• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

إعفاء ( قصة )

إعفاء ( قصة )
وصال تقة


تاريخ الإضافة: 26/11/2014 ميلادي - 3/2/1436 هجري

الزيارات: 3832

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

إعفاء


اختطفته طلقة قناص من بين يديها وهي تعبر به الطريق رجوعًا من فرن الخبز، فعلِقَت شظايا جمجمته النحيلة بفستانها الأخضر وضمَّخته الدماء.

 

شاحبة ًكانت كما قمحِ البيادر، كما الخوف، كما الموت، كلون الرصاص المنتثر كحصيدة عوسج، مذعورة إلى حدِّ ارتباك خطاها، إلى حدِّ احتباس الدمع في رئتيها النحيلتين، إلى حدِّ تخلِّيها عن الأرغفة وجثَّة أخيها الممدَّدة فوق الرصيف البارد.

 

كانت تعرف الموت ويعرفها، رائحته مازالت عالقة بشرائط شعرها، لكن لم تكن تعلم أنه سيرسم يومًا خطوطَه على فستانها كلوحة بوهيمية ثائرة تعشق الأحمر القاني، تصنع منه تفاصيل الذكرى.

 

هرولت تحت وطأة الصياح تربكها الجلبة، التفّت ساقاها الباردتان الحائرتان فجأة، وتسمَّرت وسط الميدان كصنم تُلاحق عيناها الجافَّتان بركة الدم التي تُغرق جسد "بلال" النحيل، منذ دقائق فقط كانت يده الرخوة تعبث بأصابعها، تنبِض في كفِّها، منذ دقائق فقط كان يركض باسمًا هامسًا لها أنه سيفوز بسباقهما للفرن، منذ لحظات فقط كانت أسنانه الصغيرة تقضِم حاشيةَ الرغيف يقرِضها كأرنب.

 

تعالت زمجرة القذائف المتهوِّرة المتناثرة في كل زوايا الأزقَّة والشوارع، وتعالت صيحاتهم يستحثُّونها على الهروب، لكنَّ عينيها كانتامزروعتين في أكاليل الأقاحي المتناثرة حول جثة البطل الصغير تلثم جبينه ووجنتيه وتُغرقه في لونها القاني، ترتجف لرؤية تلك النافورة المحفورة في جبينه، تناوب النظر بين جمجمته وبين شظاياها على ثيابها فتنتفض كعصفور مُبلَّل، تحسَّست فجأة أطرافَها الصاقعة وضيق الكوَّة المحتبسة فيها بقايا روحها الكسيحة، همَّت أن تستسلم في يأس وخوف لضمَّة القبر، فصفعها الزفير المكدود المكتوم لعشرات القلوب الواجفة المتكدِّسة معها في ذات المرزاب تنتظر فكَّ لغز الليل أو ترنيمة جديدة لطائر الحسون، لم تكن الطفلة الوحيدة بينهم، لكن وحدها كانت تحمل عبق أخيها معها في تفاصيل فستانها وفي الرموش وفي ثنايا كفِّها الصغيرة، وتحمل في أحداقها طَيْف أمها المنتظرة خبزًا وزهرتين نديتين هما كل ما تبقَّى لها من مدينة الرماد.

 

الشمس مازالت تلفح وجه المدينة المحتضرة فتتضوَّع ذاكرتها مِسْكًا، وينبت في جفنيها الناعسين وردٌ وشوكٌ ومزعة شلْوٍ قد تنفَّس عِشْقًا، وغادرت وهي ذات وجع كما يغادر الوُلَّه ظل الزيزفونة ساعة مغيب.

 

ذاكرة العشق تعلق بالوجع، أولئك الذين لم يتألَّموا، لم يكتب لهم شرف الوفاء، والعشق الذي لا ينجب وجعًا، لا يستحق أصحابه.

 

يكتم أنفاسَ الشوارع دخانُ الحرائق المتنامي مع كل طلقة كوجه مارد، فتتعالى الصرخات وتبح الاستغاثات وينتصر هزيم المدافع، يُبكم الأنَّات المنبعثة من تحت الركام، ومن شقوق الحطام، ومن غياهب الموت المتربِّص بخمائل الياسمين.

 

حينما هدأ عويل الرصاص، وسكن الغول الجائع لبتلات الأرواح المترنِّم بموشحات الرعب، انتشر المنكوبون من مخابئهم كالمبعوثين من القبور، تشقُّ تكبيراتهم عنان الفضاء فتمطِرُ زخات يقين، يسعفون الجرحى ويوارون الجثث الممسَّكة ويكملون رحلتهم في احتضان الفجائع، ضاعت ملامحها بين كل أولئك العائدين بعد رحلة الموت، وامتزجَتْ خطاها بالخطى المتحيرة المتلفتة باحثة عن بقايا النهار في شظايا رصاصة، بعبق الراحلين، بزغردة الأمهات، بلثام الإباء، بعناقات الوداع، برماد المنازل، بشذى الأمنيات، بأشواق تصر رغم كل شيء على البقاء، بفستان الغادة المنتظِرَة مهرَها كفَنَ الراحلين، بمنتظري مَن لا يعودون، بالوردة الحمراء النابتة فوق نعش معانقي الحياة.

 

سحبت خطاها وبقايا ملامحها عائدة مع العائدين.

 

طويلة كانت رحلة إيابها، سحيقة كرحلة الموت، مظلمة كسرداب، مضطرمة كبركان.

 

موجعة كتفاصيل رحيل أخيها.

 

ترتعش حينًا وتتماسك حينًا، وتغرق تفاصيل سنواتها العشر بحثًا عن الخلاص من سرِّها المزروع في أحشائها وفي أحداقها وفي ثوبها، تكتب للوجع ألف قصيدة وتصنع لسرِّها ألف صندوق تُواري فيه فستانها وجثة أخيها تحجبهما عن عيني أمها.

 

تجمَّدت خطاها فجأة، وانحبست معها الأنفاس في شرايينها والبريق في عينيها المكدودتين، أعفاها انهيار بيتهم بقذيفة من حِمل إفجاع أمها بالخبر.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة