• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

الأمل (قصة قصيرة)

جمال أبو زيد


تاريخ الإضافة: 7/6/2010 ميلادي - 25/6/1431 هجري

الزيارات: 9471

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

لَمْ تَسَعْ أمَلَ الفَرحةُ، ولَمْ تُصَدِّقْ نَفسَها وهي تَنْظُرُ إلى وَليدتِها، رَاحَتْ تُقبِّلُها ودُمُوعُ الفَرْحةِ تنحَدِرُ مِنْ عَينيْها وهِيَ تُحَدِّثُ نفْسَها: "الحَمْدُ للهِ، أخِيرًا وَهَبَني اللهُ بِنْتًا جَميلَةً".

 

أخَذَتْ تَتفَحَّصُها لِتتَأَكَّدَ مِنْ سَلامَتِها، لاحَظَتْ أنَّ بِرجْلِها اليُمْنَى شَامَةً أسْفَلَ الرُّكبَةِ كحبَّةِ الزَّيتُونِ الصَّغِيرة، ثُمَّ ما لَبِثت أنْ أخْرَجَتْ مِنْ حَقيبةِ يَدِها سِوارًا رَقِيقًا مِن الذَّهَبِ الخَالِصِ زَيَّنَتْ بِه مِعْصَمَ ابْنَتِها النَّاعِمَ، ولَمْ يَكُنْ يَدُورُ بِخَلَدِها وهي تُقبِّلُها وتَضُمُّها إلى صَدْرِها أنَّ يدَ الغَدْرِ سَتَمْتَدُّ لِتَخْطفَها مِنْها.

 

وفي تِلْكَ الأثْناءِ، كانَتْ خُيوطُ المُؤامَرةِ قَدْ نُسِجَتْ وحُبِكَتْ فُصُولُها، ولَمْ يَبْقَ إلا أنْ تَغْفَلَ أمَلُ عَن ابْنَتِها لَحْظَةً لِتفْقِدَها.

 

ذَهَبَتْ إلى الحَمَّامِ وتَرَكَتْ فَلْذَةَ كَبدِها نَائِمَةً، ومَا لَبِثَتْ أنْ رَجَعَتْ مُسْرِعةً خُطاها إلى غُرْفَتِها، فلَمْ تَجِدْها.

 

يَا للمُصِيبةِ! ويَا للهَولِ! ماذَا جَرى؟ اعْتَرَتْ أملَ الدَّهْشَةُ، وغَشِيتْها الحَيرَةُ لِلوَهْلةِ الأُولى، وشَعَرَتْ بِشُعورٍ غَرِيبٍ يَسْرِي في وجْدَانِها، ولَمْ تُصَدِّقْ عَيْنَيها وَهي تَنْظُرُ إلى سَريرٍ فارِغٍ، فرَكَتْ عَيْنَيها وأعادَتِ النَّظَرَ إلَيهِ ثَانِيةً فرَجَعَ إليها البَصَرُ خَائبًا.

 

دَارتْ بِها الدُّنْيا فهُرعَتْ إلى المُمَرِّضَةِ المسْؤولةِ وسَألَتْها عَنِ ابْنتِها وهيَ في حالةٍ هِسْتِيريَّةٍ، غَيرَ أنَّ خَوفَها زَادَ، ودَقَّاتُ قَلْبِها تَسارَعَتْ، حِينَ لَمْ تَجِدْ لَدَيها جَوابًا يروِي غَليلَها، ويُطْفِئُ لَهِيبَ فُؤادِها، فرَاحَتْ تَبْحَثُ عَنْها في كُلِّ مَكانٍ، تَرْكُضُ كالمَجنُونةِ بَينَ الغُرَفِ وفي الممَرَّاتِ هُنا وهُنَاكَ، وتَسألُ عَنْها هذَا وذَاكَ، سَأَلَتْ عَنْها كُلَّ مُتَحَرِّكٍ وثَابتٍ، واسْتعلَمَتْ كُلَّ مُتَكلِّمٍ وصَامِتٍ، ولَكِنْ ولِلأسَفِ دُونَ جَدْوَى.

 

دَبَّ إلى قَلْبِها اليأْسُ بَعْدَ بَحْثٍ مُضْنٍ أرْهَقَها، فمَا لَبِثَتْ أنْ خَارَتْ قُواها واسْتنْفَدَتْ طَاقَتَها في البَحْثِ، فمَا بَالُكَ بِامْرَأةٍ نُفَسَاء أنْجَبتْ قَبْلَ سَاعاتٍ، فكَيْفَ سيكُونُ حَالُها؟! وفي نِهايةِ المَطَافِ اسْتَسْلَمَتْ لِلبُكاءِ والعويلِ.

 

مضَتْ إلى غُرْفَتِها مَشْدُودةَ البَصَرِ إلى سَرِيرٍ فارِغٍ، فوقَفَتْ تَتَأمَّلُهُ شاخِصَةَ البَصَرِ، مَكْلُومةَ الفُؤادِ، غَائبةَ الوعي، غَيرَ أنَّها سُرْعَانَ ما أفاقَتْ مِنْ صَدْمَتِها لِتَنفَجِرَ باكِيةً، وهَلْ يَردُّ البُكاءُ غَائِبًا؟! أو يُغَيّرُ مِنَ القَدَرِ شَيئًا؟!

 

وفي هَذِه الأثنَاءِ اسْتَطَاعَ الغَادِرُ، الَّذِي كانَ يَرْتَدِي مِعْطَفَ طَبيبٍ ويضَعُ سَمَّاعةً حَولَ رَقَبَتِه، مُغادَرةَ المُسْتَشْفَى بِهُدوءٍ، وهُوَ يَحْمِلُ الطِّفْلةَ الَّتِي كَانَتْ نائِمةً في سَلَّةٍ أحْضَرَها مَعَهُ، وقَدْ سَاعَدَهُ لِبَاسُهُ في الخُرُوجِ بِها دُونَ لَفْتِ الأنظَارِ إلَيهِ.

 

كَانَتْ أحْلامُ اليقَظَةِ تُدَغْدِغُ فُؤادَ السَّارِقِ، وهُو في طَريِقِه إلى الرَّجُلِ الثَّرِي لِقَبْضِ المَبْلَغِ المُتَّفَقِ عَلَيه في مُقابِلِ إحْضَارِ طِفْلٍ رَضيعٍ لِزَوجَتِه الَّتِي لَمْ تَكُنْ تُنْجِبُ.

 

التَفَتَ صَخْرٌ إلى نَفْسِه يُمَنِّيها: "ودَاعًا أيُّها الفَقرُ اللَّعينُ! فلَمْ يَبقَ بَينِي وبَينَ طَلاقِكَ ثَلاثًا وإلى الأبَدِ إلا تَسْلِيم هَذِه الطِّفْلَةِ...".

 

أفَاقَ مِنْ أحْلامِه على رَنينِ هاتِفِه النَّقَّالِ، فنَظَرَ في شَاشَتِه وقَالَ في نَفْسِه: "هَذا لَيْسَ وَقْتَ اتّصَالٍ!"، ولَمْ يَرُدَّ على المُكَالَمَة، بَيْدَ أنَّ زَوجَتَهُ كَرَّرَتِ الاتّصالَ مِرَارًا، فلَمْ يَجِدْ بُدًّا أمَامَ إصْرَارِها إلا الرَّدَّ عَلَيها؛ لِيُسْكِتَها.

 

صَرَخَتْ في وَجْهِه بَاكِيةً: تَعَالَ بِسُرْعةٍ يا صَخْر، ابْنُكَ وقَعَ مِنْ فَوْقِ سَطْحِ البيتِ، وهُوَ يَنْزِفُ بِغَزارةٍ ولا أدْرِي ماذا أصْنَعُ؟

 

تَوقَّفتْ عَن الكَلامِ فَجْأةً، ولَمْ تَسْتَطِعْ أنْ تُكْمِلَ كلامَها، وأجْهَشَتْ بِالبُكاءِ فانْقَطَعَ الاتّصَالُ.

 

أذْهَلَ صَخْرًا الخَبرُ عَنْ نَفْسِه، فأظْلَمَت الدُّنْيَا في عَينَيهِ، ونَسِي مَا هُوَ بِصَدَدِه ولَمْ يَتردَّدْ في تَغْييرِ اتّجَاهِ سَيَّارَتِه صَوبَ بَيتِه لَعَلَّهُ يُنْقِذُ ابْنَهُ، لَمْ يَصْحُ مِنْ صَدْمَتِه وهُو يَقُودُ السَّيَّارةَ بِسُرْعَةٍ جُنُونِيَّةٍ إلاَّ على صُراخِ الطِّفْلةِ الَّتي كَانَتْ تَرْقُدُ بِبرَاءَةٍ في سلَّتِها في المَقْعدِ الخَلْفي، قالَ في نَفْسِه مُرْتَبِكًا: "هَذِه مُصِيبةٌ أُخْرى! يَجِبُ أنْ أتَخلَّصَ مِنْها".

 

أوْقَفَ سَيَّارتَهُ في أَحَدِ الأَزِقَّةِ الضَّيقةِ ووَضَعَ الطِّفْلةَ على قَارِعةِ الطَّرِيقِ، بَعْدَما تَأكَّدَ مِنْ خُلُوِّهِ مِنَ النَّاسِ، وانْطَلَقَ مُسْرِعًا، لا يَلْوِي على شَيءٍ.

 

♦          ♦           ♦

 

كانَ فاضِلٌ في طَرِيقِه إلى البَيتِ بَعْدَ يَومٍ طَويلٍ مِنَ العَمَلِ في دُكَّانِه، يَمْشي بِوَقارٍ، فسَمِعَ صَوْتَ بُكاءِ طِفْلٍ رَضيعٍ فاقْتَرَبَ مِن مَصْدَرِ الصَّوْتِ، فإذْ بِه يَرى طِفْلَةً صَغيرةً تَشِعُّ نُورًا وبَهاءً يَغارُ القَمَرُ مِن جَمالِها، والشَّمْسُ مِنْ حُسْنِها، في سَلَّةٍ مَلْفوفةٍ بِرِداءٍ وَرْدِي اللَّونِ.

 

طَفِقَ يَنْظُرُ حَوْلَهُ لَعَلَّهُ يَرَى أحَدًا، غَيرَ أنَّ الزّقاقَ كَانَ خَالِيًا مِنَ المَارَّةِ، ثُمَّ وَقَفَ مُنْتَظِرًا حَائِرًا لَعَلَّ أحَدًا يَأتي لِيَأخُذَها، بيْدَ أنـَّهُ بَعدَ انْتظارٍ مُمِلٍّ اضْطرَّ أنْ يَأخُذَها مَعَهُ إلى البَيتِ.

 

وعلى الرّغْمِ مِنَ الظُّنُونِ الَّتي حَامَتْ في رَأْسِ زَوْجَتِه زَكِيَّةَ بَادِئَ الأمْرِ، وإعْرابِها عَنْ ضِيقِها الشَّديدِ بِفِكْرةِ بَقائِها لَدَيهِمْ كَضَيفَةٍ إلى حِينِ العُثورِ على وَالدَيها، إلاَّ أنَّها قَبِلَتْ بِذَلكَ على مَضَضٍ أمَامَ إصْرارِ زَوجِها، وقَالَتْ لَه: يَجِبُ أنْ تَجِدَ أهْلَها في أقْرَبِ وَقْتٍ يا فَاضِل، فأنَا لا أسْتطِيعُ أنْ أُرَبِّي رَضِيعَينِ في وَقْتٍ واحِدٍ!

 

إن شَاءَ اللهُ، سَنعْثُرُ على وَالِدَيها ونَرُدُّها لَهُما.

 

♦          ♦           ♦

 

تَحوَّلَتْ حَياةُ أمَلَ إلى نَكَدٍ وشَقَاءٍ، وما فَتِئتْ تَذْكُرُ سَلْمَى في كُلِّ وَقْتٍ وحِينٍ، حَاولَ زَوْجُها وأوْلادُها الثَّلاثَةُ مُواساتَها إلا أنَّهُمْ أخْفَقُوا في ذَلِكَ، وعلى الرّغْمِ مِنْ حُزْنِها الشَّدِيدِ إلاَّ أنَّها لَمْ تَفْقِدِ الأمَلَ وهِي تَدْعُو اللهَ لَيلَ نَهارَ أنْ يَرُدَّ عَلَيها ابْنَتَها الحَبِيبةَ، ويُكَحِّلَ عَينَيها بِالنَّظَرِ إلَيها.

 

مَرَّتِ السِّنُونَ مُتَثاقِلةً، وأمَلُ تَعُدُّ الأيامَ والسَّاعَاتِ عدًّا، بَيدَ أنـَّهُ لَمْ تَلُحْ بارِقةُ أمَلٍ في الأُفِقِ في العُثُورِ على ابْنَتِها، وحِينَ أهَلَّ هِلالُ العِيدِ وتَهَيَّأَ النَّاسُ لاسْتِقْبالِه، وعَمَّتِ الفَرْحَةُ البُيوتَ، أجْهَشَتْ أمَلُ بِالبُكاءِ في صَباحِ يَومِ العيدِ كعَادَتِها في كُلِّ عِيدٍ، وزَادَتْ لَوْعتُها لَمَّا دَخَلَتْ غُرْفَةَ سَلْمَى وأخْرَجَتْ مَلابِسَها وجَلَسَتْ على الأرْضِ تُقَبِّلُها، والدُّمُوعُ تَسِيلُ على خَدَّيْها، وأخَذَت تُرَدِّدُ: "يا تُرَى أينَ أنْتِ يا قُرَّةَ العَينِ وحَبِيبةَ القَلْبِ، لِمَ لا تَأتينَ إليَّ؟! أنَا أمُّكِ يا سَلْمى! أنَا لا أُرِيدُ مِنَ الدُّنيا شَيئًا إلا رُؤيتَكِ، أرْجُوكِ تَعالَي إليَّ قَبْلَ أنْ يَتَفَطَّرَ قَلْبي عَلَيكِ حُزْنًا وكَمَدًا...".

 

دَخَلَ عَلَيها زَوْجُها، فوَقَفَ يَتَأمَّلُها وقَدْ تَرَقْرَقَتْ عَيناهُ بِالدَّمْعِ حِينَ سَمِعَها تُناجِي ابْنَتَها، فقَالَ بِعَطْفٍ وهُوَ يُغالِبُ عَبْرَتَه: "لا تَقْطَعي الأمَلَ يا أمَلُ، ولا تَقْنَطي مِن رَحْمةِ اللهِ، وأحْسِني الظَّنَّ بِه".

 

لَمْ أقْنَطْ مِن رَحْمَتِه يَومًا يا سامي، وأنَا أُحْسِنُ الظَّنَّ بِربِّي، ولَكِنْ ألا تَرَى يا سامي أنَّ المُدَّةَ قَد طَالَتْ؟! وأخْشَى أنْ أمُوتَ قَبْلَ أنْ أرَاها!

 

ثُمَّ رَفَعَتْ يَدَيها إلى السَّماءِ وطَفِقَتْ تَدْعُو على خَاطِفِها .. أنْ يحْرِقَ اللهُ قَلْبَه كَمَا أحْرَقَ قَلْبَها! ثُمَّ رَنَتْ بِبَصَرِها إلى زَوْجِها وقَالَتْ وهي تُغالِبُ عَبْرَتَها:

أنَا لا أُصَدِّقُ أنَّ إنْسانًا يَجْرُؤ على حِرْمانِ أُمٍّ مِن ابْنَتِها!

الدُّنْيا مَليئةٌ بِالوحُوشِ يا أمل!

 

أتَعْلَمُ كَمْ عُمْرُ سَلمَى الآن؟!

هزَّ رَأسَه بِأسى وقَالَ:

سِتَّةَ عَشَرَ عَامًا مَرَّتْ، ولَمْ نَسْمَعْ عَنْها خَبَرًا!

لا تَلُمْني يا سامي، فأنا لَسْتُ أفْضَلَ مِن يَعْقُوبَ - عَليهِ السَّلامُ - الَّذِي حَزِنَ على يُوسُفَ حتَّى فَقَدَ بَصَرَهُ.

إنَّ اللهَ لَطِيفٌ بِعِبادِه، وإنْ شَاءَ اللهُ سَتَرْجعُ لَنا سَلْمَى يَومًا كما رَجَعَ يُوسُفُ لأبويهِ.

ربَّتَ على كَتِفِها وقَالَ:

- هيَّا يا أملُ، امْسَحي دُمُوعَكِ واخرجِي لأوْلادِك؛ فاليومَ يُومُ عِيدٍ، ولا يَنْبغي لَكِ أنْ تَفْعَلي ذَلِكَ أمامَهم.

 

تَنَهَّدَت بِلَوْعَةٍ وكَفْكَفَتْ دُمُوعَها، وخَرَجَتْ لأوْلادِها لِتُشَارِكَهُم فَرحَةَ العِيدِ بِقَلْبٍ مَكْسُورٍ ووَجْهٍ كَئيبٍ.

 

♦          ♦           ♦

 

كَانَتْ سَلْمَى في هذه الأثناء تَتَرَعْرَعُ وتَكْبُرُ في كَنفِ ورِعايةِ فَاضِل وزَوْجَتِه، إلى جَانِبِ أخِيها بالرَّضاعةِ فَوزِي، ولَمْ تتَفَوَّقْ سَلْمَى على أقْرَانِها في دِرَاسَتِها فحَسْب، ولَكِنَّها تَفَوَّقَتْ عَلَيهِم بِحُسْنِ سِيرَتِها أيْضًا، فنَالَتْ إعْجَابَ مُعَلِّماتِها وزَمِيلاتِها في المَدْرَسَة بِحُسْنِ سِيرَتِها، ودَماثَةِ أخْلاقِها، وسِحْرِ مَنْطِقِها.

 

وكَانَ فَاضِلٌ وزَوجتُهُ يَزْدادانِ بِها تَعَلُّقًا ولَها حُبًّا مَعَ مَطْلَعِ كُلِّ شَمْسٍ، ومِنْ فَرْطِ حُبِّ زَكيةَ لِسَلْمى كانَت تَتَمَنَّى مِنْ أعْمَاقِ قَلْبِها أنْ لا تَعْثُرَ على أبَويها.

 

وفي المُقَابِلِ كانَت سَلْمَى تُبَادِلهُمَا حُبًّا بِحُبٍّ، وازْدَادَ حُبُّها واحْترَامُها لَهُما بَعْدَ مَا عَرَفَتْ حَقِيقَةَ أمْرِها، وعَلِمَتْ أنَّهُما تَفَضَّلا علَيها بِترْبِيتِها وإيوائها، وكَانَتْ تَدْعُو اللهَ أنْ يَلُمَّ شَمْلَها بِوَالِدَيها.

 

بَيدَ أنَّ دَوَامَ الحَالِ مِنَ المُحالِ، فمَعَ مُرُورِ الأيَّامِ سَاءتْ أوْضَاعُ فاضِل المَالِيَّة، فخَسِرَ تِجَارَتَهُ واضطُرَّ إلى قفْلِ دُكَّانِه الصَّغِيرِ، الَّذِي كانَتْ أُسْرَتُه تَعِيشُ مِنْهُ، وأخَذَ يَبْحَثُ عَنْ عَمَلٍ لِيُغَطِّي مَصَارِيفَ أُسْرَتِه المُرْهِقَة.

 

وذَاتَ مَساءٍ، وفيمَا كَانَ فَاضِلٌ في طَريقِه إلى بَيتِه كَئِيبًا حَزِينًا، وقَدْ أظْلَمَتِ الدُّنْيَا في عَينَيه وضَاقَتْ عَليهِ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ، وضَاقَتْ عَلَيهِ نَفْسُهُ؛ لأنَّهُ لَمْ يَجِدْ عَمَلاً، وبَينَما كَانَ يُفَكِّرُ في ظُرُوفِه الصَّعْبةِ الَّتِي يَمُرُّ بِها، قَطَعَ الطَّرِيقَ دُونَ أنْ يَنْتَبهَ لِسَيَّارةٍ مُسْرِعَةٍ قادِمَةٍ نَحْوَه، حَاوَلَ سَائِقُ السَّيارَةِ أنْ يَكْبحَ جمَاحَها إلاَّ أنَّهُ أخْفَقَ في ذَلِكَ فصَدَمَ فَاضِلاً صَدْمَةً خَفيفةً.

 

تَرَجَّلَ السَّائِقُ وهُو يُرَدِّدُ: "لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللهِ"، نَهَضَ فَاضِلٌ مِنْ مَكانِه مَصْدُومًا وهُو يَتَوَعَّكُ، فبَادَرَهُ السَّائِقُ:

هَلْ أنْتَ بِخَيرٍ يا أخِي؟

الحَمْدُ للهِ، أنَا بِخَيرٍ.

 

هَلْ تُريدُنِي أنْ أنْقُلَكَ إلى المُسْتَشفَى؟

لا، لا دَاعي، إنَّمَا هِيَ رُضُوضٌ خَفيفةٌ على ما يَبْدُو، فلا تشْغلْ بَالَك، ثُمَّ إنَّني آسِفٌ جِدًّا يا أَُسْتَاذُ، فلَقَدْ كانَتْ غَلْطَتي!

 

وبَعْدَ إلْحَاحٍ مِنْ سَامِي رَكِبَ فاضِلٌ مَعَهُ السَّيَّارَةَ لِيوصِّلَه إلى بَيْتِه، وفي الطَّرِيقِ سَألَه سَامِي عَنْ سَبَبِ شُرُودِه، فأخْبَرَهُ بِقِصَّتِه، فقَدَّمَ لَهُ سَامِي بِطَاقَةً وقَال لَهُ:

- هَذِه بِطاقَتِي فيها اسْمِي وعُنْوانُ شَرِكَتي، تَعالَ غَدًا إلى الشَّرِكةِ وسأُحَاوِلُ أنْ أجِدَ لَكَ عَمَلاً مُناسِبًا.

 

شَعَرَ سامي بإحْساسٍ غَرِيبٍ يَسْرِي في فُؤادِه عِنْدَمَا وَقَعَ بَصَرُه على سَلْمَى حَينَ فتَحَتِ البَابَ لأبِيها.

 

وفي طَرِيقِه إلى بَيْتهِ حَاوَلَ سَامِي طَرْدَ صُورَة الفَتاةِ الَّتِي رآها في بَيتِ فَاضِلٍ مِن خَيالِه، غَيْرَ أنَّهُ أخْفَقَ في ذَلِكَ، ولَمْ يَعْرِفْ سِرَّ تَعَلُّقِ قَلْبِه بِها.

 

ومَا أنْ دَخَلَ البَيتَ حَتَّى بَادَرَ بِقَصِّ مَا جَرَى لَهُ مَعَ فَاضِلٍ، الرَّجُلِ الطَّيّبِ، لِزَوْجَتِه، ثُمَّ قَالَ لها مُدَاعِبًا إيَّاها: إنَّ لَهُ ابْنَةً جَمِيلةً تُشْبِهُكِ تَمامًا!

 

رَدَّتْ عَلَيه غَاضِبةً وقَدْ تَحَرَّكَتْ نارُ الغَيرَةِ في فُؤادِها، وقَالَتْ بِاشْمِئزازٍ:

ولِمَ نَظَرْتَ إِلَيها؟!

لَقَدْ وقَعَ بَصَرِي عَلَيها بِعفويةٍ عِنْدَمَا فتَحَتْ لَنَا البَابَ!

 

هَزَّتْ رَأسَها غَاضِبةً ولَمْ تُعَقِّبْ، فَلاذَ سَامِي بِالصَّمْتِ وكأنَّهُ بَلَعَ لِسَانَه.

 

♦          ♦           ♦

 

ومَعَ مُرُورِ الأيَّام أظْهَرَ فاضِلٌ إخْلاصًا ونَجَاحًا في عَمَلِه في الشَّرِكَةِ مَعَ سَامِي، فتَوطَّدَتْ بَينهُما عَلاقةٌ حَمِيمَةٌ، وذَاتَ صَبَاحٍ سَألَ سَامِي فَاضِلاً عَن ابْنَتهِ الَّتِي رَآها عِندَ بَابِ بِيتِه، فَرَاحَ فَاضِلٌ يَمْدَحُها ويُثْنِى عَلَيها وعلى دَماثَةِ أخْلاقِها، وحُسْنِ سِيرتِها وحِشْمتِها وعَفَافِها، فأثَارَ في نَفْسِه الرَّغْبَةَ في مُصَارَحَتهِ في أمْرِها، فأعْرَبَ سَامِي عَنْ رَغْبتِه في خِطْبتِها لابْنِه عَبْدِ الكَرِيم الَّذِي سَيُنْهِي تَعْلِيمَهُ الجَامِعي في هَذا العامِ، رَحَّبَ فَاضِلٌ بِالفِكْرةِ بِسُرُورٍ بَالِغٍ.

 

رَفَضَتْ أمَلُ فِكرَةَ خِطْبةِ سَلمَى لابْنها بَادِئ الأمْرِ، وأبْدَتْ مُعَارَضَتَها على زَواجِ ابْنِها قَبْلَ عُثُورِها على ابْنَتِها، غَيرَ أنَّها وَافقَتْ بَعْدَ إلْحاحٍ مِنْ سامِي على الذَّهابِ إلى بَيْتِ فاضِلٍ لِتَرَى سَلمَى وتَتَعَرَّف عَلَيها وعلى أُمِّها فقَطْ إرْضاءً لِزَوْجِها.

 

شَعَرَتْ أمَلُ بإحْسَاسٍ غَرِيبٍ يَسْرِي في وِجْدانِها حَالَمَا رَأتْ سَلمَى، ولم تَتَمالَكْ نَفْسَها وقَالَتْ في دَهْشَةٍ:

ما شَاءَ الله، لَمْ أكُنْ أتَصَورُ أنَّكِ بِهَذَا الجَمالِ!

رَدَّتْ سَلمَى في خَجَلٍ: شُكْرًا لَكِ يا عَمَّتِي! هَذَا لُطْفٌ مِنْكِ!

 

ما اسْمُكِ يا حَبيبَتي؟

سَلمى.

 

لَمْ تَتَمالَكْ أمَلُ نَفْسَها عِنْدَما سَمِعَت اسْمَها، فاغْرَوْرَقَتْ عَيناها بِالدَّمْعِ، تَفَاجَأتْ زَكِيةُ وَهي تَرَى الدُّمُوعَ تَسِيلُ على وجْنَتَيها وسَألَتْها بِدَهْشَةٍ:

ما بِكِ يا أُخْتاهُ؟ أرْجُو المَعْذِرَةَ إذا أسَاءَت سَلمَى الكَلامَ مَعَكِ، فهي لَمْ تَقْصِدْ مُضايقتَكِ.

 

كفْكَفَتْ دُمُوعَها واسْتَدْرَكَتْ نَفْسَها ولَمْلَمَتْ كَلِمَاتِها، وقَالَت:

لا، بَلْ على العَكْسِ؛ لقَدْ أدْخَلَتْ رُؤيتُها السُّرُورَ إلى نَفْسي، غَيرَ أنَّني تَذَكَّرْتُ أمْرًا مُحْزِنًا.

 

قفَلَتْ أمَلُ رَاجِعةً إلى بَيْتِها كَئِيبةً حَزِينةً؛ إذْ رَأتْ في صُورةِ سَلمَى ابْنَتها سَلمَى، إلاَّ أنَّها فَاجَأتْ زَوجَها بِتَغيُّرِ مَوقِفِها ومُوَافَقَتِها بِشِدَّةٍ على خِطْبتِها، فقَالَ لِنَفْسِه: "سُبحَانَ مُقَلِّبِ القُلُوبِ!".

 

وفي اليومِ التَّالِي أخْبرَ سَامِي فَاضِلاً عَنْ إعْجابِ زَوْجَتِه بِسَلمَى، وأنَّهُمَا قَرَّرَا أنْ يَأْتِيَا لِخِطْبَتِها رَسْمِيًّا في الأُسْبُوع المُقْبلِ.

 

قَالَ فَاضِلٌ مُرْتَبِكًا:

ولَكِنْ يا أُستَاذُ سامي، قَبْلَ أنْ تَتِمَّ الخِطبَة ثَمَّةَ حَقِيقَةٌ لا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِها.

 

وما هِيَ هَذِه الحَقِيقةُ يا فَاضِلُ؟

سَلمى لَيسَت ابْنَتي مِنْ صُلْبي، وإنَّما أنا أبُوها بِالرَّضَاعة!

ماذَا؟ لَيسَت ابْنَتكَ، ابْنَةُ مَنْ إذًا؟!

 

أُسْقِطَ في يَدِ سامي وهُوَ يَسْتَمِعُ إلى قِصَّتِها، ومارَت الذِّكْرياتُ في وِجْدانِه كالطَّيفِ، فتَذَكَّرَ فقْدَانَه لابْنَتِهِ، فطَافَ بِه طَائفُ الحُزْن، التَفَتَ فاضِلٌ إلى سامي فقَالَ لَهُ في دَهْشَةٍ حِينَ رَأى عَينَيهِ تَتَرَقْرَقَان بالدَّمْعِ:

مَعْذِرةً يا أُسْتَاذُ سامي، ولَكِنِّي لَمْ أشأْ أن أُخْفي عَنْكَ الحَقِيقة.

شُكْرًا لَكَ يا فاضِلُ على أمَانَتِك، لَقَدْ جَاءَ الوقْتُ لأكْشِفَ لَكَ عَن سِرِّ تَعاسَتي وحُزْنِي.

 

رَاحَ سامي يَحْكِي لَهُ قِصَّةَ اخْتِفاءِ ابْنَتِهِ الرَّضِيعةِ في اليومِ الأوَّلِ مِنْ وِلادتِها مِنَ المُسْتَشْفَى، وما أنْ أتَى سَامِي على ذِكْرِ السِّوارِ الَّذِي كُتِبَ عَلِيه اسْمُها حتَّى صَرَخَ فاضِلٌ بأعْلى صَوتِه فَرِحًا:

إنَّها هِيَ! .. إنَّها هِيَ! .. اللهُ أكْبرُ!

 

قَالَ لَهُ في دَهْشةٍ: مَن هِي؟! لَقَدْ حَيَّرْتَني!

 

إنَّ سَلمَى ابْنَتُكَ يا سامي، نَعَم ابْنَتُك! ونَحْنُ لا زِلْنَا نَحْتَفِظُ بِالسِّوارِ الَّذِي ذَكَرْتَه حَيثُ وجَدْنَاهُ بِمِعْصَمِها.

 

قام سامي مِنْ مَكْتَبه مَذْهُولاً فعانَقَ فاضِلاً، وعَيناهُما تَدْمَعَان.

 

♦          ♦           ♦

 

انْطَلَقَ سامي إلى بَيتهِ، يُسَابِقُ الرِّيحَ، ولا يَلْوي على شَيءٍ؛ لِيزُفَّ النَّبأَ إلى أمَلَ الَّتِي لَمْ يَتحَمَّلْ فُؤادُها الصَّدْمةَ حينَ أخْبرَها، ففَقَدَتْ وَعْيها لِلحْظَة، ومَا أن أفَاقَتْ مِنْ صَدْمَتِها حتَّى أجْهَشَتْ بِالبُكاءِ مِنْ شِدَّةِ الفَرَح.

 

وهُنَالِكَ في بيتِ فاضِلٍ كانَتْ أمَلُ على مَوْعِدٍ مع الأمَلِ، ويا لَهُ من لِقَاءٍ عَاطِفيٍّ ذُرِفَتْ فيه دُمُوعُ الفَرْحَةِ! وعَمَّتْ فيهِ مَشاعِرُ البَهْجَة، وكَانَ سَامي يُرَاقِبُهُما وهُمَا تَتَعانَقانِ وتَبْكِيانِ مُنْتَظِرًا دَوْرَه بِشَغَفٍ لِمُعانَقةِ فَلْذَةِ كَبِدِه.

 

فجْأةً هَوتْ أمَلُ على الأرضِ وجَثتْ على رُكْبَتَيها، وأخَذَتْ تَتَفَحَّصُ رِجْلَ سَلمَى لِتزْدَادَ يَقِينًا، ومَا أنْ رَأت الشَّامَةَ حتَّى أخَذَتْ تُرَدِّدُ:

الحَمْدُ للهِ، أخيرًا أشْرَقَتْ شَمْسُ الأملِ!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
2- تعليق
حلا - فلسطين 15-09-2014 03:40 PM

مؤثرة ومبكية ! , وجميل انها انتهت بتحقق الأمل ,

ما شاء الله ,تبارك الله ,كتابة رائعة وأسلوب مشوّق

زادكم الله من فضله

1- دهشتني من أسم البنت
سلمى شريف - مصر لكن عايشة بالسعودية 23-06-2010 07:04 PM

والله فوجأت عندما رأيت اسم البنت لأن أنا اسمي سلمى لم أتوقع أن ممكن هذا يكون في حياتي ((الحمد لله الذي عافنا و ابعد عنا البعد عن والدينا))على العموم سلمت يداك

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة