• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع مواقع المشايخ والعلماء / الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض / بحوث ودراسات


علامة باركود

نظرات في الشريعة

الشيخ زيد بن عبدالعزيز الفياض


تاريخ الإضافة: 16/7/2010 ميلادي - 4/8/1431 هجري

الزيارات: 11654

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا، وأشكره - سبحانه - على نِعَمِه الجمَّة وآلائه العظيمة، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته وتابعيهم إلى يوم الدين.

 

أما بعد، فهذه محاضرة كنت ألقيتها في نادي كليتي الشريعة واللغة بالرياض في 24/7/1380هـ بعنوان "نظرات في الشريعة"، وقد طلب إخوان كرام أن تطبع في كتاب، وأبدى بعضهم مشكورًا استعداده لطبعها على نفقته لتعميم النفع بها، ورأيت من المناسب أن أضيف إليها أبحاثًا، وأشفعها بنقولات تناسب المقام، وقد فعلت ذلك.

 

وهي - كما يراها القارئ - تبحث في موضوعات جديرة بالاهتمام من علماء المسلمين وناشئتهم، وإنه لفأْل حسن أن نجد تجاوبًا من الشباب في العناية بدراسة الإسلام دراسة تمحِّص ما ألصقه به الملحِدون والمخرِّفون - في الوقت الذي طغت فيه موجات الإلحاد والإباحية، وكاد بلاؤهما أن يقتلع من الكثيرين جذور الإيمان، وجواهر القِيَم، وإن من واجب علماء المسلمين أن يعنَوا بدراسة الإسلام دراسةً صحيحة سليمة من التقليد الأعمى، والأهواء المضلَّة، وأن يستخرجوا كنوزه الدفينة ويبرزوا لآلئه التي أراد أعداء الإسلام إخفاءها وتشويهها؛ لينزعوا عن المحجوبين الأقنعة السوداء وليشرق النور وضاءً في أنحاء الدنيا، فدين الإسلام هو دين الله الخالد الصالح لكل زمان ومكان، وقد اعترف بهذه الحقيقة مَن فَهِم الإسلام فهمًا سليمًا - وإن لم يكن ممَّن يدين به - عندما تجرَّد عن التعصُّب والهوى - وكما قال المسيو (ليون روش) عن الإسلام: إنه دين المحامد والفضائل، ولو أنه وجد رجالاً يعلِّمونه الناس حقَّ التعليم، ويفسِّرونه تمام التفسير - لكان المسلمون اليوم أرقى العالمين، وأسبقهم في كل الميادين.

 

ولكن وجد بينهم - ويا للأسف - شيوخ يحرفون كَلِمَه ويمسخون جماله، ويدخلون فيه ما ليس منه، وكما تقول الدكتورة (لورافيتشا) الإيطالية: إن الناس لتتلهَّف على دين يتَّفق وحاجاتهم ومصالحهم الدنيوية ولا يكون قاصرًا على إرضاء مشاعرهم وإحساساتهم ويريدون أن يكون هذا الدين وسيلة لأمنهم وطمأنينتهم في الدنيا والآخرة، وليس هنا من دين تتوفَّر فيه هذه المزايا كلها بشكل رائع سوى دين الإسلام، إنه ليس مجرَّد دين فحسب، بل أن فيه حياة للناس؛ لأنه يعلمهم كيف يحسنون التفكير والكلام، ويحضُّهم على فعل الخير وصالح الأعمال، ولذلك سرعان ما شق طريقه إلى القلوب والأفهام".

 

ففي هذا العصر الذي يعيش أهله في قلق وهلَع، ويرون في تلك الدوَل القوية التصارع الوحشي، وامتلاك الأسلحة الفتَّاكة والتهديد بالحروب الطاحنة - ما أحوج المسلمين إلى أن يقدموا للعالم ذلك النور الساطع والبلسم الشافي؛ ليحصل للعالم الهدوء والطمأنينة، كما يشهد بذلك تاريخه.

 

وإنها لمفارقة عجيبة أن نجد بين مَن يسمُّون أنفسهم مسلمين مَن يحاربون الإسلام حربًا شعواء بمختلف الأساليب الشيطانية الماكرة، بينما يشهد الخصوم بروعته ومزاياه، وأنه الدين الذي يقدم للبشرية ما هي في حاجة إليه، وهو الصالح لكل زمان ومكان.

 

ثم إن هذا يعطينا فكرة عن عِظَم الواجب الملقَى على عاتق علماء المسلمين وحكَّامهم لتعريف العالم بهذا الدين القويم، ونشره في أدغال أفريقيا التي تعجُّ بالمبشِّرين الصليبيين تحرسهم جنود المستعمرين، وتمدُّهم بالأموال الطائلة؛ لينشطوا في نشر دينهم المنسوخ المحرَّف، ويغرسوا أحقادهم الدفينة في تلك الشعوب (الخام).

 

وأننا لنأمُل أن تجد هذه الملاحظة استجابةً وأن ينتشر الدعاة المصلحون في كل صقْع من أنحاء العالم ليدعوا الناس إلى دين الله الذي أرسل به مَن جعله (رحمة للعالمين)؛ فهو رسول البشرية جمعاء ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ﴾ [الأعرَاف: 158]، ومَن يدري فقد يعتنق الإسلام قادة ومحكومون يتغيَّر بإسلامهم وجه التاريخ وليس ذلك بمستحيل، ولنتذكر انتشار الإسلام السريع، وتغلغله في الأماكن النائية، هذا مع تقصير علمائه في نشره وتقاعُس الحكومات المنتسبة للإسلام عن الاضطلاع بواجباتهم إزاء هذا الشأن الخطير.

 

 

ما هي الشريعة؟

قال في "القاموس": الشريعة ما شرع الله - تعالى - لعباده، والظاهر المستقيم من المذاهب كالشرعة بالكسر فيهما، والعتبة ومورِد الشاربة كالمشرعة، وتُضَمُّ راؤها.

 

وفي "تهذيب الصحاح": الشريعة مشرعة الماء؛ وهو مورد الشاربة، والشريعة ما شرع الله لعباده من الدين، والشارع الطريق الأعظم، ويقال: شرعك هذا؛ أي: حسبك، والناس في هذا الأمر شرع، سواء بحرك ويسكن، والشرعة بالكسر الشريعة.

 

وفي "لسان العرب": والشريعة والشراع والمشرعة المواضع التي ينحدر إلى الماء منها، قال الليث: وبها سُمِّي ما شرع الله للعباد شريعة من الصوم والصلاة والحج والنكاح وغيره، والشرعة والشريعة في كلام العرب مشرعة الماء؛ وهي مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون، وربما شروعها دوابهم حتى تشرعها ونشرب منها، والعرب لا تسمينها شريعة حتى يكون الماء عدا لا انقطاع له ويكون ظاهرًا معينًا لا يسقى بالرشاء، وإذا كان من السماء والأمطار فهو الكرع، وقد أكرعوه إبلهم فكرعت فيه، وسقوها بالكرع، وشرع إبله وشرعها أوردها شريعة الماء فشربت ولم يستقِ لها، وفي المثل "أهون السقي التشريع"؛ وذلك لأن مورِّد الإبل إذا ورد بها الشريعة لم يتعب في إسقاء الماء لها كما يتعب إذا كان الماء بعيدًا.

 

والشريعة موضع على شاطئ البحر تشرع فيه الدواب، والشريعة والشرعة ما سنَّ الله من الدين وأمر به؛ كالصوم، والصلاة، والحج، والزكاة، وسائر أعمال البرِّ مشتقٌّ من شاطئ البحر عن كراع، ومنه قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ ﴾ [الجاثية: 18]، وقوله - تعالى -: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المَائدة: 48]، قيل في تفسيره: الشرعة في الدين والمنهاج: الطريق، وقيل: الشرعة والمنهاج جميعًا الطريق، والطريق هاهنا الدين، ولكن اللفظ إذا اختلف أتي به بألفاظ يؤكِّد بها القصة، والأمر كما قال عنترة:

أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الهَيْثَمِ

 

فمعنى أقوى وأقفر واحد على الخلوة، إلا أن اللفظين أَوْكد في الخلوة، وقال محمد بن يزيد: شرعة معناها ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم، وقال ابن عباس: شرعة ومنهاجًا: سبيلاً وسنة، وقال قتادة: شرعة ومنهاجًا: الدين واحد والشريعة مختلفة، وقال الفرَّاء في قوله - تعالى -: ﴿ ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ﴾ ﴾ [الجَاثيَة: 18]: على دين وملة ومنهاج، وكل ذلك يقال، وقال القتيبي: على شريعة: على مثال ومذهب، ومنه يقال: شرع فلان في كذا وكذا إذا أخذ فيه، ومنه مشارع الماء: وهي الفرض التي تشرع فيها الواردة، ويقال فلان يشترع شرعته ويفتطر فطرته، ويمثل مِلَّته كل ذلك من شرع الدين وفطرته وشرع الدين يشرعه شرعًا سنَّه، وفي التنزيل: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ﴾ [الشّورى: 13]، قال ابن الأعرابي: شرع؛ أي: ظهر وقال في قوله: ﴿ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾ [الشّورى: 21]: قال: أظهروا لهم، وقال الأزهري: معنى شرع: بيِّن وأوضح.

 

وقيل في قوله ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا ﴾ [الشّورى: 13]: أن نوحًا أول مَن أتى بتحريم البنات والأخوات والأمهات، وقوله - عز وجل -: ﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ﴾ [الشّورى: 13]؛ أي: وشرع لكم ما أوحينا إليك، وما وصينا به الأنبياء قبلك.

 

وقال الشاطبي: إن معنى الشريعة: أنها تحدُّ للمكلَّفين حدودًا في أفعالهم وأقوالهم واعتقاداتهم، وهو جملة ما تضمَّنته، وفي القرآن ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا ﴾ [الجَاثيَة: 18]، وبما ذكرنا يعلم أن الشريعة شاملة للاعتقادات والأحكام العملية.

 

وإن كانت قد تَرِد بمعنى الفقه أو ما يسمَّى بمسائل الفروع، من إطلاق العام وإرادة الخاص ومنه: ﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ﴾ [المَائدة: 48].

 

وما نعنيه في هذه الرسالة بكلمة شريعة، إنما هو بالمعنى الأوَّل وهو احتواؤها للأصول والفروع.

 

 

الرسالة العالمية

امتازت الرسالة الإسلامية بأنها رسالة للناس أجمعين؛ لا فرق بين وثني ويهودي ونصراني ومجوسي وصابئ وبوذي وملحد، ولا فرق بين أبيض وأسود وأصفر، ولا فرق بين قوم وقوم ووطن ووطن، يقول الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عِمرَان: 85]، ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ [آل عِمرَان: 19]، ﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [الأعراف: 158].

 

وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره عن ابن عباس عن النبي : ((أُعْطِيت خمسًا لم يعطَهن نبيٌّ قبلي ولا أقوله فخرًا، بعثت إلى الناس كافَّة، الأحمر والأسود ونُصِرت بالرُّعب مسيرة شهر، وأُحِلَّت لي الغنائم، ولم تحلَّ لأحد قبلي، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت الشفاعة فأخَّرتها لأمَّتي يوم القيامة، فهي لِمَن لا يشرك بالله شيئًا))، ولمسلم عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار))، ولأحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).

 

 

خاتم الأنبياء

لقد كان محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وكانت رسالته للناس عامَّة، والله أعلم حيث يجعل رسالته: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ﴾ [الأحزَاب: 40].

 

وفي حديث الصحيحين: ((مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا وجمَّله إلا موضع لبنة من زاوية فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاَّ أضيفت هذه اللبنة، فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)).

 

 

الدين الكامل

كان نزول القرآن على النبيِّ صلى الله عليه وسلم منجَّمًا بحسْب الوقائع، وفي حجَّة الوداع في يوم عرفة نزل قوله - تعالى -: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، وفي ذلك اليوم خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة عظيمة، وكان ممَّا قاله موجهًا خطابه للحاضرين: ((ألا هل بلغت)) ثلاثًا، ثم يرفع أصبعه الكريمة إلى السماء ويقول: ((اللهم اشهد)).

 

وفي الحديث الصحيح: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقًّا عليه أن يدلَّ أمَّته على خير ما يعلمه لهم وينهاهم عن شرِّ ما يعلمه لهم)).

 

وقالت عائشة: "مَن حدثك أن محمدًا كتم شيئًا ممَّا أوحى الله إليه؛ فقد أعظم على الله الفرية"؛ والله يقول: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المَائدة: 67].

 

وقال عمر: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا فذكر بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم وأهل النار منازلهم، حَفِظ ذلك مَن حَفِظه ونَسِيَه مَن نَسِيَه.

 

وقالت عائشة: لو كان محمد كاتمًا شيئًا من القرآن لكتم هذه الآية: ﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ ﴾ [الأحزَاب: 37].

 

وفي الحديث: ((تركتكم على المحجَّة البيضاء؛ ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)).

 

وفي حديث آخر: ((إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلُّوا بعدي؛ كتاب الله وسنتي)).

 

 

الشريعة الخالدة

إن الله - تعالى - قد حفظ شريعة الإسلام عن الانقراض، فصمدت رغم مكايد الزنادقة والملحِدين وسَلِمت من التحريف والتبديل الذي وقع في الشرائع قبلها، وكل مَن رام تحريفًا أو عبثًا كشف أمره، وآب بالخسران المبين.

 

وكان من فضل الله على عباده بعد إكمال دينه أن ضَمِن لهم حفظ كتابه هذا من التحريف والتبديل والنسيان والزيادة والنقصان فقال: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحِجر: 9]، وعصم أمة محمد خاتم النبيين أن تضلَّ كلها عنه كما ضلَّت الأمم قبلهم، فإن كان صلى الله عليه وسلم قد أخبر بما أطلعه الله عليه من مستقبلها أنهم سيتَّبعون سنن من قبلهم من اليهود والنصارى فقد أخبر أيضًا بأنه لا بُدَّ أن يبقى بعضهم على الحق؛ ليكونوا حجة الله على خلقه؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون))؛ رواه أحمد والبخاري ومسلم عن المغيرة، ورواه الحاكم عن عمر بسند صحيح على شرط مسلم بلفظ: ((لا تزال طائفة من أمَّتي ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة))، وابن ماجة عن أبي هريرة بلفظ: ((لا تزال طائفة من أمَّتي قوَّامة على أمر الله لا يضرُّها مَن خالفها))؛ وهو صحيح أيضًا، وروى مسلم من حديث جابر بن سمرة مرفوعًا: ((لن يبرح هذا الدين قائمًا يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة))[1].

 

وقال النووي في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)): يجوز أن تكون الطائفة جماعة متعدِّدة من أنواع المؤمنين ما بين شجاع وبصير بالحرب وفقيه ومحدث ومفسر وقائم بالأمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وزاهد وعابد ولا يلزم أن يكونوا مجتمِعين في بلد واحد، بل يجوز اجتماعهم في قُطْر واحد وافتراقهم في أقطار الأرض، ويجوز إخلاء الأرض من بعضهم أولاً فأولاً، إلى أن لا يبقي إلا فرقة واحدة ببلد واحد، فإذا انقرضوا جاء أمر الله، اهـ. ملخصًا مع زيادة فيه، قاله الحافظ.

 

 

المسلمون إخوة

﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ﴾ [الحُجرَات: 10]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [المَائدة: 51]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ ﴾ [المُمتَحنَة: 1]، ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ﴾ [الفَتْح: 29]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [المَائدة: 54]، ﴿ وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴾ [هُود: 45]، ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [التّوبَة: 71].

 

وفي الحديث الصحيح: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان يشُدُّ بعضه بعضًا))، وشبَّك الرسول صلى الله عليه وسلم بين أصابعه، وفي حديث آخر: ((مثَل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)).

 

لقد كان الإسلام دينًا عامًّا؛ فلم يختص بقوم أو وطن، وجعل الوحدة الإسلامية مطلبًا مهمًّا، ونبَّه على هذه الوحدة ورغَّب فيها في نصوص كثيرة جدًّا، وفي نواحي عمليَّة جليَّة للعيان لمن تدبَّر وعقل؛ فهم يعبدون ربًّا واحدًا، ويتَّجهون لقبلة واحدة، من كل أنحاء الدنيا، ويتساوَون في صيام شهر رمضان وفي الحجِّ وفي كلّ ذلك يجتمع الفقير مع الغني والشَّريف مع الوضيع، في مظهر مساواة حقَّة رائعة، وهكذا دواليك.

 

ولذا فلا عجب أن جاء الإسلام بنبذ العصبية القبلية والنعرات التي تشتّت الأمة الإسلامية، ودعا إلى وحدة إسلامية يتعاون أفرادُها في سبيل الخير.

﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِّرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المَائدة: 2].

﴿ وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً... ﴾ [آل عِمرَان: 103].

﴿ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا ﴾ [الأنفال: 46].

 

أجل، إنها وحدة إسلامية لا فضل فيها لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى ﴿ ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ﴾ [الحُجرَات: 13].

 

وروى أبو داود أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إن الله قد أذهب عنكم عبّيَّة الجاهلية وفخرها بالآباء مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعنَّ رجالٌ فخرهم بأقوام إنَّما هم فحم من فحم جهنَّم أو ليكوننَّ أهون على الله من الجعلان الَّتي تدفع بأنفها النتن)).

قال ابن تيمية: حديث صحيح.

 

وروى أبو داود أيضًا عن جبير بن مطعم أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ليس منا من دعا إلى عصبيَّة، وليس منَّا من قاتل على عصبية، وليس منَّا من مات على عصبية))، وفي الصحيحين عن جابر قال: غزوْنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثاب معه ناسٌ من المهاجرين حتَّى كثروا وكان من المهاجرين رجلٌ لعاب فكسع - ضربه على دبره استهزاء - أنصاريًّا فغضب الأنصاريّ غضبًا شديدًا حتَّى تداعوا، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما بال دعوى الجاهلية؟!)) ثم قال: ((ما شأنهم؟)) فأخبروه بكسعة المهاجري للأنصاري، قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة)).

 

وروى أحمد عن عقبة بن عامر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أنسابكم هذه ليستْ بمنسبة على أحد، كلكم بنو آدم طفَّ الصَّاع لم تمنعوه ليس لأحد على أحد فضلٌ إلاَّ بدين وتقوى وكفى بالرجُل أن يكون بذيًّا بخيلاً فاحشًا))، ورواه ابن جرير بلفظ: ((الناس لآدم وحواء طفَّ الصاع لم يملوه، إنَّ الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إنَّ أكرمكم عند الله أتقاكم)).

 

إن على المسلمين أن يقروا أواصر المودَّة، ويسعوا لتحقيق الوحدة، أمَّا الدعوة إلى العصبيَّات القومية فتلك نعرات جاهليَّة، وكثير من الدعاة للقوميات إنما يقصدون من ذلك إزاحة الدين من حسابهم، وبالتالي إضعافه في نفوس المسلمين، والعرب بصفة خاصة وفي هذا الشر المستطير.

 

كتب الأستاذان الدكتور عمر فروخ والدكتور مصطفى الخالدي في كتابهما "التبشير والاستعمار في البلاد العربية" ص 179 ما يأتي:

"جميع الحركات القومية التي قامت في البلاد العربية اتسمت في أول أمرها بميل بارز إلى التسامح الديني، ثم إنَّ هذا التسامح بدأ يتطوَّر حتَّى انتهى في أيَّامنا هذه ميلاً ظاهرًا عن الدين، ثمَّ ظهر بوضوح أنَّ هذه الحركات القومية ترْمي إلى إضعاف الشعور الإسلامي خاصَّة بين البلاد الإسلامية، وإلى قصر الصلات بين بلادنا على العنصر القومي وحده، فالصلة بين سورية ولبنان ومصر والجزائر ومراكش، تقوم في رأي الأحزاب العربية القومية على العروبة أو على اللّغة العربية، وعلى شيء من التاريخ العربي مجردًا من كلّ صلة به بالإسلام.... إلخ".

 

إن الإسلام يدعو لوحدة إسلامية واسعة، والقرآن لا يستعمل هذه الكلمة "الدين" في معنى ضيق محدود بل يطلقها على معنى شامل جامع وأوسع بكثير مما يتصوره الناس عامة، فالمراد بمنهاج الحياة منهاج الحياة بأجمعها، لا منهاج فرع من فروعها أو ناحية من نواحيها وكذلك ليس المقصود أنه منهاج لحياة كل فرد من الكتلة البشرية على حدة فحسب، بل هو منهاج كافل للمجتمع البشري أيضًا بأسره، وكذلك ليس معناه أنه منهاج لحياة قطر خاص أو أمة بعينها أو عصر معين، بل المراد أنه منهاج عملي عام جامع محيط بجميع نواحي الحياة البشرية الفردية منها والجماعيَّة، ولا يختص بقطر دون قطر أو زمن دون زمن أو أمة دون أمَّة[2].

 

 

الدين يسر

يتَّسم الدين الإسلامي باليسر والسهولة، فليس فيه آصار وأغلال، ولا تكليف ما لا يطاق.

 

وفي القرآن الكريم في صفة النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطِّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعرَاف: 157]، ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ﴾ [التّوبَة: 128] الآية، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبيَاء: 107]، وفي دعاء المؤمنين: ﴿ ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا ﴾، وفي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((قال الله: قد فعلت)).

 

وقال تعالى: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ﴾ [البَقَرَة: 286]، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [الحَجّ: 78]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾ [البَقَرَة: 185]، ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾ [النِّسَاء: 28]، ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [المَائدة: 6].

 

وفي الحديث الذي رواه أحمد: ((بعثت بالحنيفية السمحة))، وقال تعالى: ﴿ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ ﴾ [الحُجرَات: 7]، وفي الحديث: ((عليكم من الأعمال ما تطيقون؛ فإنَّ الله لا يملّ حتَّى تملوا))، وما خير صلى الله عليه وسلم بين شيئين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثمًا.

 

وفي حديث قيام رمضان: ((أمَّا بعد، فإنَّه لم يخْفَ عليَّ شأنكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم صلاة الليل فتعجزوا عنها)).

 

وفي حديث الحولاء بنت تويت حين قالتْ عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: هذه الحولاء بنت تويت زعموا أنَّها لا تنام الليل، فقال - عليه الصلاة والسلام -: ((لا تنام الليل؟ خذوا من العمل ما تطيقون، فوالله لا يسأم الله حتَّى تسأموا)).

 

وعن أنس قال: دخل رسول الله المسجِد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ((ما هذا؟)) قالوا: حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: ((حلّوه ليصلّ أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد)).

 

وعن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((هلك المتنطعون))، قالها ثلاثًا؛ رواه مسلم، والمتنطِّعون المتشدِّدون في غير موضع التَّشديد.

 

وعن أبي هريرة عن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن هذا الدين يسر ولن يشاد هذا الدين أحدٌ إلاَّ غلبه، فسدّدوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدْوة والرَّوحة وشيء من الدّلجة))، وفي رواية: ((سدّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيءٍ من الدلجة، القصد تبلغوا)).

 

وفي الصحيحين عن أنس قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزْواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلمَّا أخبروا كأنهم تقالّوها، وقالوا: أين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أمَّا أنا فأصلي الليل أبدًا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر أبدًا، ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوَّج أبدًا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: ((أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أمَا والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلّي وأرقد، وأتزوَّج النساء فمَن رغب عن سنتي فليس مني)).

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عمرو بن العاص: ((ألم أُخْبَر أنَّك تصوم النهار وتقوم الليل؟)) قلت: بلى يا رسول الله قال: ((فلا تفعل، صم وافطر ونم وقم؛ فإنَّ لجسدك عليك حقًّا، وإن لعينيك عليك حقًّا، وإنَّ لزوجك عليك حقًّا، وإن لزوجك عليك حقًّا، وإنَّ بحسبك أن تصوم في كلّ شهر ثلاثة أيَّام، فإنَّ لك بكل حسنة عشر أمثالها فإنَّ ذلك صيام الدهر))، وفي رواية: ((وإن لولدك عليك حقًّا)).

 

وعن ابن عباس قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنْه، فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشَّمس ولا يقعُد، ولا يستظل، ولا يتكلَّم، ويصوم، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ((مُروه فليتكلَّم وليستظلَّ وليقعُدْ، وليتم صومه))؛ رواه البخاري.

 

وقال صلى الله عليه وسلم لأميريْه معاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري لمَّا بعثهما إلى اليمن: ((بشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا، وتطاوعا ولا تختلِفا)).

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ: ((أنت فتَّان! أو فاتن أنت!)) ثلاث مرَّات ((فلولا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشَّمس وضحاها والليل إذا يغشى؛ فإنَّه يصلِّي وراءك الكبير والضَّعيف وذو الحاجة))، وكان الشَّاكي به رجل أقبل بناضحين وقد جنح الليل فوافق معاذًا يصلّي فترك ناضحَيْه، وأقبل إلى معاذ فقرأ سورة البقرة والنّساء، فانطلق الرجل ..... الحديث.

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إني لأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي)).

 

وروتْ عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: ((إنَّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق، ولا تبغِّضوا إلى أنفسكم عبادة الله، فإنَّ المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى))، وقالت عائشة: نَهاهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمةً لهم، قالوا: إنَّك تواصل، فقال: ((إني لست كهيئتكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني)).

 

وذكر البخاري عن أبي جُحَيفة قال: آخَى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمانُ أبا الدرداء، فرأى أمَّ الدرداء - وهي زوجته - متبذلةً، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجةٌ في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصَنَع له طعامًا، فقال له: كُلْ، فإني صائم، فقال: ما أنا بآكل حتى تأكلَ، فأكل، فلمَّا كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، فقال: نم، فنام، ثم ذهب ليقومَ، فقال: نَمْ، فلمَّا كان من آخِر الليل، قال سلمان: قُمِ الآن، فصلَّيَا، فقال له سلمان: إنَّ لربك عليك حقًّا، ولنفسِك عليك حقًّا، ولأهلك عليك حقًّا، فأعطِ كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فأتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - فذَكَر له ذلك، فقال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صَدَق سلمان)).

 

وروى الحاكم عن أبي الدرداء: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((ما أَحَّل الله في كتابه فهو حلال، وما حرَّم فهو حرام، وما سَكَت عنه فهو عَفْوٌ، فاقبلوا من الله عافيتَه، فإنَّ الله لم يكن لينسى شيئًا، ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ﴾ [مريم: 64]؛ قال الحاكم: صحيح الإسناد.

 

وفي الصحيح عن أبي هريرة، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتُوا منه ما استطعتم، فإنما أهلك الذين مِن قَبْلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافُهم على أنبيائهم))، وفي رواية لمسلم، عن أبي هريرة، قال: خطبنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: ((أيُّها الناس، قد فَرَض الله عليكم الحجَّ فحجُّوا))، فقال رجل: أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا، فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو قلتُ نعم لوجبتْ، ولَمَا استطعتم))، ثم قال: ((ذَرُوني ما تركتُكم، فإنَّما أَهْلَكَ مَن كان قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافُهم على أنبيائهم، فإذا أمرتُكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتُكم عن شيء فدَعُوه))، وخرَّجه الدارقطني، وقال فيه: فنَزَل قولُه – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ﴾ [المائدة: 101].

 

وفي الصحيح أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ أعظمَ المسلمين في الإسلام جُرمًا مَن سأل عن شيءٍ لم يُحرَّم فحُرِّم من أجل مسألته))، وفي حديث أبي ثعلبة: ((وسَكَتَ عن أشياء رحمةً لكم غيرَ نِسيان، فلا تبحثوا عنها)).

 

وروى أبو داود، عن ابن عباس، قال: جاء رجلٌ إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فقال: إنَّ أختي نذرَتْ أن تحجَّ ماشية، فقال: ((إنَّ الله لا يصنع بشَقاءِ أختك شيئًا، فلتحجَّ راكبة، ولْتُكفِّر عن يمينها)).

 

وروى ابن جرير عن أنس، قال: رأى رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلاً يُهادَى بين رجلَين، فقال: ((إنَّ الله لغنيٌّ عن تعذيب هذا نفسَه))، قالوا: يا رسول الله، إنَّه نذر، قال: ((اركبْ، فعليك بَدَنة)).

 

وروى ابنُ جرير أيضًا عن عطاء بن يسار، قال: لقيتُ عبدالله بن عمرو، فقلت: أخبِرْني عن صِفة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - في التوراة، قال: أجَلْ، والله إنَّه لموصوف في التوراة كصِفته في القرآن: ("يا أيها النبي إنَّا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وحرزًا للأميِّين، أنت عبدي ورسولي، اسمك المتوكِّل، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يَجْزي بالسيئة السيئةَ، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضَه الله حتى يُقيمَ به الملَّة العوجاءَ بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح به قلوبًا غُلفًا، وآذانًا صمًّا، وأعينًا عميًا"؛ ورواه البخاري.

 

وأمثال هذه النصوص في القرآن والسُّنَّة وكلام السلف كثيرٌ لا يمكن حصرُه، ممَّا لا مجالَ معه للشكِّ في يُسْر هذه الشريعة، وسماحتِها وشمولها.

 

وهكذا نرى مِن تلك الآيات والأحاديث: أنَّ الله الرحمن الرحيم، والعالِم بتفاوت الناس صِحَّة ومرضًا، وقوَّةً وضعفًا - رَفَع عنَّا الحَرَج، ودَفَع المشقَّة عن الناس جميعًا بعامَّة، وعن المرْضى والمصابين بخاصَّة.

 

ولِرَفْع الحرج ودفْع المشقَّة عنا مظاهرُ كثيرة؛ منها ما هو في العبادات، ومنها ما هو في المعاملات، ومنها ما هو في العقوبات وما يتصل بها، ولنذكر مثلاً توضِّح كُلاًّ من هذه النواحي:

ففي العبادات: نرى أولاً عدمَ كثرةِ التكاليف التي جاءتْ بالقرآن خاصَّة بها، حتى صار من اليسير القيامُ بها دونَ عَنَت ولا مشقَّة، كما نرى إباحةَ قَصْر الصلاة حالَ السفر، والفِطْرَ للصائم إذا كان مريضًا، أو على سَفَر، وهذا نجده منصوصًا عليه في القرآن، وإباحة التيمُّم بدلَ الوضوء للصلاة لِمَن لم يجدِ الماء، أو كان في استعماله ضررٌ به، وتناولَ المحرَّمات في الاضطرار.

 

بل إنَّ الله لم يفرِض علينا الصومَ إلا شهرًا واحدًا في العام، وهذا لِمَا يعلمه الله فيه مِن جهد الجِسْم والنفس، ومع ذلك أباح الفِطرَ لِمَن يشقُّ عليه الصوم.

 

وفي الحج كثيرٌ من التكاليف البدنية والمالية، وفي ذلك - بلا ريبٍ - مَشقَّة على كثير من الناس، ولهذا لم يَفرِضْه إلاَّ على مَن استطاع إليه سبيلاً، والأمر كذلك في الزكاة، فلم يفرضْها إلاَّ على القادر الذي يفيض مالُه عن حاجته، وجعلها العُشْر أو نصف العُشْر فقط، وهذه نِسبة تقلُّ كثيرًا عن أنواعٍ من الضرائب التي تجبيها الحكوماتُ الحديثة هذه الأيَّام.

 

وفي ناحية المعاملات: نجد اليُسر شاملاً، فليس هناك إجراءاتٌ رسميَّة، أو شكلية يجب اتِّباعها ليكونَ العَقْد صحيحًا، كما كان الأمرُ عند الرومان، بل يكفي في هذا رغبةُ المتعاقدين فقط - كما هو معروف.

 

ومِن باب التيسير في المعاملات أيضًا: ابتناءُ كثيرٍ من الأحكام على العُرْف الصحيح شرعًا، وفي هذا ملاحظةٌ لاختلاف العُرْف والعوائد، باختلاف المكان والزمان.

 

وفي باب العقوبات: نجد أنَّ منها ما يُسمَّى في الفقه بالحدِّ، وهي عقوبات الزِّنا والقَذْف، والسرقة وشرب الخمر؛ صيانةً للعِرْض والنسل، والمال والعقل، وفي هذا نجد الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((ادْرؤوا الحدودَ بالشُّبهات ما استطعتم))، وفي بعض الروايات يقول: ((ادْرؤوا الحدودَ عن المسلمين ما استطعتُم، فإن وجدتُم للمسلِم مَخْرجًا، فخلُّوا سبيله، فإنَّ الإمام لأن يخطئَ في العفو خيرٌ من أن يخطئ في العقوبة))، ولذلك روي أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أُتِي بلصٍّ قد اعترف بالسرقة، ولم يوجد معه متاعٌ، فقال له: ((ما إِخالُك سَرقْتَ))، قال بلى، فأعاد عليه مرَّتين أو ثلاثًا، فأَمَر به فقُطِع، ولذلك أيضًا يسقطُ الحدُّ عند حدوث المجاعة، ومَن سَرَق من مالٍ له فيه شُبهة، كمَن سَرَق مِن بيت المال.

 

هذا، ومِن دلائل اعتبار التيسير في التشريعات مِن أسس الشريعة الإسلامية:

أنَّ الله - تعالتْ حِكمتُه - تفضَّل ورَفَع عنَّا تكاليفَ كثيرةً شاقَّة، وعقوباتٍ شديدة ضربَها على اليهود؛ جزاءَ بغيهم وعدوانهم، وفي ذلك نزلتْ هذه الآيات: ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾ [النِّسَاء: 160]، ﴿ وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ﴾ [الأنعَام: 146]، ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عِمرَان: 110] الآية.

 

وروى الإمامُ أحمد والترمذي: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((أنتم تُوفون سبعين أمَّة، أنتم خَيرُها وأكرمُها على الله))، وفي البخاري عن أبي سعيد، قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يُدْعَى نوح يومَ القيامة، فيقال له: له بلَّغتَ؟ فيقول: نعم، فيُدْعَى قومُه فيُقال لهم: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير، وما أتانا مِن أحد، فيُقال لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمَّدٌ وأمَّتُه، قال: فذلك قوله: ﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ﴾ [البَقَرَة: 143] قال: والوسط: العدل، فتُدْعَوْن فتشهدون له بالبلاغ، ثم أشهدُ عليكم)).

إنَّها الشريعة القويمة، أكمل شريعة نزلتْ من السماء على أمَّةٍ هي أشرفُ الأمم، ورسولُها أفضلُ الرسل.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ودِين الإسلام وسَطٌ بين الأطراف المتجاذِبة، فالمسلمون وسطٌ في التوحيد بين اليهود والنصارى، فاليهودُ تصف الربَّ بصفات النقْص، التي يختصُّ بها المخلوق، ويُشبِّهون الخالق بالمخلوق، كما قالوا: إنَّه بخيل، وإنه فقير، وإنه لَمَّا خلق السمواتِ والأرض تعب فاستراح.

 

وهو سبحانه الجواد الذي لا يبخل، والغنيُّ الذي لا يحتاج إلى غيره، والقادر الذي لا يمسُّه لغوب، والقدرة والإرادة، والغِنى عمَّن سواه، هي صِفات الكمال التي تستلزم سائرَها.

 

والنصارى يصفون المخلوق بصفات الخالق التي يختص بها، ويشبهون المخلوق بالخالق؛ حيث قالوا: إنَّ الله هو المسيح ابن مريم، وأن الله ثالث ثلاثة، وقالوا: المسيح ابن الله، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله والمسيح ابن مريم، وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا، لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون.

 

فالمسلمون وحدوا الله، ووصفوه بصفات الكمال، ونزهوه عن أن يُماثله شيء من المخلوقات في شيء من الصِّفات، فهو موصوف بصفات الكمال لا بصفات النَّقص، وليس كمثله شيء لا في ذاتِه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، وكذلك في النبوات، فاليهود تقتل بعض الأنبياء، وتستكبر عن اتِّباعهم، وتُكذبهم وتتهمهم بالكبائر.

 

والنصارى يجعلون من ليس بنبي ولا رسول نبيًّا ورسولاً، كما يقولون في الحواريين: إنَّهم رسل، بل يطيعون أحبارهم ورهبانهم كما تطاع الأنبياء، فالنصارى تصدق بالباطل واليهود تكذب بالحق.

 

ولهذا كان في مبتدعة أهل الكلام شبه من اليهود، وفي مبتدعة أهل التعبد شبه من النصارى، وآخر أولئك الشك والريب، وآخر هؤلاء الشطح والدعاوى الكاذبة؛ لأن أولئك كذبوا بالحق، فصاروا إلى الشك، وهؤلاء صدقوا بالباطل، فصاروا إلى الشطح، فأولئك كظلمات في بحر لُجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، وهؤلاء كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا.

 

فمبتدعة أهل العلم والكلام طلبوا العلم بما ابتدعوه ولم يتبعوا العلم المشروع، ويعملوا به، فانتهوا إلى الشك المنافي للعلم بعد أنْ كان لهم علم بالمشروع، لكن زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، وكانوا مغضوبًا عليهم ومبتدعة العباد طلبوا القرب من الله بما ابتدعوه في العبادة، فلم يحصل لهم إلا البعد منه، فإنه ما ازداد مبتدع اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا، والبعد من الرحمة هو اللعنة وهو غاية النصارى، وأما الشرائع فاليهود منعوا الخالق أن يبعثَ رسولاً بغير شريعة الرسول الأول، وقالوا: لا يَجوز أن ينسخ ما شرعه، والنصارى جوزوا لأحبارهم أن يغيروا من الشرائع ما أرسل الله به رسوله، فأولئك عجزوا الخالق ومنعوه ما تقتضيه قدرته، وحكمته في النبوات والشرائع، وهؤلاء جوزوا للمخلوق أن يغير ما شرعَه الخالق، فضاهوا المخلوق بالخالق، وكذلك في العبادات، فالنصارى يعبدونه ببدع ما أنزل الله بها من سلطان.

 

واليهود معرضون عن العبادات حتى في يوم السبت الذي أمرهم الله أن يتفرغوا فيه لعبادته، إنَّما يشتغلون فيه بالشهوات، فالنصارى مشركون به واليهود مستكبرون عن عبادته، والمسلمون عبدوا الله وحْدَه بما شرع، ولم يعبدوه بالبدع.

 

وهذا هو دين الإسلام الذي بعث الله به جميعَ النبيِّين، وهو أن يستسلم العبدُ لله لا لغيره وهو الحنيفية دين إبراهيم، فمن استسلم له، ولغيره كان مشركًا، ومن لم يستسلم له، فهو مستكبر.

 

وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ﴾ [النساء: 48]، وقال: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ﴾ [غافر: 60].

 

وكذلك في أمر الحلال والحرام في الطعام واللباس، وما يدخل في ذلك من النجاسات، فالنصارى لا تُحرِّم ما حرمه الله ورسوله، ويستحلون الخبائث المحرمة كالميتة والدم ولحم الخنزير، حتى إنَّهم يتعبدون بالنجاسات كالبول والغائط ولا يغتسلون من جنابة، ولا يتطهرون للصلاة، ولما كان الراهب عندهم أبعد من الطهارة وأكثر ملابسة للنَّجاسة، كان مُعظَّمًا عندهم، فاليهود حرمت عليهم طيِّبات أحلت لهم، فهم يحرمون من الطيبات ما هو منفعة للعباد، ويجتنبون الأمور الطاهرة مع النجاسات، فالمرأة الحائض لا يأكلون معها ولا يُجالسونها، فهم في آصار وأغلال عذبوا بها، وأولئك يتناولون الخبائث المضرة، مع أن الرهبان يحرمون على أنفسهم طيبات أحلت لهم فيحرمون الطيبات ويباشرون النجاسات.

 

وهؤلاء يحرمون الطيبات النافعة، مع أنَّهم من أخبث الناس قلوبًا وأفسدهم بواطن، وطهارة الظاهر إنَّما يقصد بها طهارة القلب، فهم يطهرون ظواهرهم وينجسون قلوبهم[3]، والمسلمون يطهرون قلوبهم وظواهرهم، ويتناولون الطيبات، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ [الأعراف: 32].

 

وقال الشيخ أيضًا: "والإسلام الذي هو دين الله في كل زمان هو ما أمر الله به في ذلك الزمان، فكان من الإسلام في أول الهجرة صلاة المسلمين إلى بيت المقدس بضعة عشر شهرًا، ثم لما صرفت القبلة، وأمروا أن يستقبلوا الكعبة، كان استقبال الكعبة من الإسلام، واستقبال بيت المقدس حينئذ خروجًا عن الإسلام، وكذلك لما أرسل موسى كان طاعة الله فيما أمر به من السبت وغيره هو الإسلام، فلما بعث المسيح كان ما أمر به على لسانه هو الإسلام.

 

قال عكرمة وغيره: لما أنزل الله - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ [آل عمران: 85]، قالت اليهود والنصارى: فنحن مسلمون، فأنزل الله - تعالى -: ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 97]، فبين أن من تمام الإسلام طاعته فيما فرض من حج بيته وإلاَّ فمَنْ كَفَر بالحج، فلم يجحه برًّا ولا تركه إثمًا لم يكن مسلمًا مطيعًا لله ورسوله.

 

وتنوع شرائع الأنبياء ومناهجهم لا يَمنع أن يكون دينهم واحدًا وهو الإسلام، كتنوع شريعة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لأنَّه قال: ((إنا - معشر الأنبياء - ديننا واحد))، فإن فيها ناسخًا ومنسوخًا، ومع هذا فدينه واحد وهو الإسلام وهذا تحقيق ما أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم – أنَّه قال: ((إنا معشر الأنبياء ديننا واحد، إنَّ أولى الناس بابن مريم لأنا؛ لأنه ليس بيني وبينه نبي))، ولهذا ترجم البخاري باب ما جاء في أن دين الأنبياء واحد؛ قال تعالى: ﴿ شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾[الشورى: 13].

 

ولهذا كان من تمام الإيمان: الإيمان بجميع الرُّسل والكتب فالرَّسول الأول يصدق بالثاني، والثاني يصدق بالأول، كما أخبر في القرآن أن محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - مصدق بجميع الرسل والكتب قبله، وفرض عليه وعلى أمته الإيمان بذلك كله، فقال تعالى: ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيْسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 136][4] اهـ.

ـــــــــــــ

[1]- "الوحي المحمدي"؛ لمحمد رشيد رضا، ص 194.

[2]- الدين القيم لأبي الأعلى المودودي ص 4.

[3] "منهاج السنة"، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ج 3 ص 41.

[4] "نظرية العقد"، لشيخ الإسلام ابن تيمية، ص 7 - 8.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ عبدالرحمن بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ خالد بن ...
  • ثلاثية الأمير أحمد ...
  • الشيخ زيد بن ...
  • مثنى الزيدي
  • الأستاذ الدكتور ...
  • الشيخ د. أسامة بن ...
  • د. محمد بريش
  • أ.د.سليمان بن قاسم ...
  • د. إبراهيم بن حماد ...
  • د. سهل بن رفاع بن ...
  • د. تيسير بن سعد بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • د. خالد بن عبدالله ...
  • الشيخ أحمد بن حسن ...
  • الشيخ فيصل بن ...
  • د. محمد ولد سيدي ...
  • د. محمد بن لطفي ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • د. أمين بن عبدالله ...
  • د. عبد المحسن ...
  • د. عبدالمحسن بن ...
  • د. علي بن موسى بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ حمود بن عبد ...
  • الدكتور عبدالكريم ...
  • الشيخ صفوت الشوادفي
  • الدكتور وليد قصاب
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة