعاجَلَه بالعقوبة، وأخَذَه أخْذَ عزيزٍ مُقتدر؛ لأنه حكيم، على كلِّ شيءٍ قدير، فحكمته تقتضي ألاَّ يُمهل الكاذب عليه، الذي يزعم أنَّ الله أباح له دِماءَ مَنْ خالفه وأموالَهم، وأنه هو وأتْباعَه لهم النجاة، ومَنْ خالفه فله الهلاك.

 

 

وهذا التَّهديد والوعيد من الله سبحانه وتعالى لنبيِّه صلى الله عليه وسلم رغم استحالة وقوعه، إنما يدل على شدة غضب الله تعالى على مَنْ كَذَب عليه، فإذا كان هذا غضبه على حبيبه وصفيِّه محمدٍ صلى الله عليه وسلم لو وقع منه هذا – وحاشاه صلى الله عليه وسلم - فكيف بغيره من البشر؟ لا شك أنه يكون أشد عذابًا وأعظم إيلامًا.

 

 

فإذا كان اللهُ قد أيَّد رسولَه صلى الله عليه وسلم بالمعجزات، وبرهن على صِدق ما جاء به بالآيات البيِّنات، ونَصَرَه على أعدائه، ومكَّنه من نواصيهم، فهو أكبرُ شهادةً منه على رسالته؛ كما قال سبحانه: ﴿ قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ﴾ [الأنعام: 19]. فلا أعظم شهادةً من الله سبحانه، ولا أكبر، وهو يشهد لنبيِّه الكريم صلى الله عليه وسلم بصدق رسالته وصدق قوله وفعله، ولا يليق بحكمة الله تعالى وقدرته أنْ يُقِرَّ كاذبًا عليه، زاعمًا أنَّ الله أرسله ولم يُرسلْه، وأنَّ الله أمَرَه بدعوة الخلق ولم يأمرْه، وهو مع ذلك يُصدِّقه ويؤيِّده على ما قال؛ بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة، وينصره، ويخذل مَنْ خالفه وعاداه[20].

 

 

والكذب على النبي صلى الله عليه وسلم لا يقل شناعةً عن الكذب على الله تعالى؛ لأن مصدره من عند الله تعالى: ﴿ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ﴾ [النساء: 78]، وإن هو إلاَّ وحي يوحى، ومن الأحاديث المُحذِّرة من الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم:

 

قوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدٍ، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ[21])[22]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ)[23].

 

 

قال النووي رحمه الله: (لا فرقَ في تحريم الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بين ما كان في الأحكام، وما لا حُكْمَ فيه؛ كالترغيب والترهيب، والمواعظ، وغير ذلك، فكلُّه حرام، من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح، بإجماع المسلمين الذين يُعتدُّ بهم في الإجماع)[24].

 

 

وقال ابن حجر رحمه الله: (وقد اغترَّ قوم من الجهلة فوضعوا أحاديثَ في الترغيب والترهيب، وقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فَعَلْنا ذلك؛ لتأييد شريعته، وما دَرَوا أنَّ تَقْوِيلَه صلى الله عليه وسلم ما لم يَقُلْ يقتضي الكذبَ على الله تعالى؛ لأنه إثباتُ حُكمٍ من الأحكام الشرعية سواء كان في الإيجاب أو الندب، وكذا مقابلهما وهو الحرام والمكروه، ولا يُعْتَدُّ بمَنْ خالف ذلك من الكرامية؛ حيث جوَّزوا وضْعَ الكذبِ في الترغيب والترهيب في تثبيت ما ورد في القرآن والسُّنة، واحتجُّوا بأنه كذبٌ له لا عليه! وهو جهلٌ باللغة العربية)[25].

 

 

قال أبو الفضل الهمداني – مبيِّنًا خطر المبتدعة، واختلاقهم الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم: (مبتدعة الإسلام والواضِعون للأحاديث أشدُّ من الملحدين؛ لأنَّ الملحدين قصدوا إفسادَ الدِّين من خارج، وهؤلاء قصدوا إفساده من داخل. فهم كأهل بلدٍ سعوا في إفساد أحواله، والملحدون كالحاضرين من خارج، فالدُّخلاء يفتحون الحِصن، فهم شرٌّ على الإسلام من غير الملابسين له)[26].

 

 

 

18- بُغض المبتدعة للسُّنة وأهلِها:

 

إنَّ الحقَّ يحمل في طيَّاته قوَّةً؛ تُزلزل أعداءه وتهزُّهم وتُخيفهم؛ لدرجة أنهم لا يتمنَّون سماعَه، وأهلُ السُّنة بما معهم من الحقِّ يُحدِثون الأثرَ في أهل البدعة، فلا يستطيعون حِجاجَهم ولا يقدرون على مواجهتهم، حتى إنهم لا يتمنَّون لقاءهم، فينعكس ذلك عليهم، فَيُكِنُّون لهم البغضاء والكراهية.

 

 

فمن أعظم الآثار السَّيئة للابتداع في الدين بُغض المبتدعة للحق ولِمَنْ جاء بالحق؛ فبسبب جفائهم عن السُّنة عاقَبَهم الله تعالى ببغضهم للسُّنة وأهلِها، فإنَّ عامة المبتدعة يُبغضون علماءَ أهل السُّنة ويغتابونهم ويلمزونهم، ويستهزؤون بهم، وينتقصون من أقدارهم، وينتقدونهم بغير حق، ويعيبون عليهم تَمسُّكَهم بالسُّنة والتزامهم بها ظاهرًا وباطنًا! وهذا يدل على خطورة البدع وآثارِها السيئة على المبتدعة، وقد نبه أهل العلم على أنَّ من علامات الاستقامة حب أهل السنة، ومن علامات أهل الأهواء والبدع بُغض أهل السُّنة والتَّنقُّص منهم، ومن ذلك:

 

أ- قال الإمام أبو عثمان إسماعيل الصابوني رحمه الله: (وعَلاماتُ أَهلِ البدَعِ عَلى أَهلها بادية ظاهرة، وأَظهرُ آياتهم وعَلاماتِهم: شدَةُ مُعاداتهم لحمَلة أَخبار النبِيِّ صلى الله عليه وسلم، واحتقارهم لهُم، وتَسميتهم حَشويَّة، وجَهلة، وظاهرية، ومُشبهة؛ اعتقادًا منهُم في أَخبارِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّها بمعزل عن العلم، وأَنَّ العلم ما يُلقيهِ الشيطانُ إِليهِم من نتائجِ عُقولهم الفاسدة، ووساوس صُدورهم المُظلِمَة، وهواجس قلوبهم الخالية عن الخير العاطلة، وحججهم؛ بل شبههم الداحضة الباطلة)[27].

 

 

ب- وقال قتيبة بن سعيد رحمه الله: (إذا رأيتَ الرجلَ يُحب أهلَ الحديث؛ مثل يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه - وذكر قوما آخرين- فإنه على السُّنة، ومَنْ خالف هذا؛ فاعلم أنه مُبتدع)[28].

 

 

ج- وقال ابن تيمية رحمه الله: (ومن المعلوم أنك لا تجد أحدًا مِمَّنْ يردُّ نصوص الكتاب والسُّنة بقوله إلاَّ وهو يُبغض ما خالف قولَه، ويودُّ أنَّ تلك الآية لم تكن نزلت، وأنَّ ذلك الحديث لم يَرِد، ولو أمكنه كشط ذلك من المُصحف لَفَعَلَه)[29].

 

 

 

يُتبع.

 



[1] رواه مسلم، (4/2059)، (ح 1017).

[2] رواه مسلم، (2/1132)، (ح 6980).

[3] انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، (16/226).

[4] (الحَدَث: الأمرُ الحادِث المُنكَر الذي ليس بمُعْتاد ولا معروف في السُّنَّة. والمُحْدث: يُرْوَى

بكسر الدال وفَتْحها على الفاعل والمفعول، فمعنى الكَسْر: مَن نَصَر جانِيًا أو آواه وأجارَه مِن خَصْمه وحال بينَه وبين أن يَقْتَصَّ منه، والفتح: هو الأمر المُبْتَدَع نَفْسِه، ويكون معنى الإِيواء فيه: الرِّضا به والصبر عليه، فإنه إذا رَضِيَ بالبِدْعة وأقرَّ فاعلَها ولم يُنْكِرْ عليه فقد آوَاهُ، ومنه الحديث: "إيَّاكم ومُحْدَثاتِ الأمور" جمع مُحْدَثة - بالفتح - وهي ما لم يكن معروفًا في كتابٍ ولا سُنَّةٍ ولا إجْماع). النهاية في غريب الحديث والأثر، (1/907).

[5] شرح صحيح البخاري، (10/350).

[6] رواه البخاري، (3/1427)، (ح 7137)؛ ومسلم، (2/988)، (ح 6108).

[7] (سُحْقًا سُحْقًا): أي: بُعدًا بُعدًا، وهو دعاء عليهم بالطرد والإبعاد.

[8] رواه البخاري، (3/1332)، (ح 6664)،

[9] رواه البخاري، (3/1427)، (ح 7138).

[10] رواه البخاري، (3/1334)، (ح 6673).

[11] (دُهْمٍ بُهْمٍ): أي: سود، لم يُخالط لونَها لونٌ آخَر.

[12] (أَنَا فَرَطُهُمْ): الفَرَط: هو الذي يتقدَّم القومَ ويسبقهم؛ ليرتاد لهم الدِّلاء والأرشية.

[13] رواه مسلم، (1/123)، (ح 607).

[14] شرح النووي على مسلم، (3/136، 137).

[15] التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد، (20/262).

[16] انظر: صحيح مسلم بشرح النووي، (1/70).

[17] مدارج السالكين، (1/372).

[18] أي: بعض الأقاويل الكاذبة.

[19] (الْوَتِينَ): هو عِرق مُتَّصل بالقلب إذا انقطع هلك ومات منه الإنسان.

[20] انظر: تفسير السعدي، (ص 252).

[21] (فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) أي: فَلْيَتَّخِذْ لِنفْسِه مَنزِلًا من النار، يقال: تبوَّأ الرجلُ المكانَ؛ إذا اتَّخذه مَسْكَنًا، وهو أمرٌ بمعنى الخبر، أو بمعنى التهديد، أو بمعنى التَّهكُّم، أو دعاءٌ على فاعلِ ذلك، أي: بوَّأهُ اللهُ ذلك. انظر: فتح الباري، لابن حجر (6/540)؛ تحفة الأحوذي، للمباركفوري (6/441).

[22] رواه البخاري، (1/242)، (ح 1303)؛ ومسلم، (1/6)، (ح 5).

[23] رواه البخاري، (1/29)، (ح 109).

[24] صحيح مسلم بشرح النووي، (1/70).

[25] فتح الباري، (1/199-200).

[26] الموضوعات، لابن الجوزي (1/51).

[27] عقيدة أهل السنة وأصحاب الحديث، (ص 299)؛ الحجة في بيان المحجة، (1/194).

[28] شرح أصول اعتقاد أهل السنة، اللالكائي (ص 67).

[29] درء تعارض العقل والنقل، (5/217).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ عبدالرحمن بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ خالد بن ...
  • ثلاثية الأمير أحمد ...
  • الشيخ زيد بن ...
  • مثنى الزيدي
  • الأستاذ الدكتور ...
  • الشيخ د. أسامة بن ...
  • د. محمد بريش
  • أ.د.سليمان بن قاسم ...
  • د. إبراهيم بن حماد ...
  • د. سهل بن رفاع بن ...
  • د. تيسير بن سعد بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • د. خالد بن عبدالله ...
  • الشيخ أحمد بن حسن ...
  • الشيخ فيصل بن ...
  • د. محمد ولد سيدي ...
  • د. محمد بن لطفي ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • د. أمين بن عبدالله ...
  • د. عبد المحسن ...
  • د. عبدالمحسن بن ...
  • د. علي بن موسى بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ حمود بن عبد ...
  • الدكتور عبدالكريم ...
  • الشيخ صفوت الشوادفي
  • الدكتور وليد قصاب
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة