• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

الحرمان...تريث قليلاً أيها الموت... إني أكتب

إسماعيل آيت عبدالرفيع


تاريخ الإضافة: 8/2/2011 ميلادي - 5/3/1432 هجري

الزيارات: 9011

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

صَباح يوم جميل، والشمس تُرسِل خُيوطها الذهبيَّة، مضيئة قِمَم الجبال العالية، وعلى إيقاع زَقزَقة العصافير المداعِبة لأغْصان الأشجار في حديقة المنزل، استَيقَظ رضوان، حاوَل فتْح عينَيْه السوداوَيْن بفَرْكِهما، لكن أشعَّة الشمس حالَتْ دُون ذلك، كان كمَن انبَثَقَ من عَتَمَةٍ لا تنقشع، فعاد إلى فِراشِه الدافئ يتأوَّه ويتمطَّى كحيَّة تتلظَّى.

 

كان النُّعاس قد فارَق أجْفانه، لكنَّه مصرٌّ على الاستِزادة منه، إنَّه أشدُّ تعلقًا بهذه الهجعة من قطَّة، فجأة تذكَّر وصيَّة أخيه الأكبر عبدالرزاق: "لا تنسَ أنْ تُوافِيني بالإفطار صَباحًا إلى بولموتور" (اسم بستان بالأمازيغية نسبةً إلى مولد المياه)، وَثَبَ من فِراشِه بسُرعةٍ، وارتَدَى سَراوِيله وجِلبابه التقليدي المرقَّع، وصندله البلاستيكي الأسود، نادَى أخته الكبرى بصوتٍ مرتفع:

• خدوج، خدوج، خدوج.

 

حجرةٌ طويلة عموديَّة من الطين، بها فرن متوسط الحجم في الزاوية، وثلاثُ مواضع أخرى صغيرة للطَّهي مُرتَبطة ببعضها البعض كقطع الشيكولاتة، إلى جانبها إناءٌ أسود كبير من حديدٍ مقعر ومعلَّق من يده إلى سقف الحجرة بسلسلة حديديَّة مخصص لتَسخِين الماء، جُدران الحجرة مُهتَرِئة بفعل نَوائِب الدهر، ينبَعِث منها دُخانٌ كثيف، ضِيقُ فتحة السقف وصِغر حجمها جعَلَ الدخان يتَّخِذ من الباب المترع مخرجًا آخَر.

 

تكاد خدوج لا ترى من فرط الدُّخان وسَواد جدران الحجرة، وسعف النخل المتراكم في الزاوية المقابلة "لتفرانت" (اسم أمازيغي لفُرن متوسط الحجم يُستَعمل لطهي الخبز) الملتَهِبة بديل المصباح الذي اكتَسَى حُلَّةً سوداء، واتَّخَذه العنكبوت محورًا لِمَسكنه، لكنَّ الوضع يبدو مألوفًا لخدوج ولجميع أفراد الأسرة، فتصاعُد الدخان في الصباح الباكر من المنزل وطقطقة سعف النخل المحتَرِق - دليلُ حيويَّة الأسرة ونَشاطها، كما أنَّه رسالةٌ إلى الجيران على "الحداكة" والجد.

 

كانت المسكينة قد استَيْقظَتْ باكرًا، وانهمكَتْ في إعداد وَجبة الإفطار، خبز محشوٌّ بالشحم والبصل والتوابل، مجرَّد ذكر اسمه بالليل والأسرة تسطر برنامج وجبات الغد يسيل اللعاب، لم تنلْ برودة الجوِّ من عَزِيمتها وهمَّتها؛ إذ شمَّرت عن ساعديها والتحفتْ لهيب النار، وواصَلتْ عملها بتُؤدَة وخفَّة وهمة عالية.

 

مرور الأيام أكسَبَها تجربةً وخبرة كبيرة في مجال الطهي وتدبير شُؤون البيت، وخاصَّة طهي الخبز المحشو بالشحم، حظُّها العَثر في الدِّراسة، وقَدرها أنْ تكون أنثى قد عجل بخروجها المبكِّر من "السكويلة" (لفظة عن الإسبانية تعني المدرسة)، ما العمل؟ فهي لا تقوى على مُجابَهة عادات وتقاليد أهْل الدوار الصارمة، لم تفهمْ يومًا هذه التقاليد الهزليَّة التي تحرمها حقَّها في التمدرس، لعلها خُلِقت لأشياء أخرى، فهناك مَثَلٌ رائجٌ يقول: إنَّ هناك أناسًا خُلِقوا للعطاء تمامًا كما خُلِق آخَرون للتلقِّي.

 

ردَّت على نداء شقيقها بصوت حنين خافت:

• "نعام، هي كتنوالت، محرا تفاقت"؟ (جملة أمازيغية تعني: نعم أنا في المطبخ استيقظت أخيرًا).

 

اقترب رضوان، وقْعُ خُطواته يَزداد أكثر فأكثر، وصُراخه يعلو شيئًا فشيئًا، شبحه يتبيَّن آخِر الدهليز الطويل الذي يشطر المنزل إلى شطرَيْن، ويمتدُّ على مسافة خمسة عشر مترًا تقريبًا، ملاذ الأسرة ليالي الصيف القائظة.

 

• لماذا لم توقظيني باكرًا؟ تعلمين أنَّ عبدالرزاق ينتظرني، طبَع قبلة على يدها اليُمنَى وجلس قُربها محاولاً تدفئة يدَيْه الصغيرتين، كانت قد شارفت على الانتهاء، فما هي إلا دقائق حتى قامَتْ من مكانها، وأخذت سطلاً أسود من البلاستيك متوسط الحجم، وضعت فيه خبزًا ساخنًا، ملفوفًا بغطاءٍ من الصوف يَقِيه البرد، ومن فوقه غِطاء آخَر من البلاستيك الأبيض.

 

غابتْ برهةً من الزمن لتعود وفي يدها اليُمنَى إبريق من الشاي، أمَّا يدها اليُسرَى فكانت تمسك بأربعة كؤوس صغيرة من نوع حياتي، أحدها محشو بقطعة صغيرة من السكر، وضعت حملها داخل السطل بحذَرٍ شديد، وطلبتْ من رضوان أنْ يُوصِله إلى أخيه بسُرعةٍ قبل أنْ يبرد، سألها رضوان: لَمَّا كانت تهمُّ بوضع الكؤوس داخل السطل:

• لماذا تضعين أربعة كؤوس ونحن اثنان فقط؟ أم أنك لا تجيدين الحساب؟

 

غالبًا ما كان يُحاوِل إثارة حَفِيظتها؛ لأنَّها كانت ضعيفةً في الحساب؛ إذ تلزمها مدَّة غير يسيرة لإنجاز العمليَّات الحسابيَّة، كثيرًا ما كانت تستَعِين بأصابعها بدل "الخشيبات"، أمَّا هو فتردُّده على السكويلة ومتابعته للدراسة في المستوى الخامس ابتدائي سهَّل عليه المأموريَّة، ما زال يذكر قصَّتها مع أبيها ذلك اليوم لما كان المنزل يغصُّ بالضيوف، إذ طلب منها والدها عدَّ الحاضرين عندما تُوزِّع كؤوس الشاي عليهم دون أنْ تُثِير انتباههم؛ ليعرف هو عدد "سفافيد" الشواء التي يلزَمُه شواؤها، كانت المسكينة تعتمد على أصابع يدها اليُسرَى الخمسة، فلمَّا انتهت ولم تكمل العدَّ بعدُ مدَّت أصابع يدها اليمنى لتتمَّ، فسقط كأس الشاي من يدها دون أنْ تشعُر وانشطَرَ إلى أجزاء صغيرة، مُحدِثًا صوتًا استَرعَى انتباه الحاضرين، فلمَّا أحسَّت بالأعين تحدجها وتستفسر عن السبب ولَّتْ هاربةً ولم تعقب.

 

أجابتْ والعجب يعلو وجهَها:

• ألاَ تعلم أنَّ الاحتياط واجب؟ كم مرَّة قلت لك هذا: قد تجد مع أخيك صديقًا أو ضيفًا؟

 

حمل رضوان الإفطار بيده اليُمنَى وانطلق كالسهم يطوي الطريق طيًّا.

 

في طريقه يُحيِّي هذا ويُسلِّم على ذاك، فالبريَّة قد استيقظت، ومن عادة أهل الدوَّار الاستيقاظ باكرًا والنوم باكرًا، واصَل طريقَه، وجُلُّ تفكيرِه منصبٌّ على ما سيُلاقِيه من أخيه الأكبر عبدالرزاق، نعم عبدالرزاق، وما أدراك ما عبدالرزاق! مجرَّد ذكر اسمه يُشعِره بالخوف، إنَّه يخيفه كثيرًا، فهو ميَّال إلى العُنف والقسوة، ولعلَّ ذلك راجعٌ إلى طبيعة أعماله وتكوينه، هناك مَثَلٌ يؤكِّد أنَّ القسوة ابنة البُؤس، فانقِطاعه المبكِّر عن الدراسة دفَع بالأسرة إلى مُعاقَبته بمختلف الأشغال الشاقَّة في الحقول وداخل البيت؛ علَّه يرجع عن غيِّه، لكنَّه مصرٌّ على عدم العودة إلى "السكويلة"، بل يُحاوِل ابتزاز زملائه الذين لم ينقطعوا عن الدراسة، والتباهي وسطهم بأنَّه أصبح مسؤولاً يقوم بأشغال البيت، ويَحظَى باحترام العائلة، بدل الذهاب والرجوع من "السكويلة" بدون فائدة.

 

كان يخشى أستاذَ الفرنسية، فقد كان هذا الأستاذ السبب المباشر في كرهه للدراسة وحِقده على المعلِّمين بصفة عامَّة، لقد بنى طفولة جديدة واستطاع العيش مع ندب وإعاقات طفولته، فحوادث الطفولة تُحدِث ندبًا وإعاقات مستديمة قد لا نمحوها بغسل المعدة، لكنَّنا نتعلَّم كيف نعيشُ بها ومعها، وإنَّه باستطاعة المرء تبنِّي طفولته من جديد.

 

هل سيُعامله عبدالرزاق بنفس الطريقة التي كان يُعاقِبه بها أستاذ الفرنسيَّة "الفلكة" (طريقة تقليديَّة يعتمدها الأساتذة لِمُعاقَبة التلاميذ؛ إذ يقوم أربعة تلاميذ كبار مُعيَّنين بإشارةٍ من أستاذهم بحمْل زميلهم من أطرافه الأربعة بعدما نزعوا حِذاءه وأحكموا قبضته، رجلاه إلى الأعلى ويداه مغلولتان وراءه فيتقدَّم الأستاذ حاملاً عصا غليظة يَهوِي بها بقوَّةٍ على قدمي المذنب)، ارتعدت فرائصه وشلَّت قدماه عن الحركة.

 

ماذا سيقول له: غلَبَه النعاس، نسي الوصية؟ كلها أعذار واهية! ماذا لو برَّر تأخُّره بتأخُّر "خدوج" في إعداد الإفطار؟ يبدو عذرًا مقبولاً لرضوان على الأقل، أمَّا عبدالرزاق فلن تنطَلِي عليه الحيلة.

 

حاوَل الإسراع أكثر، سمع دقَّات مولِّد المياه تعلو، إنَّه على مقربة من "بولموتور"، ازداد نبض قلبه، لدرجةٍ أصبح معها يُحاكِي مولد المياه، اكفهرَّ وجهه وعلَتْه غمامة سوداء، غلى الدم في عروقه، لم يستطع التفكير وهو يهمُّ بتخطِّي مجرى مياه كبير في طريقه، حدث ما لم يكنْ في الحسبان، عثر رضوان بسب جلبابه، وسقط السطل من يده، صرَخ بملء فيه:

• "أمانو تجراي القصت نوخو" (مثل بالأمازيغية يُقال عندما يحس المرء بأنَّه وقَع في فخٍّ كان بالإمكان تجنُّبه)، مسح المكان بعينَيْه، صرخ وصرخ، ما من مجيب.

 

صبَّ جام غضبه على صندله البلاستيكي، حاوَل تمزيقه إلا أنَّه تَراجَع في آخر وقت بعدما تذكَّر أنَّ والده لن يشتري له صندلاً جديدًا إلا بعد مرور مدَّة معينة، وإنْ تمزَّق فعليه ترقيعه، وهذه من عادات الدوار كذلك، قبَّح الله الفقر، يا ليت عمر فتك به، إذًا لارتاح واستراح.

 

لحق بسطله، حاوَل انتشاله لكنَّه لم يُفلِح، كانت سرعة المياه تَزداد بحكم المنحدر، تابَع بعينيه الصغيرتين السطل تتقاذَفه المياه يمنة ويسرة وتبتلعه إلى أنْ غاص، لم يستَطِع فعل شيءٍ، البرد شديدٌ، سمع صوت الإبريق والكؤوس تتكسَّر، الخبز يحمله الماء المتدفِّق بعيدًا، بكى رضوان وانتَحَب، أظلمت الدنيا في عينيه، استَحالَ الماء العذب الرقراق المنساب وحشًا كاسرًا، تتراءى له فيه صورة عبدالرزاق مزمجرًا ومتوعدًا، أشاح بوجهه وصرخ بملء فيه:

• لماذا... لماذا؟ كان عليَّ أنْ أسلك الطريق الأخرى، رغم طولها فهي آمَنُ لي.

 

تخيَّل شقيقه جالسًا تحت شجرة تين سامقة، يأخُذ قسطًا من الراحة، ويتجاذَب أطراف الحديث مع أحد أصدقائه، يتطلَّعون إليه يفتح باب البستان ويطلع عليهم كما طلع جبريل على الصحابة في حديث الفاروق المشهور، حاملاً ما يسكتون به نقيق بُطونهم ووحش الجوع الكاسر.

 

احتارَ في أمره؛ أيعود أدراجه باتِّجاه المنزل ويندب حظَّه لخدوج أم يكمل طريقه خاوي الوفاض وليكن ما يكون؟ ضاقت عليه الأرض بما رحبت، ثقلتْ عليه رأسه فدفنها بين راحتَيْه، أنهكَه التفكير، ولم يستطع حبس تنهيدة قلق ممتدة، لفَّ حول نفسه مرات ومرات، اجتاحت مجموعة تخمينات ذهنَه فجأةً؛ فوجد نفسه مستلقيًا على ظهره يضرب مؤخَّر رأسه بالأرض، يتمرغ ويندب حظَّه.

 

لقد منحت القلم زمام نفسي وتركته يقودني في سراديب البياض.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة