• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع مواقع المشايخ والعلماء / الدكتور وليد قصاب / قصص قصيرة


علامة باركود

موت أبي عمّار

د. وليد قصاب

المصدر: مجموعته القصصية: (يوم من اللامبالاة)، طبع مؤسسة الرسالة/ط1/1426هـ-2005م، ص69-105.

تاريخ الإضافة: 8/10/2006 ميلادي - 15/9/1427 هجري

الزيارات: 23772

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

كانت جنازة أبي عمار جنازة فخمة مهيبة. قال أهل الحي إنهم لم يروا مثلها منذ سنوات. خرج فيها الآلاف، وتعالى من بيت أبي عمار عويل النسوة وصياحهن ولطمهن – وهن يشيعن الفقيد العزيز – حتى كاد يصل إلى عنان السماء.

وأما امرأته أم عمار فقد سقطت أكثر من مرة مغشيًا عليها.. حتى ظن كثيرون أنها قد تلحق به بعد ساعات أو أيام..

شقت ثيابها، ولطمت خدودها، وذرفت من الدموع ما يملأ ((سطلاً))..

كانت تصيح بصوت يقطع نياط القلوب:
- لم تركتني يا أبا عمار؟... من لي من بعدك؟

- لا طعم للحياة بدونك.. كسرتَ ظهري.. خذني معك.. الموت أرحم من حياة لا تكون فيها.. و..و..

هدّأها القريبون والبعيدون.. ذكّروها الصبر.. وحرمة اللطم والعويل.. وما أعد الله لعباده الصابرين من عظيم الأجر وموفور الثواب..

وعندما خرجت الجنازة من البيت، ووضع النعش في سيارة دفن الموتى، وراح واحد من موظفي الدفن يصيح بصوته الجهوري الشجي:
- ترحموا عليه يا إخوان.. ترحموا على الحاج أبي عمار عادل الجباصيني الذي انتقل اليوم الخميس الموافق.. إلى رحمة الله.. سامحوه يا إخوان.. سامحوه يا أهل الجيرة يسمح عنا وعنكم الله..

كادت أم عمار تلقي بنفسها وراءه من شرفة المنزل، لولا أن أحاط بها جمع الحاضرين.. فهدؤوا روعها.. وسكّنوا حزنها.. وسحبوها إلى الداخل..

وانطلق الجمع الغفير بالجنازة في شوارع دمشق إلى جامع التوبة في حي (العقيبة) فصلوا على المرحوم أبي عمار بعد العصر.. ثم مضوا به إلى مقبرة ((الدحداح)) فواروه مثواه الأخير..

جميع هذه تفاصيل يعرفها الكبير والصغير، وهي تتكرر مرات ومرات في كل يوم على مسرح هذه الحياة العجيبة..

ولكن الذي لا يعرفه إلا واحد من الناس، وهو الحفار أبو دياب، فشيء لا يكاد يصدق..

يقول أبو دياب الحفار: أُنزل أبو عمار إلى قبره، ووُسِّد فيه ووقف "الملقِّن" يعلمه قائلاً:

- يا عبدالله.. سيأتيك بعد قليل الملكان منكر ونكير ليحاسباك ويسألاك.. فإذا قالا لك: من ربك؟ فقل: الله ربي.. ومن نبيك؟ فقل: محمد نبيي. وما دينك وكتابك؟ فقل: الإسلام ديني.. والقرآن كتابي.. والكعبة قبلتي.. وأنا على قول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله..

ثم أهيل التراب على الجسد، وقرئت له سورة "يس" ثم انصرف المشيعون يجترون الأحزان والدموع..

يتابع أبو دياب الحفار قائلاً: رجعت إلى قبر أبي عمار في اليوم التالي لأكمل ترميمه وإعداده ونصب ((الشاهدة)) عليه، وبينما أنا أسوي أطرافه، وأكمل إهالة التراب أحسست بحركة في داخل القبر. لم أصدق عيني.. ولكن الحركة كانت تقوى بما لا يدع مجالاً للشك.. ثم سمعت صوت أنين ينبعث من داخل القبر.

وقفت ذاهلاً بين المصدق والمكذب.. كان أنينًا لا تخطئه الأذن.. ثم فوجئت بالجسد المدفون المسجي ينتفض محاولاً الخروج من القبر.

يقول أبو دياب الحفار: تقفَّف شعر رأسي من الخوف.. أوهمت نفسي أول الأمر أني في كابوس.. ولكن حركة الجسد قويت.. ثم امتدت يد من الداخل حتى صارت فوق التراب.. وما هو إلا وقت قليل حتى فوجئت بأبي عمار ينفض عن نفسه التراب، ثم يرفع رأسه.. ويقوم بكفنه.. وهو يصيح بي:

- أبا دياب.. ساعدني على الخروج.. أرجوك.. أنا حي.. أنا لم أمت بعد..

يكمل أبو دياب الحفار: مددت يدي أساعد الميت على الخروج وأنا أكاد أتجمد من الخوف.. سحبته حتى خرج.. ورحت أتأمله غير مصدق عيني.. إنه أبو عمار الذي دفنته أمس بيدي هاتين.. أهذا معقول؟ لم أستطع أن أنبس ببنت شفة.. كنت أرتجف كالفرخ الصغير.. إنه أبو عمار بشحمه ولحمه.. كان ملفوفًا بكفنه الأبيض..، ساعدته على فكه حتى يستطيع الحركة.. سقط الكفن عنه فأصبح عاريًا..

قلت ودمي متجمد وكلماتي ترتجف:

- استتر به يا أبا عمار ريثما آتيك بشيء تلبسه..

قال أبو عمار وهو يضم عليه الكفن ويحدق فيّ بشكل مرعب: كيف دفنتموني حيًا يا أبا دياب؟

قلت مرتاعًا:

- حيًا؟.. كنتَ ميتًا يا أبا عمار.. أنا ((غشيم)) عن الأموات؟ إني أدفنهم منذ أربعين سنة.
صاح أبو عمار وقد سقط كفنه من الانفعال:
- لم أمت يا رجل.. اتق الله.. هل تراني أمامك ميتًا؟

قلت:- كنتَ ميتًا يا أبا عمار..

عاد أبو عمار يصيح وهو يتناول الكفن ليستتر به:
- كنتُ ميتًا؟ هل رأيتَ أحدًا يعود بعد الموت؟
- لم أر..

- هل قامت القيامة فأحياني الله مرة أخرى؟
- لم تقم يا أبا عمار.. لم تقم.. وهذا ما يحيرني.. إني لا أكاد أصدق ما أرى وما أسمع... ووالله لولا أني أراك بعيني رأسي هاتين لكذبت نفسي.. سبحان الله.. هذه إحدى الأعاجيب..

سكت أبو عمار – كما يقول أبو دياب الحفار – على مضض.. سحبته من ذراعه وهو ملفوف بالكفن.. أخذته إلى غرفتي التي في المقبرة.. أعطيته شيئًا يلبسه..... ولما رأيته يستعد للمغادرة سألته:
- إلى أين يا أبا عمار؟
قال مستغربًا من سؤالي:
- إلى بيتي..
قلت:
- بيتك.. هل تذهب هكذا إلى بيتك؟

- كيف أذهب إذن؟
- لابد من تمهيد لهذا الأمر يا أبا عمار.. إن دخولك عليهم هكذا فجأة وقد دفنوك بالأمس، وظنوا أنك مت، قد يقتلهم خوفًا..
- يقتلهم؟
- نعم يقتلهم.. تصور أن ترى أباك الذي دفنتَه بيديك يفتح الباب ويدخل عليك فجأة.. ماذا تفعل؟

هدأ روع أبي عمار، فقال:
- صدقت.. إنه أمر لا يصدق.. ما الحال إذن؟
قال أبو دياب الحفار:
- دعني أذهب إليهم.. وأمهد للأمر
فكر أبو عمار قليلاً.. ثم هز رأسه وقال:
- لا.. لا.. أنا سأذهب بنفسي.. وسأتلطف في الأمر.. ولن يحدث إلى الخير.. السلام عليكم..

يقول أبو دياب الحفار:
خرج أبو عمار من المقبرة بالثياب التي أعطيته إياها.. ورحت أتخيل كيف يمكن أن يكون وقع المفاجأة على أسرته المسكينة.. ولم يمض إلا أقل من ساعتين حتى فوجئت بالرجل يعود مرة ثانية.. كان ممتفع الوجه، متهالكًا، يرتجف من الانفعال، ويكاد يسقط من الإعياء..

حسبت في أول الأمر أنه غير رأيه.. ولم يذهب.. ولعله اقتنع أنْ لابد من تمهيد لهذا الأمر العجيب حتى لا يفاجئ أسرته مفاجأة صاعقة قد تقضي عليهم من الهلع.. قلت له:
- أحسنت يا أبا عمار أنك عدت.. اقتنعتَ برأيي أنه لابد من تمهيد لهذا الأمر.. أليس كذلك؟

أطرق أبو عمار ولم يرد.. كان وجهه يزداد امتقاعًا.. كان على وشك أن يتهاوى.. دفعت إليه كرسيًا تهالك فوقه، وراح يبكي بكاء مريرًا لم أر أحدًا في حياتي يبكي مثله..

سألته في إشفاق:
- ما بالك يا أبا عمار؟ افرح يا رجل.. لقد صرف الله عنك الغمة.. أحياك من بعد الموت.. كتب لك عمرًا جديدًا.. إن فرح أسرتك لن يكون له نظير أن ردك الله إليهم بعد أن كادوا يموتون حزنًا عليك.

ازداد أبو عمار امتقاعًا وبكاء، فأكمل أبو دياب الحفار:
- ولكن دعنا يا أبا عمار نتدبر الأمر حتى لا يكون هول المفاجأة عليهم صاعقًا.

قال أبو عمار وهو يزداد انتحابًا وتهالكًا:
- لقد ذهبتُ يا أبا دياب.. لقد ذهبت..
- ذهبتَ؟
صحت غير مصدق. يقول أبو دياب
- أجل ذهبت.. وليتني لم أفعل..

صحت مرة أخرى:
- حدثني بما حصل يا أبا عمار.. هل حدث مكروه؟
نهض أبو عمار.. بدأ يخلع الملابس التي أعطيته إياها..
قلت مستغربًا:
- ماذا تفعل يا أبا عمار؟

قال وهو يتهاوى على الكرسي:
- أين الكفن يا أبا دياب؟..
- الكفن؟
- أجل.. كفني.. أين كفني يا أبا دياب؟.. أعطني إياه..

قلت وأنا أنظر إليه مشفقًا مستغربًا:
- لماذا؟.. ماذا تريد أن تصنع بالكفن؟

قال أبو دياب الحفار:
كان الرجل يزداد امتقاعًا وشحوبًا.. كان نحيبه يزداد.. أحسست أن الرجل في وضع غير طبيعي، وأن أمرًا جللاً قد حدث له.. اقتربت منه.. وضعت كفي على كتفه.. كان باردًا كقطعة الثلج، صحت به:
- ما بالك يا أبا عمار؟.. لماذا لا تقص علي ما حدث؟

خرجت الكلمات من فمه كالحشرجة:
- ماذا أقول لك يا أبا دياب.. ليتني لم أذهب.. ليتني لم أسمع شيئًا من كلامهم.. ليتني بقيت مخدوعًا بهم..

انقطع نفسه، وبدا وكأن روحه تخرج:
- ماذا حصل يا أبا عمار؟.. أكمل..

أكمل أبو عمار وروحه تكاد تخرج مع كلماته:
- ما إن وصلت إلى بيتي.. ووضعت إصبعي على الجرس أهم بضغطه حتى تناهى إليّ كلامهم.. لم أصدق أذني.. أيعقل أن يكون هذا ما يشغل بالهم بعد يوم واحد من موتي؟.. هل نسوني بهذه السرعة ولم يعد يهمهم مني إلا ما خلفته من المال؟ كانت أصواتهم عالية.. كانوا يختصمون على التركة.. آه.. يا أبا دياب.. لن تصدق ماذا كانوا يقولون.. آه.. ماذا أقول لك.. المرأة والأولاد كانوا.. ماذا أقول لك؟.. ولماذا أقول؟

أين كفني يا أبا دياب.. أعطني كفني.. أريد أن أعود إلى قبري.. والله إن بطن الأرض أرحم من ظهرها..

ولم يستطع أبو عمار أن يكمل حديثه.. تحشرج صوته، رحت أستحثه:
- قال يا أبا عمار.. فضفض.. ماذا حدث؟

سقط أبو عمار من على الكرسي.. اقتربت منه أريد أن أساعده على النهوض.. كان جثة هامدة..

يقول أبو دياب الحفار: فكرت طويلاً ماذا أفعل؟ وأخيرًا أحضرت الكفن.. لففته به.. ثم سحبته إلى قبره، وأهلت عليه التراب.. وكأن شيئًا لم يحدث..





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
3- قصة أعجبتني
دكتور وان - ماليزيا 22-06-2015 07:47 PM

السلام عليكم أستاذي الفاضل
لقد أشرتم إلى هذه القصة يوم كنا وفي طريقنا إلى سيبرجيا، وشكرا لكم على هذا الإبداع يا أستاذي.

2- تعليق
حلا - فلسطين 27-06-2014 05:43 PM

محزنة ولكنها حقيقة , نحزن على الميت يوم يومان أسبوع ,ثم نتقاتل على الميراث , لكننا ليتنا نتعلم من الموت , أن لا شيء يستحق!
هل الميراث أغلى ممن نحب؟!

عنصر التشويق حاضر في القصة بشكل يجعل القارئ وكانه معهم, ما شاء الله .

بارك الله فيكم

1- تعليق
د. عبد الوهاب - ليبيا 31-12-2013 08:51 PM

قصة متميزة تعد من عيون القصص القصيرة بحق. جمعت من السرد جميع عناصره المميزة: الفكرة، والهدف، والفنية متمثلة في: حوار شائق متدفق، وتشويق، وإمتاع، ومفاجأة، ومفارقة وهي أهم ما يميز البحبكة الناجحة. شكرا جزيلا أيها القصاب على قصب هذه القصة. وشكرا لموقع الألوكة الرائع.. أخوكم عبد الوهاب

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ عبدالرحمن بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ خالد بن ...
  • ثلاثية الأمير أحمد ...
  • الشيخ زيد بن ...
  • مثنى الزيدي
  • الأستاذ الدكتور ...
  • الشيخ د. أسامة بن ...
  • د. محمد بريش
  • أ.د.سليمان بن قاسم ...
  • د. إبراهيم بن حماد ...
  • د. سهل بن رفاع بن ...
  • د. تيسير بن سعد بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • د. خالد بن عبدالله ...
  • الشيخ أحمد بن حسن ...
  • الشيخ فيصل بن ...
  • د. محمد ولد سيدي ...
  • د. محمد بن لطفي ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • د. أمين بن عبدالله ...
  • د. عبد المحسن ...
  • د. عبدالمحسن بن ...
  • د. علي بن موسى بن ...
  • الشيخ عبدالله بن ...
  • الشيخ حمود بن عبد ...
  • الدكتور عبدالكريم ...
  • الشيخ صفوت الشوادفي
  • الدكتور وليد قصاب
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة