• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

في الحافلة نكون معًا

ابتسام فهد


تاريخ الإضافة: 7/2/2012 ميلادي - 15/3/1433 هجري

الزيارات: 5272

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أتحسَّس يدها الصغيرة القريبة من يدي، وأنظُر للفراغ أمامي، غير مُكترثة لأصوات الأطفال من حولي، ولا للسيارات العابرة في خِضَمِّ حرارة وازدحام هذه الظهيرة.

 

ها هو رأسها يُلامس كتفي بحُنوٍّ، تَنتظر مني أن أُحيطها بذراعي، وأُبارك لها هذا الاقتراب، وأفعل كما لو أنني قرَأت رغبتها تلك بوضوحٍ في عينَيها، رغم أنني لا زِلت أُحَدِّق في الفراغ أمامي!

 

تتكوَّر، تُحاول أن تكون كالحلزون بجانبي، وتُلامس يدي بهدوءٍ؛ لتُمسكها أخيرًا، وتَضعها تحت وَجْنتها الرطبة بعد أن أنزَلت رأسها؛ ليستقرَّ في حجري، تظلُّ صامتة على غير العادة، هادئة كأنها دُمْيَة، حزينةً مُتْعَبة، تَوَدُّ لو أنَّ هذا الوقت يطول.

 

يقطع شرودها صوتي الهامس: "رند"، استَيْقِظي، سأنزل الآن.

 

فتَسألني وهي التي لَم تَنَمْ أصلاً: هل وصَلنا إلى منزلك؟

 

فأبتَسِم ابتسامة لا تراها: نعم.

 

وأُغادر تاركة إيَّاها على مقعد الحافلة، تَزمُّ شَفَتيها بخيبة، وتُمسك بآخِر ما يتبقَّى مني، يدها تَنساب على حقيبتي، وكأنها تُحاول الإمساك بي لمدَّة أطول.

 

أخطو خُطواتي للمنزل، وعند عتبة الباب تُهَرْوِل الحافلة مُغادرة شارعنا بضَجرٍ، لكنَّها ليست أسرعَ من ركض يدي في فتح الباب، وكأنني وصَلتُ إلى خطِّ النهاية بعد سباقٍ طويلٍ ومُجهِدٍ!

 

أُغلق الباب خلفي بعد الدخول، وحالَما أصلُ إلى حجرتي، أكون قد أَلْقَيتُ بالعِبء الثقيل الذي يُثْقِل يَدَي وقَدَمي، والصغير المخنوق: قلبي.

 

أتنهَّد وأُطلق زفراتٍ طويلة، أُحاول بها إخراجَ كلِّ ما وَلَج إليّ في هذا اليوم من ازدحامٍ، وإنهاك، وضَجرٍ، أُخَفِّف من حِدَّتهم بشكلٍ جزئي؛ حتى يَهدأ مزاجي الذي يظلُّ نزقًا لساعات قد تَشمل اليوم بأكمله.

 

أنسى "رند" وكلَّ ما يخصُّ العمل، أنغمس في حياتي الأخرى المُنفصلة عن تلك التي كانت في ساعات الصباح، مملوءةً بالمهام، وتتحوَّل إلى ثِقَلٍ غير مُرَحَّب به في أحيانٍ كثيرة.

 

تَمضي اللحظات بارتياحٍ نسبي، أمَّا حين يُومض هاتفي المحمول، ويُصدر صوتًا مُزعجًا في حلول الساعة السابعة والثلاثين دقيقة صباحًا، فأعلم أنَّ الحافلة قد وصَلت وأنها تَنتظرني عند باب المنزل بضجرٍ كما تفعل كلَّ يوم، وضجرُها هذا يُذَكِّرني بثمانينيٍّ يَعمل في مهنة مُمِلَّة ومُجهِدة، ومحفوفة بالانتظار وتحمُّل الآخرين، وفوق ذلك كله ذات دخلٍ يسيرٍ، تمامًا كما تُقاسي هذه الحافلة دقائقَ الانتظار للذين تَلتزم بنَقْلهم، مُجبرة على تحمُّل تأخُّرهم، وعدم اكْتِرَاثهم لها، مُجبرة على غَضِّ الطرف عن فظاظة الشوارع والمُنعطفات، وثِقَل مجاورة بعض السيارات، وطول الوقوف أمام الإشارات، وكثرة عدد المطبَّات!

 

كغير العادة أيضًا، أجد "رند" قد سبَقَتني إلى المقعد الذي اعتَدتُ الجلوس عليه، وعلى ملامحها اعترافٌ واضحٌ بأنها قصَدت ذلك، وهي التي كانت لا تَجلس إلاَّ في المقاعد الخلفيَّة؛ لتأخُذ راحتها في الثرثرة والضحك!

 

بسَكِينة تامَّة تَنتظرني حتى لو لَم تقل ذلك، لكنَّ استعدادها لي يَشي به، بلا اكْتِرَاثٍ أجلس بجانبها وأنا أحمل تلك الحقيبة المتْعَبة، أبدأ بقراءة الأذكار بشرودٍ تامٍّ، وفي كلِّ مرَّة أُحاول الإمساك بذهني ولو قليلاً؛ لينهي تلك القراءة التي تَحتاج إلى حضور قلبٍ من المؤسف أنه غائب دائمًا، لكنني عبَثًا أفعلُ ذلك.

 

والآن باتَت "رند" تُشَكِّل منعطفًا آخرَ لشرودي، فأنا ورغم أني بعيدة الذِّهن، إلاَّ أنني أُلاحظ أدقَّ تصرُّفاتها، فهي تقترب مني؛ حتى تبقى ملاصقةً لي، في ذات الهدوء والتعب ولَمحة الحزن!

 

ليست "رند" التي أعرفها، لا يُمكن أن تكون هي، ولا أعلم ما الذي أصابَها؟ وما الذي جعَلها تتعلَّق بي بهذا الشكل المفاجئ؟

 

لطالَما قابَلتها بالأوامر الحازمة والجافَّة إثر ثَرْثَرتها، وكثرة تنقُّلها في الحافلة؛ مما يُثير الشَّغب، "رند" الجريئة صاحبة الصوت المميَّز، والرُّؤَى الطويلة، والآراء التي لا تنتهي - تُصبح بهذه الصورة الغريبة مُنزوية بجانبي تتلمَّس قُربي!

 

بعدما كنتُ أنزل من الحافلة للعمل، لا يُمسك بيدي إلا حقيبتي، باتَت "رند" لا تَسمح لي بهذه الاستقلاليَّة، فتقوم بإمساك يدي الأخرى، بل وتدخل معي غرفة المُعلِّمات، وتَقف بجانبي تنَتظر أن أُنهي إنزال عباءَتي، ورَشَّ عِطري، وإلقاء التحايا، والدَّردشة العابرة مع مَن في الغرفة، غير عابئة بأحدٍ، ولا حتى بي أنا التي لَم يُسمَح لي بالموافقة على كلِّ هذا - لأكون مُلزمة بإيصالها إلى فَصْلها واليد باليد! مُعرضة لنظرات طالباتي، تلك التي يَقُلْنَ لي فيها بتعجُّب واستنكارٍ: مَن هذه يا مُعلِّمتنا العزيزة؟ ولماذا تُمسك بيدك؟ أنتِ التي تَخصِّيننا، ولا نقوم معكِ بهذه التصرُّفات، حتى إنَّ قُبلة ما قبل الخروج التي نُعطيها لكِ في مرات قليلة، تَكادين تتملَّصين منها، لولا أننا نُدخلكِ في دوَّامة الإحراج والإصرار، والوقوف بشكل جماهيري أمام وَجْنتيكِ؛ حتى تُصابين بالاختناق، والتحسُّس أيضًا!

 

وما أن يَصلني كلُّ هذا من أعينهنَّ التي تُحَدِّق فيّ وهنَّ مجتمعات خارج الفصل، حتى أرْفَع صوتي قائلة: إلى الفصل، ادْخُلْنَ، هيَّا!

 

والحق أنني لا أُطاع في مثل هذه الحالة، فحين أُعطيهنَّ ظهري؛ لإكمال المسير إلى فصل "رند"، وتسليمها لفصلها ومُعَلِّمتها التي لَم تأتِ، أَلْتَفِت مرة أخرى فأَجدهُنَّ في مكانهنَّ لا يتحرَّكْنَ، وكأنهنَّ يَقُلْنَ: نريد أن نرى ما أنتِ فاعلة، ومَن هذه؟!

 

فأُعيد أمري مرَّة أخرى، وأنا أتوجَّه إليهنَّ، وما أن أدلف إلى الفصل خلفهنَّ، وأُلقي التحيَّة عليهنَّ، وأمضي إلى الطاولة الخاصة بي، إلاَّ وأجد "رند" خلفي، كانت تسير معي كالظلِّ، ولَم أَلْحظها! أسألها في تعجُّب: لماذا أتيتِ؟!

 

تُجيبني بهدوءٍ مُفرطٍ: مُعَلِّمتي لَم تَحضُر بعدُ.

 

فتتساءَل الطالبات - وهنَّ يَنظرنَ إليها وكأنها مخلوقٌ غريب -: يا مُعلمة، هذه ليست من بنات فصلنا!

 

فأُجيبهنَّ بأنني أعلم هذا، ثم أُهَدِّئهُنَّ، حتى تصلَ معلمة القرآن، وأخرج بصُحبة "رند"؛ لنجلس في الخارج، هي بجانبي وأنا مع كتب الواجب أقوم بعمليَّة تصحيحها، وحين أُواجه أسئلة من المُعَلِّمات والإداريات بشَأْن "رند"، التي أصبَحت في وضعٍ غير طبيعي، أُجيب بنرجسيَّة مُصطنعة: "مُعجبةٌ بي يا عالَم، ماذا أفعل إن كنتُ محبوبة بهذا الشكل؟!".

 

فيَضْحَكْنَ والغرابة تَعتلي ملامحي وملامحهنَّ، فـ"رند" تتشكَّل في قالب جديد وغريب عمَّا عَهِدناه عليها!

 

برفض مبطن تدخل فَصْلها بعد حضور مُعَلِّمتها، وتَنتهز الفُرَص - التي تستطيع فيها أن تخرجَ - لتأتي إليّ حين أكون خارج فصلي، وتُسابق كلَّ شيء عندما يدقُّ الجرس مُعلِنًا انتهاء الدوام؛ لنذهب معًا إلى الحافلة.

 

وفي الحافلة يتكرَّر السيناريو، وكأن "رند" تعلم أنْ لا شيء يَربطني بها سوى طقوس الدخول والخروج من المدرسة، وهذه الحافلة التي جمَعَتنا.

 

أُحاول أن أُعيد صور "رند" القديمة، وأُقارنها بالحديثة، فأُصاب بحالة استنفار ذهنيَّة، ولا أدري ما الذي أصاب الفتاة الصغيرة؟

 

كلُّ ما حدَث أنها شاهَدت يومًا ما طالبة أخرى أقلَّ منها سنًّا؛ تُمسك بيدي، وتَذهب معي، وتَجلس بجانبي، ولَم تفعل ذلك إلاَّ مرات معدودة، ولا تُصِرُّ عليه، وإن كانت تُطالب به أحيانًا، وفي اليوم التالي وجَدتُ "رند" تَنتظرني أمام باب فصلي حين هَممتُ بالخروج، وتعجَّبت منها، لكنني رحَّبت برُفْقتها وعلى رأسي علامة استفهامٍ كبيرة!

 

(جود) الطالبة الصغيرة التي تدرس في الروضة، و(رند) التي تَفوقها في المستوى وتدرس في التمهيدي، كلتاهما لا شيء يَربطني بهما سوى الحافلة، فلا هما من طالباتي، ولا هما من مسؤوليَّتي داخل المدرسة، لكن الآن أصبَحتُ سببًا رئيسًا في تغيُّر "رند" وتشكُّلها في هذا القالب الجديد، فالوضع المُدلل والجميل والرفيع - الذي تشعر به حين تكون بقُربي - يَجعلها تبدو كدُمْيَة حزينة ومُتْعبة، ويَجعل الوقت القصير الذي أَقْضيه في الحافلة - ولا يعني لي شيئًا - وقتًا مهمًّا وحالِمًا بالنسبة لها، والحال التي مضَت - وكانت فيها المستخدمة المسؤولة عن الحافلة، تُهدِّئ "رند" وتُهَدِّدها أحيانًا بإبلاغ مُعَلِّمتها والإدارة عن شَغبها داخل الحافلة - أصبَحت فيها مُتعجِّبة ومرتاحة لهذه الصورة التي تحوَّلت إليها "رند"، التي كانت تُنادَى بالثِّرثارة، أو كما تقول لها المستخدمة: "رند أنتِ ليه كدا رر كتير!"، وفي حين كانت رند تتحدَّث مع الآخرين من الأطفال، تحذرها المستخدمة قائلة لها بأنني سأرفض أن تجلسَ بجانبي مرَّة أخرى إن تحدَّثتْ، فتَصمُت وتَهْدأ، أمَّا أنا فأُحَدِّق في الفراغ، ولا أَنبسُ ببنت شَفةٍ أمام هذا الادِّعاء من المستخدمة.

 

أظلُّ صامتة وشاردة في البعيد هناك؛ في الأشياء الجميلة، في ملامح بعض الوجوه التي تُمثِّل لي شيئًا غاليًا، وأبتسمُ مُمَرِّرةً بعض الشعور بالقَبول والحنان إلى "رند" التي تُغادر هي أيضًا إلى مناطق لا أعرفها في ذاكرتها، وتُحاول أن تُبرهنَ على أنها مرتبطة بي، حتى لو لَم تكن من ضمن طالباتي ومسؤوليَّتي، ولسان حالها يقول: "لا يهمُّ، في الحافلة نكون معًا".





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة