• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

عام تحت الحصار

رغدة صالح أبو عمر


تاريخ الإضافة: 24/3/2009 ميلادي - 27/3/1430 هجري

الزيارات: 12542

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

 عام تحت الحصار
 (مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة
)


انتهتْ تلك العاصفةُ الهوجاءُ بعدَما غيَّرتْ ملامحَ المكان، وتركتْ بَصَماتِها شاهدةً على تلك اليدِ الجبَّارة، التي بَطشتْ بكلِّ مَن وقف في وجهها الشَّاحب.

وأخيرًا:عاد الرَّبيع، وبعث الدِّفءَ في الجُدران المحطَّمة من جديد، وأيقظ رُوحَ الأرض الصَّمَّاء، وجَسدَ السَّماءِ الأزرق الملفح بالغيوم البَيضاء، فعانقتِ الشَّمسُ كَبِدَ السَّماء؛ لِتنشرَ ضِياؤُها أَطيارًا عائدةً مِن المَهجر، وقلائدَ ذَهبيَّةً زُيِّنتْ بها جيد الذِّكريات.

انتهتْ، فَغدتِ الأغصانُ أوتارَ عُودٍ للحياة، وغدتْ عصافيرُها أَناملَ الفَنَّان، فشكلتْ معًا لوحةً فنيَّة، رَسمتْ لوحةً لأحزانِ الشِّتاء، تُثير بأناشيدها دُموعَ الأزهار على ستائرها المخملية، وأَشجانُ الفتى بعدَما ملَّ البُكاء، مُراقِبًا شَقائقَ النُّعمان تنمو بَينَ القُبور، وتُفتِّت بأوراقها الحسَّاسة وجُذورها الملْساء أقسى الصُّخور، كيف لا؟! وقدِ اكتسبتْ كِبرياءَها مِن أَجسادِ الشُّهداء، تلك الشَّقائق الحسناء الحمراء تَتركُ في القلب بقايا أُمنيَّةٍ بقدوم الرَّبيع مهما عتا الشِّتاء.

ذلك الفَتى يزور قبرَ أبيه في اليومِ الواحد عِدَّةَ مرَّات، ويُردِّدُ كلماتٍ يَطْرَب السَّامعُ لسماعها، وإن عَجزَ عن حلِّ لغز أَحرُفها المتواضعة، ستكون فَخورًا بي يا أبي فَخرَ الأرض التي احتضنتكَ، فَمَن يرضَ بالمهانة يومًا، لازمتْه المهانة أبدًا.

الثَّامن من نيسان:
وقفتُ اليومَ بينَ جُموعٍ مِنَ النَّاس، الجميع مِن حولي؛ لكنَّ شعورًا عميقًا في نفسي أَشْعرني بالوَحْدة، يوجِّه الجميعُ سِهامَ الشَّفقة إليَّ بأعينٍ دامعة، وكأَيِّن مِن واحدٍ صافحتْ نظراتي مُقلتَه ولَّى وَجهَه شَطرَ السَّماء، وأَخذتْ شِفاهُه تَنبس بكلماتٍ، لم أَفهمْ معانيَها، فكأنَّها لُغةٌ أخرى!

 أخذتُ أُوزِّعُ النَّظَراتِ حولي، أبحثُ عن أبي المفقودِ، الموجود في وجوه جميع الحاضرين، هو لم يغبْ يومًا عنِّي، ولازمتُ حِضْنَه أبدًا.


لِلحَظةٍ تَوقَّف الزَّمن على أعتاب ذلك الجزء مِنَ البَسيطة، ورَفع النَّاسُ أَعينَهم إلى السَّماء، تحمل الأيدي والأكتافُ جَسدًا هامدًا، غيرَ قادرٍ على الحَراك، وتضعُه في قطر من الأرض، ما أَشدَّ تلكَ الأيدي قُوَّةً! وما أَعظمَها جَلدًا! كيف تَقدِرُ على وَضعِ التُّراب فوقَه؟! كيف تَصبِرُ على تَركه وحيدًا هناك؟!

عدتُ إلى المنزل، أبحثُ عن أبي، أُنادي عليه بِكُلِّ ما أوتيتُ مِن قُوَّةٍ في الصَّوت، لكنَّ المنزلَ خالٍ، جُدرانُه ناصبة، لو أنَّ جِدار الغَيب لم يُحجبْ عنِّي لرأيتُ دُموعَها، ولسمعتُ نحيبَها، توهَّمتُ للحظةٍ بأنَّها تَهتزُّ، تحاول الاقترابَ مني، تكاد تُخالف قوانينَ الأرضِ لِتَضُمَّني، أمَّا أنا فقد استأثرتُ رُكنًا من المنزل لا أبارحه، أَضمُّ إليَّ جسدي، وفي نفسي أسئلةٌ لا تكاد تنتهي؛ لماذا استعجلتَ الرَّحيلَ يا أبي؟!

لماذا وأنا ما زِلتُ في أَمسِّ الحاجة إليك، لدفئِكَ، لصوتِكَ، لأنفاسِكَ، لحنانِكَ، لحضنِكَ؟!

لماذا تكون أنت الثَّمنَ لحقِّنا في البقاء في أرضٍ توارثْناها حَفيدًا عن جَدٍّ؟! ما أَقسى ذلك الثَّمنَ!

الحزن يُوجِّه إليَّ مِنَ الألم حُسامًا يقتل قلبي.

عطفك يا حياة:
يدٌ ناعمةٌ صغيرةُ البَنان، تمسح ما تمرَّد من دُموعي المحبوسة، طِفلٌ، بل طائرٌ أبيضُ الجَناح، يُحَلِّق بِضَحكاتِه حولي، كنتُ قد ظننتُ أنَّ سعادةَ الدُّنيا قد قُتلتْ بأوَّلِ قَطرةِ دَمٍ نَزفت مِن قلبِ أبي؛ لكنَّها لا زَالتْ على قَيدِ الحياة، ففي ركني ذاته، اجتمعت والطِّفل بعالَمَينِ مختلفين، عالَم السَّعادة والكآبة، بينهما بَرزخٌ يُبحِر بي بكلماته خلاله؛ لتَذْرُوَ حدودُ دولته نيرانَ حزني رمادًا، قُمْ والْعبْ معي، لبراءة الكلمة أحيانًا تترك في النَّفس أثرًا أبلغَ من كلام الشُّعراء.

اليوم الثلاثون مِن نيسان:
نامتِ الأعينُ وسكنتِ الأنفس، وتربَّع القمرُ على عرشِه متلألئًا متوسطًا للسَّماء، هنالك عادتِ الأحلامُ المزعجةُ تَستحوذُ على عقلي - كما في كل مساءٍ - وأخذَ شريط الذِّكريات يَتجسَّد أمامَ عيني، وتعالت الأصوات: أبي، إنَّه خلفَك، فكأنِّي أسمع صَوتَ الرَّصاصة تُمزِّق قلبه الآن، وهي ذاتها صيحة أُمِّي تمزِّق السُّكون، ألا تبَّت يداك، قتلتَه، سلبتَ رُوحه، لا تَمتْ، لا تتركْنا، أرجوك، كن وهمًا، كن خيالاً، وإنِّي لأَفضِّل ألاَّ تكونَ.

وتنهار المرأة، وتسقط أرضًا، وتسيل الدماء.

أُحسُّ برائحتها، فهي لم تغادرْ خلايا عقلي بعدُ، تتملكني ذات الحيرة، بل هي الرَّعشة ولا شيء سواها، خانتني ضُلوعي فتصلبت، إلى مَن أجري؟ إلى أبي الذي غدَا جثةً هامدةً، أم ْإلى أُمِّي الفاقدةِ للوعي؟ مادا أفعل؟ وأي فعلٍ يُعيد الرُّوح إلى الجسد؟ لكن أُمِّي يجب أن تعيشَ، سأتَّصل بالإسعاف، إلهي! هل هي الحقيقة، أمْ أنها تلك الكوابيس التي تُداهم كلَّ فتىً يعيش على أرضٍ تحت الاحتلال؟ أنا لن أبكيَ، لن أضعُفَ، وسأَحبِس دُموعي إلي محاجرها، فهذا اعتراف.

مهلاً، إنَّه أبي، إنَّها عيونُه تضحك، ذراعاه لا زالت مفتوحةً لتضمَّني، والهيبة ما بَرِحتْ من سَحْنَته، وددتُ الاقترابَ؛ لكنَّ الخوف يُعيد قدمي كلَّما أقبلت خُطوة إلى الوراء، ويستمرُّ سيل الدِّماء، هل ما زال ينزف؟ أحس بأنَّه يريد إِخباري بشيءٍ، أُراقب شِفاهَه بشغفٍ، عَلَّ سكناتِها تَصيرُ حركاتٍ، ماتت الأحرفُ، وانتهت كلُّ الكلمات، يداه باردتانِ ووجهُه أيضًا، أبي: هلْ تشعر بالبرد؟ أَأضُمُّكَ، أم أُدثِّرك؟ أخشى، أخشى أنَّا سَنكفِّنكَ، لا لا، الشَّهيد لا يُكفَّن، يدفن بثيابه، يا لِوضاعتي، هلْ هذا ما يَهمُّني؟! لقد فقدتُه إلى الأبد، إنها النهاية.

إلى متى سأظلُّ حبيسَ هذه الصُّور؟ إلى متى سأعيشُها كتَوِّها؟! إنَّه يقتل وينزف أمامي في كلِّ يومٍ، وأنا واقفٌ لا أستطيع فِعلَ شيءٍ منذ اثنين وعشرين يومًا، لم يَتغيَّرْ حرفٌ واحدٌ في دفتر مُذكِّراتي، الأيَّام تُعيد نفسَها، و أنا بَعدَ اليوم لن أبقى عاجزًا عنِ الحَراك، لقد آن أنْ أعودَ، فانتظر عودتي يا أبي.

الثامن من أيلول:
- ما حال صغيري وبني الحبيب؟
أنا لم أعدْ صغيرًا يا معلمي، لقد كَبِرْتُ في الخمس الشهور الماضية خمسينَ عامًا وعامًا، أنا اليوم يتيمٌ، واليتيم يَجبُ أن يَكْبَر الدُّنيا بخمسين عامًا، حتى يستطيعَ العيش على بسيطةٍ غدت غابةً للذِّئاب؛ لكن حالي أفضلُ الآن، فقدْ قرَّرتُ أن أحيا مِن جديد، ومَضيتُ اليومَ أسير في شوارعِ مدينتنا، كأنِّي أراها لأوَّلِ مرَّة، إنَّها حزينةٌ يا معلمي، إنَّ دُموعَها لم تَجِفَّ بعدُ، دُخَان الدَّبابات والبنادق لا زال يملأ رِئتَها البيضاءَ؛ لكنَّها فتحت أَذرعَها لي كمجاهدٍ نسي جرحَه على مضض؛ ليحفظَ جُثَّةَ شهيدٍ، كانت أشعة الشَّمس في شوقٍ إليَّ، وداعبت رياحُ الخماسين خصلاتِ شَعري كمهاجرٍ عائدٍ مِن سفرٍ طويل.

- اعذِرني يا صغيري الكبير، فأنت في عيني كَبيرٌ يفوق حجمَ السِّنين، لكنَّك عند عطاءِ قلبي تعود طفلاً، والقلب لا يملك أن يُحِبَّ شيئًا كحبِّه للبراءة في عَينَيْ طفلٍ صغير.

قد تكون الأرض كتلةً واحدةً تُظلُّها سماءٌ واحدة، لكن ما الذي يجعل تلكَ البُقعةَ التي نعيش عليها فريدةً بعطائها، وحيدةً بحنانها؟ ما الذي يُقرِّبك إليها كطفلٍ رقيقِ البَنان، صغير البنيان؟ تحاول تعليمه تَهْجِئة الكلمات وتعاقُب الخُطى على الدُّروب، كمن يقف لأوَّل مرَّة، عجبًا لِمَا يَنبع عنها مِنَ الأمان، من يفقدْ وطنَه يفقدْ وجودَه، يفقد ذاتَه، يفقد هُوِيَّتَه، لا أصعبَ مِن فُقدان مَن يَعتزُّ بك؛ الحافز الذي يدفعك، يفتخر بنجاحك، يشتاق إليك إذا ما نأيتَ عن الوجود، هذا هو اليتمُ الحقيقيُّ، إنَّ الأرواح - يا صغيري - حبيسةُ أجسادها، هي أيضًا تحلم بالحريَّة كأسيرٍ يَعُدُّ لحظاتِ ما قبلَ إخلاء السبيل، و الأجساد تشتاق لحِضْن أُمِّها شوقَ طفلٍ يُنازعُه شَقيقُه ذلك العطاءَ، ليس اليتيمُ مَن يفقد أباه أو أُمَّه، فكلنا إلى ذَهابٍ، لكن اليُتم الحقيقي أن تَفقِد هذه الأرضَ الخالدةَ، وتتركَها لتدوسَها أرجلُ الغُرباءِ، ليعيثوا فيها مُفسدين، فهم لا يَمتلكون لها الانتماءَ، لا عجبَ أنْ يَموتَ الأحرارُ رَفضًا للحصار، فكلُّ غيورٍ لا يقبل إلاَّ أنْ تعيشَ أُمُّه بينَ أَكُفِّه، دونَ أن تُمسَّ أو يتعرضَ لها طَرَفٌ مِن الغُرباء.

أرضُنا يا بُنيَّ أُمُّ عذراء، لا بدَّ أن تبقى عذراءَ، حتى وإنْ دَفعَ أبناؤها الثَّمنَ مِنَ الدِّماء.

التَّاسع من أيلول:
تلك الكلماتُ كانت مِن معلِّمي، نعمْ، إنَّه المعلِّم، ذلك الإنسان الذي يتربَّع على عرشِ المرتبة الشَّرفيَّة، ويحمل بينَ عُيونِه قبلَ ضُلوعِه رِسالَة العِلم، العلمُ ليس ما نقرؤه في الكتب، والمعلِّم الجدير باللَّقبِ هو مَن يمنح العِلم الذي لا ينتسب إلى السُّطور ولا يمسه البَنان، ذلك النُّور الذي يُضيء النُّفوسَ، ويُحيي القلوبَ؛

ولأنَّه قريبٌ من درجةِ رَسولٍ، فهو الرُّوح للرُّوح، والحياة للحياة، الأمل في الطَّريق، وشُعاعُ النُّور أُخِّر في النَّفق.

هزَّتني تلك الكلماتُ، واليوم وأنا واقفٌ على قبركَ يا أبي، أَقولُ لكَ بصوتٍ قَطَّعَتْ أوتارُه صرخاتِ الرَّفض للأيدي العبثية، كنْ فَخورًا بي يا أبي، فقد أتْممتُ ثَمن البُندقية.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
2- ارجو متابعة التعليقت من الكاتبة
HiTMaN47 - الاردن 11-04-2009 03:35 PM

اود ان اشكرك على هذه الكتابة المؤثر جدا
لا اعرف بما اصف شعوري الذي لا يزال حائرا بتلك الكلمات
ولكن الحيرة بداية جميلة لكل شيء

1- بورك هذا اليراع
أبو عمرو - الكويت 24-03-2009 08:32 PM

بورك يراعك أختي المبدعة، فقد حلقت بي كلماتك إلى فضاءات ملؤها الحزن والألم الذي لم يفارقني لأنه يتجدد .....

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة