• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

متاهة الموت البطيء

متاهة الموت البطيء
سعيدة بشار


تاريخ الإضافة: 22/4/2013 ميلادي - 11/6/1434 هجري

الزيارات: 7096

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

متاهة الموت البطيء


كان من الممكن أن تعبُرَ ذكراها حياتي دون تأثر، كأية ذكرى تلامسنا عوالمُها حينًا من الدهر، ثم تمضي إلى غياهبِ النِّسيان دون رجعة، كوميضٍ سطَع في قلب السماء لحظةً ثم اختفى، كان من الممكنِ أن يحدثَ ذلك، ولكن أجدُني وبعد تراكماتٍ كثيرة أخرى من الذكريات الحُبلى تسطعُ في ذاكرتي، أحيانًا على حين غفلةٍ مني، دون مواعيدَ مسبقة، وأحيانًا أخرى يُوقدها أي لقاء مع شيءٍ من ذكراها، اسم يشابه اسمها، حالةٌ تشبه حالتها، ملامح تُشبه ملامحها، فتشتعل ذكراها مرةً أخرى، كعُود ثقابٍ ألهبَه الاحتكاك، كيف يمكننا أن ننسى مَن دخل حياتَنا يومًا ما للحظات معدودة؛ ليعلِّمَنا معانيَ العفو في أبهى مراتبه، ما أروعَها من امرأةٍ قلَّ أمثالُها!

 

ساقني الفضولُ يومًا إلى إحدى المستشفياتِ المتخصصة لأرى ذكرياتِ الخطيئة على وجوه نُزلائها، أردت أن أجعلَ من قصصهم عبرةً لمن سيأتي بعدهم؛ كيلا يقعوا في جحيم ما وقعوا هم فيه يومًا، مع سبق الإصرار والترصُّد، حملت معي لهم أحمالاً من الأحكام، من الكُرْه، من الاحتقار، وكرَّاسًا صغيرًا يرافقُه قلمٌ أسودُ داكن كاسودادِ أفكاري؛ لأسجِّلَ عليها وبه أحكامي الجريئةَ مع إمضاءاتهم، ما أبشعَ ما فعلتُ ذاك اليوم!

 

حينما وصلت إلى بوابة المستشفى لاحظتُ أن أحد جدرانِها الجانبية كان يلامس الجدار المحيط بإحدى المقابر، سَرَتْ قُشعْريرةٌ في جسدي، فكرت أنها جُعلت هناك لتضُمَّ جثثَ مَن تخلّى عنهم أهاليهم مِن نزلاء المستشفى المجاور، ليس من السهل الاعترافُ بذاك المرض، ولا تقبُّله، ويظل أحسنَ حلٍّ للكثيرين أن ينسحبوا من كل القرابات التي تربطُهم بهم، دون إعلانٍ صريح؛ ليتركوهم يواجهون مصيرَهم المحتوم وحدهم، وليُرْمَوا لاحقًا في تلك المقبرة كأية نفايةٍ قذرة، لم تُربِكْني تلك الأفكارُ طويلاً؛ لأني حكمتُ أن مِثْلَ تلك القرارات كانت صائبةً رغم كلِّ القساوة التي تلفُّها؛ لأنها تكون أحيانًا المسلكَ الوحيد لدفن العارِ، وتنظيف سُمعة العائلة، كم كنتُ مخطئة!!

 

دخلتُ إلى المستشفى، وبحثتُ في أحد أقسامها عن المرشدةِ التي وعدتَني قبل ذلك بالمساعدة قَدْرَ ما يسمح لها موقعُها كأخصائية نفسيَّة، وعلمتُ أنها ألِفَتِ التعاملَ مع تلك الحالات المنبوذة، وعجبتُ مِن كلامِها أنها كثيرًا ما كانت تُشفِقُ عليهم، ولم أتلمسْ في أحاديثها المتفرعة الأحكامَ التي كنت أتوقعُها، ومضت في حديثِها لتُعرِّفني بأقسام الجَناح الخاص الذي يضمُّ الحالاتِ المتقدمة، التي تنتظر أجلَها في قريبٍ عاجل، قالت لي: إنها لا تستطيعُ أن تساعدَني في لقاء تلك الحالات؛ لأنها أصبحت خطيرةً، لم تتقبَّل مصيرها، فازداد عنفُها حتى صارت تحاول أن تُعديَ كلَّ مَن يقتربُ منها، بكل السُّبل صارت تحاول أن تقتلَ كلَّ مَن يقترب منها بالداء ذاته الذي تحاول هي بالمقابل أن تُخفِّفَ ألَمَه عنها، لكنها ما عادت تُبصر، كل الناس أصبحوا في نظرها أعداءً، ولا بد أن تُشعرَهم بالألمِ ذاتِهِ الذي يجتثُّ الحياةَ مِن عروقها، وجهةُ نظرٍ قائمة، مَن يستطيع أن يُصححَها؟ لا أحد، أغلقت أبواب القسمِ عليهم بإحكام، ووضعوا حراسًا عليها، وزُيِّنت كلُّ الجدران بصفارات الإنذار؛ لتُبلغ عن أية محاولةٍ للقتل غيرِ المباشر!!

 

حدثتني مرشدتي كذلك عن قسمِ الأطفال الذين يشربون أدويةً على أمل الشفاء، وهم لا يعلمون أي داءٍ يسري في عروقِهم، لكنهم يُصدقون كل ما يقوله الأطباء لهم، والمُمرِّضون وبقية الأهل الذين يزورونهم أحيانًا، يُصدِّقون أنهم سيُشفَوْن قريبًا، وستكبرُ شعورُهم من جديد، وتمتلئُ أجسادُهم بالحياة مرة أخرى، وأنهم سيعودون إلى مدارسِهم، وإلى الأحياءِ الواسعة؛ ليلعبوا فيها كما يشاؤون حتى يتعبوا، ويعودوا وحدهم إلى منازلِهم ليجتمعوا مع عائلاتهم مرة أخرى على الموائد؛ ليأكلوا كلَّ ما حُرِموا منه فيما مضى حتى الثُّمالة، كم هي بريئةٌ أحلامُهم!!

 

ونحن نتحدَّثُ دخلت علينا امرأةٌ في الأربعين مِن عمرها، متوسطة الطول، بسيطةُ الثِّياب، جسدُها كان يبدو - رغم الملابسِ الكثيفة التي تلفُّه - نحيلاً، مسودًّا، مُنهكًا، يحمل في كلِّ ذرةٍ من خلاياه شقاءَ الدنيا بأكملِها، ورغم كلِّ العلامات الكئيبة التي كان يبثها ذاك الجسد، فإن ابتسامةً هادئة كانت تُلاطفُ وجهَها، سلَّمتْ على الأخصائية النفسية في هدوء، وبعد بضعة أسئلة عن الأحوال العامة اقتربَتْ مِن المقعد المقابل لمقعدي، وقبل أن تجلسَ انتفضت كمَن تذكَّر شيئًا قالت:

• آسفة، نسيتُ أن أسلِّمَ عليك.

 

ومدت إليَّ بوجهِها لتسلِّمَ عليَّ.

 

ترددت لحظاتٍ قبل أن أقبَل سلامَها، وشعَرتُ في تلك اللحظات السريعة بالكرهِ الشديد لأولِ مَن سنَّ السلامَ بالقُبل على الخدود، المصافحة تكفي وزيادة.

 

صمتٌ رهيبٌ ساد الأجواءَ برهة من الزمن، لتقطعه الأخصائية دون سابقِ إنذار!

 

• أعرِّفك بالسيدة "´"، هي مِن بين الحالات التي أتابعُها، وقد قبِلت الحديثَ معك، لقد تجاوزتْ مرحلة الصدمة الأولى، وتقبَّلتِ المرض، بل وتناسته لتعود للحياة من جديد، لقد أبدت لنا إرادةً نادرة، جعلتنا في المستشفى نتعاونُ جميعنا لنوفِّر لها تكاليف مزرعةٍ صغيرة، ولتشتري بعض رؤوس الأغنام، وخلايا النحل، وهي الآن تساعد عائلتَها على الحياةِ الكريمة.

 

اختنق الكلامُ في حلقي، وشعَرتُ بحرارةٍ تنتشرُ في جسدي، وتجمَّدت الدموعُ الساخنة في عيوني، حاولت الكلامَ لأقول أي شيء، لكني لم أستطِع، استمرت الأخصائية النفسية في الحديث، وكأنها لم تشأْ أن ترى أية ردة فعلٍ أخرى مني:

• ستخبركِ عن قصتها، لا بد أن تعرفيها، لا بد أن تُسجِّليها.

 

ولأني لم أكنْ أستطيع الكلام أشرتُ برأسي بالموافقة، ورتَّبت كرَّاسي أمامي.

 

قالت لي تلك السيدة:

• أشكرُكِ على منحي هذه الفرصةَ، لكن أرجو منك ألا تُعْلني اسمي، اذكُري ما شئتِ من المعلوماتِ، إلا اسمي.

 

استنجدتُ بكل الشجاعة التي شعَرت بها في حياتي كلها لأردَّ عليها الإجابة التي طلبتها:

• نعم سيدتي، لك ما تشائين، سأذكر الجنسَ والعمر، والأحداثَ التي سترغبين في إخباري بها فقط.

 

ابتسمتْ في وجهي في هدوء، وقبل أن أستعدَّ لتلقّي ما ستعلن عنه قالت:

• لقد أحببته كثيرًا، كان زوجي، وكيف لي ألا أحبَّه؟! كان لطيفًا معي وحَنُونًا، عائلتُه تقبَّلتني على مَضَضٍ، كعادةِ كلِّ العائلات حينما تستقبل أول عروس في البيت، لكنَّ أمرَهم لا يُهمني، عشتُ معه بكل التفاصيل ككلِّ الزوجات المحبَّات، الوفِيَّات، ولكنه - ورغم لطفِهِ، وحنانِهِ، وحبِّه أيضًا - كانت له علاقات أخرى مع نساءٍ أخريات لا أعرفهن، كما لا أعرف، ولا هو أيضًا يعرف مَن فيهن أَعْدَتْه بذلك الوباء، اكتشف مرضَه مبكرًا، لكنه مع ذلك لم يخبِرْني، ولم ينبِّهني، استمرَّ في الحياة معي ككل الأزواج، وعشتُ معه ككل الزوجات، لم أشكَّ يومًا في وفائه، وما أحسست أبدًا أن المرضَ قد انتقل منه إليَّ، وفي هدوء كاملٍ أنجبتُ طفلتي الأُولى، ولم أفهم لماذا منعني من الولادة في المستشفى، أصَرَّ على أن يتمَّ الأمرُ في البيت، وكان له ما أراد، لم يشأ أيضًا أن أتناولَ حبوبًا لمنع الحمل، ولا أن آخُذَ ابنتي إلى المستشفى من أجل التلقيحاتِ المختلفة، أصرَّ أن يقومَ هو بكل شيء، ظننتُ أن الغَيْرةَ جعلَتْه يتصرَّف كذلك، أو الحرص عليَّ، لم أشكَّ يومًا في ذلك، لم أتأخر كثيرًا، فحملت لثاني مرة، ودون أن يُغيِّر من سلوكه شيئًا أنجبتُ طفلتي الثانية في البيت كأول مرة، لكني بدأت أشعر بالإرهاق الشديد، والضَّعف، لم أنتبهْ لحالتي الصحيةِ كثيرًا؛ إذ إن حالتَه بدَتْ أسوأَ مِن حالتي، لم أستطِعْ أن أعتنيَ به، كنت ضعيفة جدًّا، وكان أهله يُصرُّون أن يهتموا به دوني، عزلوني في غرفةٍ منفردة، أبعدوه عني، لم أكُنْ أراه إلا في بعض الأحيان، حينما يطلب رؤيتي، أو رؤية بناته، لن أغفرَ لهم أبدًا ما فعلوه معي!

 

استيقظت ذاتَ صباحٍ على صراخٍ ونحيب، انفطر قلبي، شعَرت بشيءٍ ما يشق صدري رعبًا وحزنًا، حاولت أن أجري لأسألَ أيًّا كان عما حدث، فوقعتُ على الأرض، استندت إلى الكرسي الذي أوقعني، حاولت المشيَ وأنا أستند إلى الجدران المتتابعة، كم كانت طويلة! لم أصِلْ إلى الفِناء إلا بعدما ظننتُ أن قلبي سيخرج من موضعِه، رأيت أمامي كلَّ أهله الذين أكرههم يبكُون، ويصرخون، فهمتُ مِن عويلهم أن سندي الوحيد في ذاك السجن قد مات، لا أدري ماذا حدث بعد ذلك، حينما أفقتُ كنت في غرفة بالمستشفى، وكانت أمي إلى جانبي، أبي لم يكن هناك، وأمِّي كانت تبكي، كنت أظنُّ أنها كانت تبكي على زوجي، كنت أظنُّ ذلك، لم تتجرَّأْ على مواجهتي، علمتُ لاحقًا أن الأطباءَ صرخوا في وجه أبي، ساءهم أن أُنجِبَ مع علمي بالمرض، وما أدراهم أني كنت أعلم؟! لم يرحَموا أبي! أخذوا مني بناتي، وعزلوهن في قسمٍ خاص، وأخذوني على سريرٍ متحرِّك إلى قسم آخر، بناتي أيضًا انتقل إليهن المرضُ، طلبتُ مرارًا ومرارًا رؤيتَهن، لكن لم يُسمَحْ لي بذلك، كان الجميع يصرخُ في وجهي وكأني ارتكبتُ جريمة!!

 

دخل إليَّ أحدُ الأطباء ذات يوم لينهرَني:

• أرأيتِ ما فعلت؟! لماذا تُنجبون وأنتم تعلمون أن أولادَكم سيموتون، وأنكم ستنقُلون إليهم قذارتكم؟!

 

منعني جهازُ التنفس المُطبق على وجهي من الرد، فهمتُ أن بناتي قد رَحَلْن إلى الأبد، أردت الصراخَ حتى يسمعَ العالَمُ كلُّه ألمي، لكن لم أستطع، ازدادت حالتي سوءًا، تدخل أطباء آخرون وممرِّضون لينقذوني من أزمةٍ قلبية مؤكدة، لن أغفر لذلك الطبيبِ أبدًا، مَن يكونُ ليجعلَ مِن نفسه إلهًا؟!


عدتُ إلى بيت أبي بعدما رمى أهلُه بحقائبي خارجًا، كانوا يعلَمون أن ابنَهم هو مَن أعداني بالمرضِ، ومع ذلك كانوا يحاولون أن يُفهموا الجميعَ أن العكسَ هو ما حدث، أغفرُ له ما فعله معي مع علمِه؛ لأنه رغم كل شيء كان حَنُونًا معي، وقد عشتُ معه لحظاتٍ رائعة جعلتني أنسى قسوةَ أهله، والدنيا كلها، ولكن أبدًا لن أستطيعَ أن أغفر لأهله، ولذاك الطبيبِ الظالم، سأدعو له بالرحمة، وسأبذل الخيرَ باسمه حتى ألحق به.

 

لا أدري أين صارت تلك المرأة الآن، ولا ما حل بها، وفقدتُ الوسيلة التي كانت تُعلِمُني بأخبارِها عن بُعد، لكني - ورغم كل السنوات التي توالت بعد أولِ وآخرِ لقاء بيننا - لم أَنْسَها، كما لم أَنْسَ أن الإنسان حينما يُحب يكون قادرًا على أن يتسامى، ويدوس على أحقاده وآلامه، ويغفر لمن أساء إليه بقلب صادق، وحبٍّ طاهر.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- مؤلمة
حلا - فلسطين 22-04-2013 04:16 PM

مؤلمة كثيراً

هو لا يستحق منها هذا الحب ابداً ...إذ لو كان حنوناً بصدق كما تقول ,لما فعل معها ما فعل ,وجعلها تنجب أطفالا يعذبون بهذا المرض ....

أسأل الله أن يرحمهما ويعفو عنا وعنهم

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة