• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب موقع الأستاذ الدكتور محمود بن أحمد بن صالح الدوسريد. محمود بن أحمد الدوسري شعار موقع الأستاذ الدكتور محمود بن أحمد بن صالح الدوسري
شبكة الألوكة / موقع د. محمود بن أحمد الدوسري / مقالات


علامة باركود

طعن المستشرقين في الوحي والرسالة

طعن المستشرقين في الوحي والرسالة
د. محمود بن أحمد الدوسري


تاريخ الإضافة: 4/6/2022 ميلادي - 4/11/1443 هجري

الزيارات: 19344

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

طَعْنُ المستشرقين في الوَحْي والرِّسالة

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أمَّا بعد:

بادئ ذي بدء: لا بد من التأكيد على أنَّ نبوة سيدِّنا محمد صلى الله عليه وسلم ثابتة، وهي حقيقة يقينية، لا يَضُرُّها مَنْ أنكرها، ولا يُضيرها عنادُ معاندٍ أو كافر، فهو صلى الله عليه وسلم سيِّد الخلق والبشر؛ بل سيد ولد آدم يوم القيامة، وأفضل الأنبياء والمرسلين، وقد أقرَّ بنبوَّته الأنبياء والرسل والملائكة أجمعون، وأيَّده الله تعالى بمعجزات وآيات وبراهين تُثبِت نبوَّته؛ ومن أعظمها القرآن الكريم.

 

وإنَّ الطعن في رسالة النبي صلى الله عليه وسلم يعني هدم الدين بالكامل، لذلك ركز هؤلاء المستشرقون على الطعن في حقيقة الرسالة والوحي من السماء؛ ليكون بمثابة هدم الصرح الذي يرتكز عليه الإسلام بالكامل، وذلك بالتشكيك في أصل الدين، ومنبع أحكامه، وأوامره ونواهيه، وبالتالي تتساقط المبادئ الأخرى تلقائيًا، وهذا الأسلوب العدائي الناتج عن الحقد الغائر في صدور أولئك القوم كان الأسلوب نفسه الذي مارسه كبراء قريش وزعماء الشرك في الصدر الأول من عهد هذا الدين، حيث اتهم المشركون الرسول صلى الله عليه وسلم بأنَّ ما يأتي به ليس إلاَّ نوعًا من الجنون أو صرعًا ينتابه في بعض الأحيان، فيأتيه وهو في حالته هذه بعض الأمور فيبثها على الصحابة من حوله، أو هو نوع من السحر يتعامل من خلاله مع الجن فيعلمونه أمورًا يجهلها المجتمع العربي في ذلك الوقت، وغيرها من الافتراءات والأكاذيب التي لا سند لها ولا دليل، فكان ذلك بمنزلة طعن في الوحي والتشكيك فيه[1].

 

ومن أجل التشكيك في الوحي والرسالة؛ فإنَّ المستشرقين قد أثاروا شُبَهًا وشبهات حاولوا خلالها إثبات صحة ما ذهبوا إليه، ومن أهمِّها ما يلي:

1- الزعم بأنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان مصابًا ببعض الأمراض العقلية النَّفسية التي أثَّرت عليه تأثيرًا بالغًا، وذهبوا إلى تحديد ذلك فقالوا: إنه كان مريضًا بالصرع، وأنَّ ما يعتريه في ساعات الوحي؛ إنما هي نوبات الصرع التي كان يسمع أثناءها كلامًا ردَّده فأصبح قرآنًا، ونتج من ذلك ما ادَّعى أنه وحي من الله، وذهب إلى هذا الرأي كلٌّ من:

أ- "واشنطن إرفنج" حيث قال: (إنَّ محمدًا كان يُصاب برعدة عنيفة، ثم بنوعٍ من الإغماء أو التَّشنُّجات، وفي خلال ذلك ينحدر من جبهته سيل من العرق البارد، فكان يرقد وعيناه مغلقتان، وقد انتشر الزَّبد حول فمه... وكانت زوجته عائشةُ ومولاه زيدٌ مِمَّن وصفوا هذه الحالة، وذكروا أنها تحدُث له نتيجة نزول الوحي عليه، وقد انتابته هذه الحالة عدة مرات في مكة قبل نزول القرآن وخافت خديجةُ عليه، إذ ظنَّت أنها نتيجة تأثير الأرواح الشريرة، وأرادت استدعاءَ أحدِ المشعوذين ليفحصه، ولكنَّ محمدًا نهاها عن ذلك، فكان لا يُحِبُّ أنْ يراه أحد خلال هذه النوبات)[2].

 

ب- ويقول "هنري ماسيه": (ووَفْقًا للتقاليد فإنَّ محمدًا تلقَّى في بادئ الأمر نوعًا من الدَّوي فصار كأنه مصاب بالحمَّى، وشحب لونه، وارتجف وتدثَّر بدثار، وهناك بعض المؤرخين - والبيزنطيون منهم على الخصوص - تحدَّثوا عن الصرع الذي يمكن أن يكون محمد مصابًا به، ومن المعلوم في القرون الوسطى في الشرق كما في الغرب أنَّ هؤلاء المرضى كانوا يتخيَّلون كأنَّ روحًا تمتلكهم، وقد أصبحت النوبات عند محمدٍ مألوفة كثيرًا ابتداء من الوحي الأوَّل الذي حدث في شهر رمضان)[3].

 

ج-وزعم "شبرنجر" و"غوستاف فايل" وغيرهما أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم كان مصابًا بحالاتٍ من الصرع يغيب فيها عن الناس وعمَّا حوله، ويظل فيها ملقًى على أثرها بين الجبال لمدة طويلة، يسمع له على أثرها غطيط النائم، ويتصبَّب عرقًا، ويثقل جسمه، وتعتريه التشنُّجات، وتخرج منه الرغوة، فإذا أفاق ذكر أنه أوحي إليه، وتلا على أتباعه ما يزعم أنه وحي من الله، وهو ليس وحيًا بل هي نوبات صرع واضطرابات عصبية[4].

 

2- واعتبرها بعضُهم حالةَ هستيريا، وتَهيُّجًا عَصَبيًا: فادَّعوا أنَّ حالة الهوس والهستيريا والتهييج العصبي يظهر أثرها عليه في مزاجِه العصبي القلق، حتى كان يصل به الأمر ألاَّ يُفرِّق بين تعاقب الليل والنهار، وقد هزل على إثرها جسمه، وشحب لونه، وخارت قواه[5].

 

3- واعتبرها بعضُهم نوعًا من الهَوَس: يقول "غوستاف لوبون": (ويجب عدُّ محمدٍ من فصيلة المتهوِّسين من الناحية العلمية كما هو واضح، وذلك كأكثر مُؤسِّسي الديانات)[6]. وذهب "نيودور نولدكه" إلى أنَّ محمدًا كانت تنتابه نوبات عنيفة من الانفعال جعلته يظن أنه تحت تأثيرٍ إلهي، ويظن أنه يتلقَّى وحيًا[7].

 

وقد اعتمد المستشرقون في مزاعمهم هذه على "أحاديث بدء الوحي" ولكنهم خرجوا بها عن حقيقتها، وأوَّلوها تأويلًا باطلًا؛ كي يُحقِّقوا مطامِعَهم في النَّيل من الدِّين، وغايةُ ما تدل عليه هذه الأحاديث: هو عِظَمُ القولِ المُنزَّل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم وثِقَلُه، وما كان يترتَّب عليه من عَرَق أو ثُقْلٍ في جسمه أو مظاهر أُخرى، لم تكن تُفقِده الوعيَ والإدراكَ والحِس، فهي بعيدة كلَّ البعد عن المسِّ أو السِّحر أو الصَّرع والتي يَفقِد فيها صاحبُها إدراكَه ووعيَه وحِسَّه، ثم لا يكاد يُفيق صاحبُها إلاَّ وقد نسي كلَّ شيءٍ حدث له في وضعه هذا.

 

4- وزعم بعضُ المستشرقين أنَّ الوحي الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر ذاتي من داخل نفسه، وخياله الواسع، وعقله المُتوقِّد ذكاءً، أي: أنه وحي نَفْسِي، وليس وحيًا حقيقيًّا:

 

يقول "بروكلمان": (بينما كان بعض معاصري النبي يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التَّحنُّث والتَّنسُّك، ويسترسل في تأملاته حول خلاصه الروحي، ليالي بطولها في غار حراء قرب مكة، لقد تحقق عنده أن عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة فارغة، فكان يضج في نفسه هذا السؤال، إلى متى يمدهم الله في ضلالهم، ما دام هو عز وجل قد تجلى، آخر الأمر، للشعوب الأخرى بواسطة أنبيائه؟ وهكذا نضجت في نفسه الفكرة أنه مدعو إلى أداء هذه الرسالة؛ رسالة النبوة، ولكن حياءه الفطري حال بينه وبين إعلان نبوَّته فترةً غير قصيرة، ولم تتبدَّ شكوكه إلاَّ بعد أنْ خضع لإحدى الخبرات الخارقة في غار حراء. ذلك بأنَّ طائفًا تجلَّى له هناك يومًا، هو الملك جبريل، على ما تمثله محمد فيما بعد، فأوحى إليه، أن الله قد اختاره لهداية الأمة، وآمنت زوجه في الحال برسالته المتقدمة، وتحرر هو نفسه من آخر شكوكه بعد أن تكررت الحالات التي ناداه فيها الصوت الإلهي وتكاثرت. ولم تكد هذه الحالات تنقضي حتى أعلن ما ظنَّ أنه قد سمعه كوحيٍ من عند الله)[8]، فانظر إلى هذا المكر الخبيث والتَّعصُّب المقيت؛ حيث أثبت الوحيَ والرسالةَ والنبوةَ لشعوبٍ أُخرى، وبالقطع يَقصِد بهم أنبياء بني إسرائيل إلى عيسى عليه السلام، وفي الوقت نفسِه ينفي عن محمدٍ صلى الله عليه وسلم صفةَ النبوة ويَسْلُبُها منه، مُسَلِّمًا له بارتقائه الروحي ورياضته النَّفسية التي جعلته يظنُّ أنه نبي، فمَدَحَ وذَمَّ في وقتٍ واحد، ومَنَحَ ومَنَعَ في وقتٍ واحد، وجَوَّز وحال في وقتٍ واحد؛ فجمع بين المُتَناقِضات مُجَنِّبًا المنطِقَ والعقل؛ من أجل أهوائه ورغباته.

 

5- وزعم بعضهم أنَّ الوحي مقتبس من تعاليم اليهودية والنصرانية، وغالبها من طريق "ورقة بن نوفل"، و"بَحِيرا"، و"نسطورا"، وأنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم قد اقتدى بتلك التعاليم، وكيَّفها تكيُّفًا بارعًا وَفْقًا لمتطلبَّات شعبه الدينية:

أ- فذهب "إميل در منغام" إلى أنَّ محمدًا التقى بورقة بن نوفل وأخذ عنه أصول دينه[9].

 

ب- ويقول "جولد تسيهر": (صار رهبان المسيحيين، وأحبار اليهود موضع مهاجمة منه – يعني النبيَّ صلى الله عليه وسلم – وقد كانوا في الواقع أساتذة له)[10].

 

ج- ويقول "واشنطن إرفنج": (عاد محمد إلى مكة، وقد تأثَّر خياله بالقصص والروايات التي سمعها في الصحراء، وبأحاديث ذلك الراهب النسطوري)[11]. ويقول أيضًا: (ويرجع له الفضل – يعني ورقة – في ترجمة بعض أجزاء الكتب السماوية إلى اللغة العربية، ولا شك أنَّ محمدًا قد اطَّلع عليها واستفاد مما جاء فيها)[12].

 

د- ويقول "بروكلمان": (وتأثرت اتجاهات النبي الدينية في الأيام الأُولى من مقامه في المدينة، بالصلة التي كانت بينه وبين اليهود)[13].

 

فإذا كان محمدٌ صلى الله عليه وسلم أخذ عن "ورقة" أُصولَ دينِه، فمِنْ أين عَلِمَ هؤلاء هذه المعلومة الخطيرة؟ وما هي مصادرُهم؟ وما هي أصول الدِّين عند "ورقة بن نوفل" كي نُقارنَ بينها وبين أُصول الدِّين عند محمد صلى الله عليه وسلم؟ وأين هذه الترجمات التي ترجمها "ورقة بن نوفل" للكتب السماوية؟ وهل ورد لها ذِكْرٌ في كتب التاريخ والسِّيَر، بحيث تجعل "واشنطن إرفنج" لا يشكُّ في أنَّ محمدًا اطَّلع عليها؟! من أين له بهذا اليقين وتلك الثقة؟ فلْيُخْبِرونا إنْ كانت لديهم أثارَةٌ من عِلم، وإلاَّ ما هو إلاَّ الظن، ﴿ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ﴾ [النجم: 28].

 

ثم متى كان محمد صلى الله عليه وسلم تلميذًا لرهبان المسيحيين وأحبار اليهود؟ ومتى كان اليهود والنصارى دُعاةً لدِينهم في جزيرة العرب؟ وهل يُعقل أنْ يمكث اليهودُ لفتراتٍ طويلة في المدينة دعاةً لدينهم ولا يدخل فيه أحدٌ؟ مع أنَّ المعلوم من اليهود أنهم ضربوا على أنفسهم سورًا وهميًّا في يثرب عازلين دينَهم عن الآخَرين، فمن أين تسرَّبت أخبارُ هذا الدِّين وتعاليمُه إلى محمدٍ صلى الله عليه وسلم.

 

وإذا تحدَّثنا عن النصارى؛ قلنا الأمرَ ذاتَه، مُضافًا إليه، هل يُعْقَلُ أنَّ مُقابلات محدودة في رحلاتٍ تجارية يمرُّ فيها محمدٌ صلى الله عليه وسلم مرورًا سريعًا على راهبٍ أو حتى على رهبان تُمكِّنه من معرفة دِينِهم وأخذِ تعاليمهم وإعادةِ صياغتها من جديد؟! وهل أشار هؤلاء الرهبانُ الذين طبقت شهرتهم الآفاق إلى أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أخذ عنهم العلم؟ وإذا كانوا قد ذكروا ذلك؛ فأين الدليل من كتبهم؟ فليأتونا بآيةٍ إن كانوا صادقين.

 

والمتأمل في هذه الشُّبَه المُتقدِّمة يرى أنها مع طعنها في الوحي المُنزَّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم تطعن في عصمته فيما بلَّغه من الوحي عن ربِّه تبارك وتعالى، وتطعن في سلامة عقله وبدنه، وهو ما يتنافى أيضًا مع عصمته صلى الله عليه وسلم.

 

والمتأمل في هذه الشُّبَهِ الهزيلةِ يرى أنَّ أصحابها قد أسرفوا في النَّشاط؛ لكيد الإسلام وطمسِ حقيقة من حقائقه المتمثِّلة في الوحي، وهنا نوضِّح أمرًا في غاية الخطورة: وهو أنَّ أهل الأهواء من الفِرقَ المنحرفة عن الإسلام؛ منهم مَنْ ردَّ الحديثَ وردَّ رُوَاتَه ابتداءً؛ ليقطع الطريقَ على مَنْ يُقيم عليه الحُجَّة، وهؤلاء المستشرقون بدؤوا بردِّ الوحي وإنكاره ابتداءً؛ ليرُدُّوا الرسالةَ والنبوةَ والإسلام، وهذا من الشَّبَه بين المبتدعة وغير المسلمين في آليَّات التفكير وأنماطه.

 

ويُلاحظ على المستشرقين مدى تحيُّرِهم وتردُّدِهم واضطرابِهم، في تحديد المصدر الذي صدر عنه الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرَّة يقولون: كذا، ومرَّة يقولون: كذا، وإنْ شئت أن تطَّلع على هذه الصور المضحكة من هذه البلبلة الجدلية التي أثارها هؤلاء، فاقرأ وصفها في قوله تعالى: ﴿ بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ ﴾ [الأنبياء: 5].

 

فهذا يُصوِّر لك مقدار ما أصابهم من الاضطراب في رأيهم، ويُريك صورةَ شاهدِ الزُّور إذا شعر بحرج موقفه، كيف يتقلَّب ذات اليمين وذات الشمال، وكيف تتفرَّق به السبل في تصحيح ما يحاوله من محال، ويكفينا في ردِّ هذه الشُّبه قول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا * نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 45-48].

 

وقوله سبحانه: ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا * وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا * أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلًا مَسْحُورًا * انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 4-9][14].

 

فالقرآن الكريم يُثبِتُ يقينًا أنَّ كتابات المستشرقين وشبهاتهم ليست بالحَدَث الجديد، وإنما هي مضاهاة لأقوالِ لأناسٍ سابقين لهم، على عهد الرسالة، وقد فنَّدَها القرآن العظيم وردَّ عليهم وأبطل حُجَجَهم، فما كان من الغالبية العظمى منهم إلاَّ أنْ آمنوا بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وسلَّموا له تسليمًا.

 

موقف الاستشراق المعاصر من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم:

الاستشراق المعاصر مرتبط بالاستشراق في العصور السابقة، ومُرتَّب عليه بالضرورة، ومع الأسف فإن الاستشراق المعاصر لا يزال يدور في إطار الصورة التقليدية الغربية للنبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على ذلك من تتبُّع هذه الصورة عبر مراحل الاستشراق حتى اللحظة الحالية؛ عندها نجد كثيرًا من المغالطات لا تزال مستمرة؛ إذ وضعت صورة الإسلام – على مدى قرون طويلة – في سلسلة من الافتراءات والتُّهم التي تناولت شخص الرسول صلى الله عليه وسلم أولًا، والرسالة التي بُعِث بها ثانيًا:

أ- فها هو المستشرق "نومانن دانيل" يُجمل خطة الأيديولوجيين المسيحيين لخلخلة جذور الإسلام في عبارة وردت في باب النبوة المزيفة، بقوله: (لقد بدا لأولئك الأكثر اهتمامًا أنَّ الهجوم المسيحي يجب أنْ يوجَّه بمجمله إلى تعرية الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أمكن إظهاره على حقيقته، أي تجريده من صفات النبوة، فإنَّ ذلك سيؤدِّي إلى انهيار صرح الإسلام كله)[15].

 

ب- وتؤكد ذلك المستشرقة "شيمل" بقولها: (لقد أثار محمد من الخوف، والكُره، وحتى الازدراء في عالم الغرب أكثر مما أثارته أيُّ شخصيةٍ تاريخية أخرى)[16].

 

من أجل ذلك بدا للغربيين المعاصرين أن يقولوا: إنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يكون نبيًا حقيقيًّا، وأما عقيدته فهي كذلك لا يُمكن أن تكون صحيحة، ولهذا كانت رؤية المسيحيين لمحمد صلى الله عليه وسلم أنه مرتد أو نبي مزيف لا يملك سوى الادعاءات والأضاليل، وصُوِّر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أيضًا على أنه ساحر معادٍ للمسيح أو أنه الشيطان ذاته، وصُوِّر الإسلامُ على أنه لون جديد من الهرطقة اليهودية أو المسيحية، أو على أنه ضرب جديد من الوثنية.

 

تلك الآراء كانت بعضًا من محطات كثيرة أسس فيها الغربيون الأدباء منهم والكتَّاب والمستشرقون لصورةٍ هي الغالبة على أذهان الأوربيين عن النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام.

 

كتابات المنصفين من المستشرقين:

لم تخل كتابات المستشرقين من بعض الإنصاف الذي ساد لهجةَ بعضٍ من هؤلاء الباحثين، وإن لم يؤمنوا ويعترفوا بنبوته صلى الله عليه وسلم، فهم يعتبرونه من أعظم الرجال الذين ظهروا في التاريخ، ومن نماذج ذلك:

أ- المستشرق "كلود إتيان سافاري" الذي وصف النبيَّ صلى الله عليه وسلم في "مقدمة ترجمته للقرآن" بالعظمة، وأكَّد أنَّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أسَّس دينًا عالميًا، يقوم على عقيدة بسيطة لا تتضمن إلاَّ ما يُقرُّه العقل من إيمانٍ بالإله الواحد الذي يُكافئ على الفضيلة ويعاقب على الرذيلة.

 

ب- المستشرق الانجليزي "توماس كارلايل" حيث يقول: (الرسالة التي أدَّاها ذلك الرجل ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنًا لمئات الملايين من الناس أمثالنا، خلقهم الله الذي خلقنا، أكان أحدهم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها هذه الملايين الفائقةُ الحصرِ والعدِّ أكذوبةٌ وخدعةٌ؟ أما أنا فلا أستطيع أن أرى هذا الرأي أبدًا، فلو أنَّ الكذب والغش يروجان عند خلق الله هذا الرَّواج، ويُصادفان ذلك التصديق والقبول؛ فما الناس إلاَّ بُله ومجانين، وما الحياة إلاَّ سخفٌ وعبث كان الأَولى ألاَّ تُخلق)[17].

 

ج- ومن أروع ما قاله "توماس كارلايل": (ما كان محمدٌ أخا شهواتٍ – برغم ما اتُّهِم به ظلمًا وعدوانًا)[18].

 

والخلاصة: أنَّ الاستشراق المعاصر إذا كان أكثر من التجنِّي على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، فإن كثيرًا من رجاله أيضًا قد تبيَّنوا عظمة شخصيته ودوره العظيم في تاريخ الإنسانية[19].



[1] انظر: الاستشراق وموقفه من السنة النبوية، (ص 20).

[2] حياة محمد، واشنطن إرفنج، ترجمة: د. علي حسني الخربوطلي (ص 48).

[3] دراسات في الاستشراق ورد شبه المستشرقين حول الإسلام، د. علي علي شاهين (ص 124-125).

[4] انظر: الإسلام والمستشرقون، نخبة من العلماء (ص 202)؛ الاستشراق دراسة تحليلية تقويمية، د. محمد عبد الله الشرقاوي (ص 135)؛ آراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره، (1/ 398).

[5] انظر: الإسلام في تصورات الغرب، د. محمود حمدي زقزوق (ص 92)؛ الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده. د. محمود ماضي (ص 109).

[6] حضارة العرب، غوستاف لوبون، ترجمة: عادل زعيتر (ص 114).

[7] انظر: الاستشراق دراسة تحليلية تقويمية، (ص 136). شبهات المستشرقين حول الوحي والرد عليها، د. إبراهيم خليفة عبد اللطيف (ص 7، 12، 17) ضمن بحوث المؤتمر الدولي الثاني (المستشرقون والدراسات العربية والإسلامية) مصر 1427هـ - 2006م.

[8] تاريخ الشعوب الإسلامية، كارل بروكلمان (ص 36).

[9] انظر: حياة محمد، إميل در منغام، ترجمة: عادل زعيتر (ص 125-126).

[10] العقيدة والشريعة في الإسلام، (ص 13، 14).

[11] حياة محمد، واشنطن إرفنج (ص 48).

[12] حياة محمد، واشنطن إرفنج (ص 56).

[13] تاريخ الشعوب الإسلامية، (ص 46-47).

[14] انظر: شبهات المستشرقين حول الوحي والرد عليها، (ص 29).

[15] الإسلام والغرب، نومانن دانيل (ص 52).

[16] الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، (ص 83-85).

[17] الأبطال، توماس كارلايل، ترجمة: محمد السباعي، (ص 58).

[18] الأبطال، (ص 59).

[19] انظر: الاستشراق، د. مازن بن صلاح مطبقاني (ص 25)؛ موقف الاستشراق المعاصر من

نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، د. عبد العزيز بن إبراهيم العسكر (ص 155، 162-163). ضمن بحوث المؤتمر الدولي الثاني (المستشرقون والدراسات العربية والإسلامية) مصر 1427هـ - 2006م.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • كتب وبحوث
  • خطب
  • مقالات
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة