• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

المجرم المأجور

المجرم المأجور
د. نزار نبيل أبو منشار


تاريخ الإضافة: 27/6/2014 ميلادي - 28/8/1435 هجري

الزيارات: 4351

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المجرم المأجور


لما رأيتُه للوهلة الأولى، دعوتُ بالرحمة لكل ضحايا سفاح القرن العشرين "ميلوسوفيتش"، وحين خالطته في غير موقعة، لم تعُدْ بلاغتي لتجد دعاءً أرفعه إلى الله ليكفَّ شرَّ هذا الطاغية عن أمته التي خرج من رحِمِها.

 

مع أن كل شرائع السماء التي أنارت بها ظلمات الوجود تحرِّم الإجهاض، فإني دعوتُ الله لو أن أمَّه ما رمت به في وجه الإنسانية كاملَ الأعضاء، مشوَّهَ الضمير، مُعوَّق القلب.

 

هذا الشيء! الذي كلما رأيته أحسست بانقباضة في صدري تكاد تبطِش بي، وإن بعض الناس إذا رأيتهم لا تملِكُ إلا أن تقول: "شاهتِ الوجوهُ".

 

إذا لُمْت الشيطان لمَكرِه ودسائسه ووساوسه، فإنه بذِكر الله يخنس وتقوَى عليه، أما هذا المجرم الذي استفحَل شرُّه واستطال بغيُه، فإنك تعرف وبدون مراءٍ أن الشيطانَ يتعلَّمُ منه دروس الخيانة والحقد والوسوسة والخداع.

 

والذي رفَع السماء بلا عَمَد، وكان لمن يبحث عن حوائجه صمدًا، إنك لو قلت عنه: إبليس، لمدحتَه، ولو شبهته بما شئت من دون البهائم وسقطها، لزدت في مكانته وقدرِه.

 

حين جئت لأكتب عنه للأجيال حتى يتَّعظوا، أحسستُ بالغثيان، وقاءت رُوحي هذه الفكرة مرات ومرات، ولكني من وحي واجبي أجِدني ملزَمًا بنقل صورة هذا الشيطان الإنسيِّ الأرعنِ؛ ليكون لمن قرأ هذه السطور عبرةً، وليرتدع مَن استرسل في صغائر الأمور ولَمَمِها أن يصل مرتبة نالها هذا النَّجِس الحاقد، الذي حُشِي لؤمًا وحقدًا وكراهية عمياءَ على كل شيء جميل وطاهر.

 

حين أدخلت إلى معصرة المحنة والابتلاء، وجدته كتَيْسٍ يقود قطيعًا من أغنام كلها طأطأت له الرأس، ومع مرور الليالي الجائرات، كنت أتعلم عن شخصيته وقذارته ما يعيا القلمُ بكتابته، وتبصُقُه الصحائف من الثنايا؛ فلقد تمرَّس في المِراء والجدل السفسطائي حتى تربَّع على عرش القذارة المسورة بالمنطق، فكان وحشًا راعبًا نبتت أنيابُه في تربة فمه، وبزت قرونه من فوق أمِّ رأسه.

 

كنت أسمع من الناس القصص، وكانت جدتي تروي لي الحكايات عن الأشرار ومكايدهم، ولكني لما اصطدمت بكيان وحشي راعب اسمه: "أبو عنتر" تبدَّلَتْ مصطلحاتي، واختلفت أولوياتي، حتى وضعته في رأسِ الهرم الإجراميِّ المرسوم في مخيلتي.

 

عدوُّك تعلم عنه وعن دناءته، ولا يتشدَّق لك لترضى عنه، ويسُلُّ - على مرأى ومسمَعِ البشرية - سيفَه لتقطر شفراته من دمِك، أما أن تطعن من الخلف، فهذه أم البلايا، ولا تسأل نفسك فترهقها: كيف؟ ولماذا؟ فمن عرَف "أبو عنتر" تجلَّت له الصورةُ كاملة دون أي لَبْسٍ أو غبَشٍ.

 

دخلت السجن في لحظة تسعرت فيها إحدى نقاط الخلاف بين الأَسرى، فرأيته قد ركب باخرة السوء، وتسلَّم زمام القيادة فيها، وانهال بكلامه الساقط يثلم طهارةَ الدِّين، ويشتم أتباعه ولُيوثَه، ويجرد حدَّ سيفه ولسانه ليغرسَه في كبد كلِّ معارض، ولم يقطع هذا الدويَّ والجلَبة إلا صوتُ قرقعة السجان وهو يفتح الباب لإدخالي، فانفضَّتِ الخصومة لجولة أخرى، ليعيد "أبو عنتر" حفظ باقي ألفاظه السُّوقية التي تباع بلا ثمن على جنبات الطُّرقات التي يكثُرُ فيها المتشرِّدون، ثم يعيد الكَرَّة من جديد.

 

إن قمة المأساة تكمن في أن تُفرَضَ عليك داخل الأَسر قيودٌ داخلية، تحبط عزائمك، وتخمد جذوة الصمود في قلبك، حتى تتركَك كريشةٍ عذراءَ في وجه زوابع الإحباط التي تترصد على أسوار المعتقل النازي، وتنتظر فرصة تقتنصها لتأخذَك إلى حيث شاءت.

 

مثل "أبو عنتر" صورة حية على ما أقول، فلم يكن يهدأ له جفن على وسادته إن لم يفتعل في يومه مشكلة، أو لم يؤجج حقدًا بين متحابين؛ لأن قلبَه الذي طُلِيَ بالسواد الداكن لا يستطيع استقبالَ إطلالات النور، فتراه يعمِد إلى نثر بذور الفتنة، وإيقاظ الأحقاد من سُباتِها، وإيجاد مبرِّرات الصدام بين الأفراد والجماعات، حتى بدا وكأنه استبعَدَ الشيطانَ فلم يُعجِبْه عملُه، فاستعاض عنه بجهده الذاتي، ليترك الشيطان ينام قرير العين، بينما "أبو عنتر" يعمل أضعافَ أضعافِ ما يمكن للشيطان فعلُه.

 

وفي القيد الذي يرفل فيه الناس، تجِدهم يبحثون عن شهاب قبس يصطلون به، ويتخذونه أغنية للصمود، ينسجون حروفها من كلمات الإشراق، ويضعون ألحانَها على أوتار الصبر، وكان أبو عنتر بصورته الحقيقية على عكسهم جميعًا؛ فقدر في نفسه أنه صاحب وظيفة رسمية، مهمته أن يقفَ في الليالي المقمرة ينفخ على ضوء القمر ليطفئه، أو يغطِّيه بغمائم لفافاته التي يزفرها من فمِه ومَنخِرَيْهِ كالدُّخَان المتصاعد من مدخنة قطار يعمل على الفحم.

 

يا لهف نفسي! أيُعقَلُ أن يتجرَّدَ الإنسانُ من كل شيء؟!


أيستقيم في عُرْف الناس أن يبيع إنسانٌ ذاته من أجل أن يتصدر مكانة، أو يقال عنه كذا وكذا؟!

 

إنه والله زمن العجائب! زمن لا بد فيه أن تلجم الشمس بلجام من الحكمة؛ حتى لا تبوحَ بما تراه، ولا بد أن يوضع على القمر غشاء الروية؛ حتى لا تزدريَنا الخلائقُ والكواكب، بظنها أن الناس في دهرنا كـ: "أبو عنتر" وأمثال "أبو عنتر".

 

كانت شتائمُه وألفاظه وسِبابه أنشودة صباحية لا بد أن يسمعها كل الأَسرى، فمن يصرخ يعطي دلالة على مكانته وقوة شخصيته، وشيطان عقله لا يرضى له أن ينزل إلى مرحلة مَن هم مِثله، أو مَن هم معه، فتراه يزعج منامَ النجوم، ويصخ آذان الجبال بُكرةً وعشيًّا بما سفل وخسَّ من سقَطِ الكلام ولَغوِه.

 

إن مِثلَ هذا المكان في عالم الأحياء كمثل ربَّان سفينة شق اصطدامُها بجبال اللؤم بنيانَها شقَّيْنِ؛ فهي تهوِي في قعرِ محيط مظلِم، ولكن ربانها يصرُّ على أن يمسك بيده حبلَ صفارتها الداوية، ويصفِّر بها باستمرار؛ ليثبت أنه ما زال الربان، وأن صفارة الباخرة - حتى وهي تغُوص بغير رجعة بما فيها ومَن فيها - ما زالت في يده.

 

عربدةٌ ما بعدها عربدة، ومُجون وعُنجُهيَّة قادا صاحبهما إلى أعلى نقطة في قعر حذاءٍ صغير من هذه الأمَّة، والنَّعل أعلاه وأسفله نعل.

 

لا غروَ أن مَن كان هذا وصفَه، وكانت هذه سِمتَه: أن يحطم الجمال في كل شيء، لقد آلى على نفسِه أن يعزل الناسَ بعضَها عن بعضها، لا ليقال: فرِّقْ تسُدْ؛ وإنما ليمزِّق كل شيء حوله ويسود بعدها باطمئنان، فتراه يستصدر منكَر القرارات، وفحش التصرفات، ويجمع الناسَ ويُفرِّقهم وهو يغرز في أذهانِهم كلَّ قبيح، ويشوِّهُ في أدمغتِهم كلَّ طيب وجميل ومعروف.

 

كان "أبو عنتر" يقيء الكلامَ من شِدْقيه ليملأ مسامعَ مَن حوله مِن صدأ حديثه، ومرارة تعبيره، وسوء فهمِه، وقلة حيائه، فلا تكاد تجدُه إلا وهو يهذي ويُرغي ويُزبد، وإذا دققتَ النظر وأمعنت السمع، وجدتَ كلماتِه كسرابٍ يحسبه الظمآن ماءً في صحراءَ قاحلةٍ، فمن دقَّق فيه أخرى، وجده تحدَّث بعد ساعاتِ كلامِه المتواصل والممتد فقال: "لا شيء"!

 

بلغت به الوقاحة مبلغًا بيِّنًا، وترعرعت قذارتُه حتى بلغت في أحشائه سن الرشد، ليتخذَ من علاقات مشبوهة أقامها مع السجَّانين أداة لقمعِ مَن يناوئه، وعصًا يرفعها على رقابِ مخالفيه، فقد شهدنا من الحوادث ما يندى له جبينُ البشرية؛ حيث كان يتواطأُ مع إدارة المعتقل الصِّهْيَوني لقمع الأسرى ممن كانوا شوكة في حلق طموحاته الإجرامية، في جرأة على ولوج الشر ما سمع بها الزمانُ من قبل.

 

المذهل أن وجهه العابس على مدار اليوم لا ينقشع عن ابتسامات صادقة، وضحكات وقهقهة إلا حين يحادث السجانين من خلال الأسلاك، الأمر الذي استطابه واستحسنه النازيُّون الجدد، فأنى لهم أن يظفروا بدَعِيٍّ مثلِ هذا ينوب عنهم في إحداث الجلبة الداخلية التي تشغَل الأَسرى عن المطالبة بحقوقهم، بالتالي يفسح أمام الإدارة الصِّهْيَونية مجالاً تتنفس منه الصعداء.

 

لقد كان شماعة الحل وهو أسُّ البلاء ومظهره وجوهره، ومن دهائه الذي أدهش الشمس في رابعة النهار، وترَك عيونها مفتوحة بكل استغراب: أنه هو الذي يتصدر حل المشاكل والمناكفات التي كان هو مفتعلَها، ليوجه الحل كيف أراد، ويستدرج الكل إلى حيث أراد، ولولا قدرُ الله بوجود رجالٍ ربَّانيين باعوا أنفسهم لله فلم تأخذهم في دِينهم لومةُ لائم، لَمَا ركع في السجن لله أحدٌ، ولصار السجن مصنعًا للوضاعةِ والانحراف، بدل أن يكون قلعةً تصدِّرُ للأمة حكماءَ النضال والكفاح، الذي لا يفهم "أبو عنتر" منه إلا اسمه، هذا إذا فقهه أصلاً!

 

منظرُه الذي يوحي لك بالشؤم، وعيناه اللتان تغُوران بالغيظ والحنق حتى فاقتا قيظَ يوم محرق في الرمضاء الملهبة، وقلبه الذي يضخ السم في عروقه بدل الدم، ومنطقه الذي لو خُلِط بماء المحيطات والبحار لأدخل عليها الأسَن، أرداه حتى باتت أحابيل مكره مكشوفةً لكل من حوله، بل ولكل أسير حتى وإن لم يقابله؛ فرائحةُ النفايات تدل عليها حتى لو لم تكن العينُ الباصرة تراها مشاهدة.

 

وتتدخل يد الرحمن مرارًا وتَكرارًا لتمنع الدم الطاهر أن يسيل باكيًا من أجساد عبثت بها وبعقولها يدُ هذا الملعون الماكر، الذي حطم جدار الحكمة، ونسف سور التعقُّل، وبات هواه رائدَه، ومزاجُه قائدَه، وأمره لا يعصى إلا ويحلُّ البلاء وتنزل النازلات على العاصي.

 

هابه مَن معه، وكانوا ينظرون إليه بخوفٍ شديد، فباتوا كشِياهٍ ترتجف في حظيرةٍ كبيرة، تلمع أمامهم سكاكين الجزار، يخافون إن هم أصدروا صوتًا يعجِّلُ لهم بالعذاب، وهم لا يدرون أن سِكينة ستسافر على رقابهم إن صمتوا أو نطقوا، ولكنهم قوم يفرَقون.

 

وأمام سطوته التي تقصم ظهرَ مَن يخالف أو يعصي، وأمام زمرة اتخذها كذراعٍ ضاربة له تنفذ أوامره دون بصيرة، استطرد "أبو عنتر" في طغيانه، وبات التنسيقُ الذي ألِفه مع سجانيه يستمر ويتطور، حتى سمحت له إدارة السجن - لبراعتِه ومكانته ودوره الفاعل - بالتنقل حيث شاء ومتى شاء، حتى دون إبداءِ الأسباب، الأمر الذي حُرم منه المرضى والأشبال وكبار السن، وأهل المكانة التنظيمية في كل أطياف الشعب وشرائحه، فلا يسمح بالتنقل إلا لـ: "أبو عنتر"، ولا يسمح بالتجوال بين أروقة السجن وأقسامه إلا له، وكأن الناس تحجَّرت فلم يبقَ فيهم إلا هذا الدَّعيُّ الحاقد.

 

كنت أساور نفسي بين الوهلة والأخرى أن تتناسى لؤمَه، وأن تتغاضى عن شرورِه التي أصابت كلَّ مَن هم حوله من الضُّعفاء والبسطاء، ولكن قوانين السجن التي اصطلح عليها الأسرى فيما بينهم تمنع التدخُّلَ في شؤون الآخرين، ليفرض علينا هذا النظام أن تعرش فوقنا غمامةُ حزن سوداء، تفيض علينا بين الحين والحين بوَدْقِ الألم.

 

لكني كنت لا أعتب عليه في أحيانٍ كثيرة من جانب واحد، وهو أن مَن حوله قد رضُوا بحياة الاستعباد، وحفَروا لأنفسهم أخاديدَ للصمت؛ فهم يتقلَّبون فيها بُكرةً وعشيًّا، لا يَلْوُون على شيء، إن هم إلا أخشاب مسنَّدة، تدحرجها الزوابع حين اشتدادها، وتملأ أرجاءَها الرهبةُ من منشارٍ تظنُّه يقطع أوصالها ويعيدها نشارة تَذْرُوها الرياح.

 

ويأتيني موعد النقل إلى سجن آخر، ومع كل الحزن والألم الذي يصاحب الإنسان الذي ينتزع من بيئته التي عاش فيها، فإن الحبورَ لم يفارِقْ ثغري، والسعادة لم تخرج من قلبي وأنا أنظر إليه نظرات الوداع، التي أسأل الله ألا أراه بعدها إلا في ساحة الحساب يوم يقوم الناس أمام الجبار، فتخرس كل ألسنة الجبابرة المزوِّرين، ولا يصدح إلا صوتُ الحق الوضاء، وتُنصَب الموازين بين الناس بالقسط.

 

إن هذا الوجهَ القاتم للإنسانية يصبغ حياة الناس بالسواد الناقع، ويُسهِم في وَأْدِ العزيمة، واندحار الجاهزية، والتوقُّد والتوثب الذي هو صمام الأمان والحياة لكل أسيرٍ مبتلًى، ويكأنَّه تعاقَد مع مؤسسات الشياطين الدولية فأعطتْه حق الوكالة الدورية، وفوضت إليه سائر التصرفات، فهو يركن إلى أصل السوء، ويتعامل بضراوة الحق، فماذا تنتظرون من ذلك؟!

 

لست أماري حين أصِفُ، ولست أتشدَّقُ بالحديث حين أرسم لك هذه الصورة القاتمة، والذي نفسي بيده، لو جئت لأتخيل الشيطان في ذاكرتي، ما رأيته أشنعَ ولا أقذرَ ولا أخسَّ من "أبو عنتر".

 

فحسبنا الله ونعم الوكيل!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة