• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

يوم بيوم (قصة قصيرة)

يوم بيوم (قصة قصيرة)
د. مصطفى عطية جمعة


تاريخ الإضافة: 1/3/2016 ميلادي - 22/5/1437 هجري

الزيارات: 4589

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

يوم بيوم


أمام مَزلقان القطار[1] بحي البارودية، جلس على حجر عريض، حاملاً فأسه ومنجلَه و"جوالًا" نصف ممتلئ، يرتدي جلبابًا بلديًّا فضفاضًا، نظيفًا من غير كيّ، وقد شدَّ على رأسه عمامة تحميه من حرارة ستشتد مع توسط الشمس كبد السماء.

 

لا يعرف كثيرًا من طرقات المدينة، فقط محطة القطار وما حولها عندما يختتم القطار مسيرته، وكذلك مزلقان البارودية حين يتباطأ القطار إلى أن يتوقف، لينزل الموظفون والطلاب وباعة السوق وهو معهم، فيتخذ مكانه دون أن يعلن عن نفسه، بل يظل في صمت لا تقطعه إلا حركته للصلاة في المصلى الصغير جانب حجرة عامل المزلقان، أو تناوله لقيمات ملفوفة بعناية في كيس قطني.

 

" عبدالتواب " هذا اسمه، دون كنية تسبقه أو لقب يصاحبه، لم يعرف سبل الرزق في بندر المدينة إلا منذ سنوات قليلة، لا يتذكر عددها، ولكنه اعتاد على مشواره اليومي، عدا يوم الجمعة.

 

في المرة الأولى حين ركب القطار من محطة قريته، قادمًا إلى البندر حاملًا فأسه، استغرب أهل البلد الراكبون معه، وسألوه عن وجهته بفأسه، أجابهم: سأبحث عن شغل، فقالوا له: أنت كبير في السن، وماذا ستعمل في البندر؟

أجابهم: نفس شغلتي في البلد .. جنايني.

 

فقالوا:

• أجِّرْ أرضًا أو اشتغلْ في غيطان البلد، فهذا أكرم لك.

♦ أنا أزرع الزهور والأشجار، ولن أفلح الأرض ولا أجمع المحصول.

• الفلاح الشاطر يشتغل في أي مكان.

♦ أنا جنايني فقط.

 

سكتوا، وسكت هو مؤثرًا النظر من نافذة القطار إلى خضرة الحقول المتراكضة، والتي قضمت المباني الكثير من أراضيها، أشاروا له أن يهرب من دفع التذكرة قبيل مرور المحصِّل، فابتسم وبسط كفه عن نقود فضية، فيما تسلل البعض ونام آخرون.

 

في المرة الأولى نفسها، وعند نزوله في المزلقان، ناداه رجل ببذلة أنيقة وشارب لطيف، وقد ترجَّل من سيارته، عارضًا عليه أن يعمل في حديقة فيلته، ابتسم عبدالتواب، وهتف: يا لفرج الله.

 

وانتفض من جلسته بفأسه، فعاد الرجل الوجيه يسأله: أنت فلاح أم جنايني؟

أجابه: جنايني، طول عمري.

 

قضى نهاره في الحديقة، نسَّق زهورها، وهذَّب أشجارها، وأزال النباتات الطفيلية، راقبه الوجيه وزوجته مبتسمين، فلمساته أظهرت جمال الحديقة، أذَّن الظهر، صلى عبدالتواب وغفا أسفل شجرة السنط، واستيقظ على صينية الغداء تحملها الخادمة، قبيل المغرب ارتفع غناؤه، وهو يتأهب للعودة، نفحه الوجيه مبلغًا سخيَّا، على وعد أن يأتي كل عشرة أيام أو أسبوعين، أجابه الجنايني:

• أنا يوم بيوم، يحيينا المولى إن شاء.

••••


بيته كان بالقرب من عمله في فيلا إبراهيم بك، يصلي الفجر، ثم يجلس في مندرة الدار، وبجانبه زوجته " خديجة "، وقد تعبَّق البيت برائحة العيش الطازج الذي أخرجته خديجة من الفرن البلدي، وتأتي ابنته " وداد " حاملة الأرغفة الساخنة، ومعها صينية معدنية عليها صحن حليب جاموستهم المحلوب قبل قليل، والقشدة عائمة على اللبن الدافئ، ومعها طبق جبن قريش، بدؤوا طعامهم بالبسملة، وانتهوا بالحمدلة، فالشاي الأسود على موقد الحطب، ومن ثم اتجه إلى عمله في حديقة الفيلا، وبعد صلاة الظهر، يضطجع تحت شجرة الصفصاف التي غرسها أول أيام عمله بالحديقة، وجعلها شاهدة على أيامه المتتابعة، فإذا انتبه من قيلولته، اتجه إلى كوخه، ليعدَّ كوبًا من الشاي، يستلذ برشفه بين أحواضه التي ترسل روائح شتى، يتعب الحصيف في تحديد ماهية زهورها.

 

كان قلقًا على " إبراهيم بك " الذي يعشق الحديقة، فقد تقدَّم السن به، ويخشى أن يبيع أولاده الفيلا أو يهملوا حديقتها، ولكن الاطمئنان عاد إليه بعد وفاة إبراهيم بك، ومجيء أسرته، وقرارهم العيش جانب أرضهم في القرية، عاقدين العزم على تجديد الفيلا وحديقتها.

 

تشابهت أيامه، فصفت نفسه، وصار أمسه لا يختلف عن غده، والصباح يماثل المساء، بات خريف عمره مثل شبابه، هل يطمئن على قادم أيامه؟ ليت الحياة تمضي على هذا المنوال؛ راتب ثابت، وحال مستور، وزوجة متفانية، وخير يعم البيت، وخُطَّاب متقاطرون على ابنته منذ فورة جسدها، فاشترطت أمها أن تسكن بجوارها، فهي وحيدتها التي جاءت بعد مرات حملٍ غير تام، استمر سنوات حتى تمت الأشهر التسعة، وجاءت وداد حاملة فرحة كبيرة، وإن لم يتكرر حمل أمها، واكتفى والدها بها.

••••


فاز عمران الموظف المعيَّن بالجمعية الزراعية ذو الراتب الثابت بوداد، وحاز رضا والديها؛ لأنه قاطن بالقرب من بيتهم، وقسمت وداد أيامها يومًا عند والديها مع زوجها، ويومًا آخر في بيت أهله، وبمرور الأيام وانتفاخ بطن الابنة، بات الزوجان مقيمين دائمًا..، واقتربت ولادتها، واستعد الجدان لأول حفيد، وقد قررا استمرار إقامة الابنة في بيتهما وإن أنجبت عشرة.

••••


في جلسته على المزلقان، الشمس تدنو من رأسه، فأعاد ربط عمامته، وانشغل بذكر الله، غير عابئ بلغط عمال التراحيل، وسبابهم المتتابع لكل فعل أو قول، جال بعينه فيهم، هذا ينفخ في الهواء بقرف، وآخر يضحك بعصبية دون سبب، وثالث يرتشف الشاي بصوت متصنع، كلهم في انتظار وقت يمرُّ بطيئًا، متوقعًا أن يطلبهم مقاول مبان أو متعهد أنفار أو أسطى أيًّا كانت طبيعته، المهم أن يجدوا من يدعوهم لشغل، وليت الشغل يكون لأيام ليضمنوا يومياتهم، يضحك عبدالتواب من أعماقه عندما يدَّعي العمال معرفتهم بكل شيء في الفلاحة أو المعمار، لذا فهو غير آبه لسيارات النقل التي تتوقف، وتأخذ فردًا أو مجموعة وتسرع بهم.

 

مطمئن في مكوثه، فرزقه مرهون بأنفاسه في الحياة، إن لم يكن في ساعته، فعليه الصبر لساعات أخرى أو لأيام.

••••


الوقت شارَف على الغروب، تغدى جبنًا وخبزًا من الزوادة التي يحملها، وشرب ماءً باردًا من زير قريب، عليه أن يعود للقرية مستقلاًّ القطار، سيدفع التذكرة، وسيستيقظ من غده، لن يمل، ولن يؤجر أرضًا، ولن يعمل في حقول البلد بيومية أو شهرية، ولن يتحسب للمستقبل، فقد عاش سنوات حياته متحسبًا للغد، ولكن الغد جاءه بوفاة ابنته أثناء ولادتها، وكان يوم الجمعة، وفي الجمعة التالية، لحقتها أمها، ولم يصدق نفسه وهو يرى أبناء إبراهيم بك، يكتفون بشقة فاخرة بأحد أبراج المدينة، ويهدمون فيلتهم في القرية، بعد أن قسَّموا أرضها قطعًا صغيرة كأراضي مبان، ما أقسى أن ترى الزهور تنبت أعمدة خراسانية!



[1] مزلقان: طريق منحدر الجانبين يتقاطع مع خطوط السكة الحديدية.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة