• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

نهر العسل

نهر العسل
بسام الطعان


تاريخ الإضافة: 1/11/2011 ميلادي - 4/12/1432 هجري

الزيارات: 6529

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

لَم تَمنحه فرحة، ولَم ترشه بدِفْئها، أو تُهدهده في يوم من الأيام، وفي النهاية حوَّلته إلى فزَّاعة ترتدي العتمة والخراب، ولكن هل كانت قاسية عليه؟ أو كان قاسيًا عليها وعلى زوجه وأطفاله؟ يا لها من حياة قاسية، في الصباح يصحو على وقْعِ المِحَن والكروب، يَنتعل تفاصيل مريرة، يُرسل لزوجه كلمات عجولة، ويمشي على أرصفة العثرات، وهناك يطير الأحلام، وفي الليل يتحوَّل إلى أطلال بائدة يلفُّها الظلام.

 

إنه شبيه بعجوز مُثقل بالبكاء، لغة الهَذيان يعرفها، ولا يَعرف كيف يَصحو أو على أيِّ خدٍّ ينام، جسده نهر يَصخب بالأسى، ويَصُب في وديان الهموم، وجهه بريَّة ذليلة تتزيَّن بالأشواك والندوب، عيناه مرايا معشقة بغيوم داكنة، وتطير طيورًا لا تعرف لغة العيوب، ونفسه كائن له عشرات البطون، لا تَمتلئ ولا يبدو عليها التعب.

 

كانت خيوط الصباح ما زالت بعيدة وهو يُفكِّر في نهر العسل، ابتعَد قليلاً عن زوجه النائمة إلى جانبه، وبعد أن عبَّأ صدره بسموم الدُّخَان تمدَّد فوق شواطئ مثيرة: "اصبر يا صابر؛ حتى تتحقَّق الأُمنيَة وتصل إلى هناك، فكل دولة أوروبيَّة هي نهر من عسل".

 

هل له غير الصبر يَلجأ إليه؟ وهل سيتلو للشواطئ تَمْتماته؛ حتى يتفجَّر نَبْعُ الحسرة من البصر والبصيرة؟ أحيانًا كان يشعر بأنَّ أيَّامه تَنزف دمعًا، وأحيانًا تبدو مثل الدهور المُجحفة، كان كلما يحوم من حوله البومُ، يتفجَّر أساه المكبوت، ولا يُمَيِّز بين البرد والدِّفء، الغناء والنحيب، ويدور في الجهات؛ لتُحاصره وحوش الكآبة.

 

حين صحا على تعب جاب به الدُّروب، تصادَق مع حائط مزيَّن بكلمات الصغار، أسنَد ظهره إليه، وشَرِب الصمت الرهيب، راقَب ما حوله، فرأى وجوهًا ضاحكة وأياديَ مليئة، عندئذ ملأ صدره بالحسرة، ونادى والده الذي غادَره وترَكه يتآخَى مع الجوع والحِرمان.

 

مدَّ يده إلى جيبه، بحث عن سيجارة أو قطعة نقود، لكنَّ اليد عادَت تجرُّ أذيال الخيبة، فقال كلامًا لا يجب أن يُقال، وقبل أن يَحترق بنيران لا تعرف الانطفاء، انطلَق كجدول ثرثار دون وجهة محدَّدة.

 

عصَفت به ريح خرابية، فأدرَك أنه سيبقى كما هو، "الحقل لَم يعد يكفي أسرتي، كثيرون باعوا حقولهم، أراضيهم، بيوتهم، وحتى أثاثهم، وهاجروا وغيَّروا حياتهم وعقولهم، وجُلودهم العتيقة، وصاروا يمتلكون العمارات والمحلات، والأرصدة في البنوك، فلماذا لا أفعل مثلهم؟

 

هيَّأ نفسه ليرتمي في أحضان الراحة الموعودة، ومثل حصان يحن للماء والعُشب، دار على أثرياء البلدة، فهو يريد بَيْع حَقْله وهو في عجلة من أمره؛ لأن نهر العسل يُناديه بوُروده، بعذوبته، وبملايينه، وبعد أسبوع واحد اتَّفق مع أحد السماسرة الذين يتوَّلون تسفير أمثاله إلى المجهول.

 

غزَل كلامًا دافئًا لزوجه، قوامه الحب الدائم والشوق الذي لا يَنضب، الفرح القادم بقوَّة والسعادة الكبيرة، الأمل الموجود في البعيد والمستقبل الذي يَفتح أبوابه وينادي.

 

ترَك عينيه تَحتضن عينيها وقال بجديَّة:

- ليَكُن سفري مجرَّد تجربة، ولن نَخسر شيئًا.

 

نظَّفت عينيها من تقرُّحات الهموم:

- لكننا سنخسر حقْلَنا الذي لا نَملِك غيره، ثم كيف سنعيش ونحن لا مُعيل لنا؟!

 

- مَن لا يجرِّب لا يَصِل إلى نتيجة، سأترك لكم مبلغًا من المال، وسوف أُرسل لكم كلَّ ما أحصل عليه؛ فلا تخافي.

 

عند أطراف الوداع ارتسَم الهمُّ على جسده، فهو لن يرتاح حتى يصل إلى النهر، احتضَن زوجه وأطفاله الثلاثة معًا، ملأَهم بحرارة أنفاسه، غسَلهم بجداول دموعه، وابتسَم على الرغم من كل وسائل التعذيب التي تُحيط به، وحين سَمِع لَحْنَ (بابا) من ابنه الصغير وهو يهمُّ بالخروج، سيْطَر عليه شعور بأنه سيَفقده إلى الأبد، خيَّط جراحه الكثيرة واقترَب منه، مسح دموعه، زنَره بباقات القُبل، ووعَده أن يعود إليه في أسرع وقتٍ، وأن يَجلب الألعاب والهدايا، ثم صبَّر نفسه وصبَّرهم وانطلَق، تاركًا صيحات ابنه الباكية على الرصيف.

 

في المطار بدا وكأنه يُشَيِّع نفسه إلى مثواه الأخير، وفي الطائرة فرَش همومه على امتداد واسع، دون أن يَنسى أنه قَلِقٌ خائف، وأنَّ أحلامًا جميلة تُنسج في مُخَيِّلته.

 

- تفضَّل.

 

أخرَجته المُضيفة من دائرة الأحلام وهي تُقدِّم له الضيافة المعتادة، تناوَل كأس الشاي وتطلَّع من النافذة، فشاهد حمام ذاكرته يحلِّق في ارتفاعات عالية، ويَطير إلى حيث زوجه وأطفاله، وعبر إغفاءةٍ مُصطنعة وصَل على أجنحة شروده إلى عالَمه الجديد.

 

ثلاثة شهور مرَّت على وجوده في نهر العسل، تصادَق خلالها مع الخيبة والبرد، في النهار كان يشتغل، وفي الليل يعود إلى مسكنه؛ ليجدَ زوجه وأطفاله في انتظاره، كان يراهم في كل لحظة، وكل مكان يذهب إليه، في الشهر الرابع أرسَل لزوجه كلَّ ما حصَل عليه مع رسالة تَقطر منها أشواق وأُمنيات، مرَّت شهور عدة ونقوده ورسائله تصل بانتظام، ولكن بعد السنة الأولى شحَّت إلى أن انقطعَت تمامًا.

 

أنهار الكحول التي شَرِبها أنْسَته عائلته وبلده وبلدته التي ما عادَت تتذكَّره، وكان قد تزوَّج امرأة من جحيم، تَكبره في السن، امرأة سَلَبت لُبَّه وماله، وأدارَت مفتاح ذاكرته باتجاه آخر.

 

أولاده ترعْرَعوا مع المرارة والانكسار، لكنَّهم لَم يَعرفوا الحِرمان، فأُمُّهم ضمَّتهم إلى صدرها الحنون، وظلَّت تَنحت في الصخر وتبني، في الصيف تبيع الخضار، وفي الشتاء تعمل في الخياطة، وككل المتعبين المعذَّبين، الذائبين في الوحدة رغمًا عنهم، كانت تجلس في الليالي حول أطفالها مثل شمعة تُنيرهم وتَحرسهم إلى أن ابتسَمَت لها الدنيا، وتخرَّج أبناؤُها في الجامعة، وبرغم كل سنوات البعاد لَم تَنس الذي كان زوجها، ولأنها أصيلة أرسَلت ابنها الكبير؛ ليبحث عنه، ومع الحزن الذي خيَّم فوق سفوح أُمِّه وإخوته، كرَّر المحاولة مرة أخرى، ثم أخرى، لكنه لَم يكن يدري أنَّ والده قد امتهَن الذلَّ وصار يهذي على الأرصفة التي تركَته بلا قلب، بلا عيون، بلا أمل، وبلا ذاكرة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة