• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية


علامة باركود

الغربة والاغتراب في الشعر الإسلامي

الغربة والاغتراب في الشعر الإسلامي
أ. طاهر العتباني


تاريخ الإضافة: 6/6/2012 ميلادي - 16/7/1433 هجري

الزيارات: 45757

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الغربة والاغتراب في الشعر الإسلامي


رؤية تأصيلية لمفهوم الغربة والاغتراب:

من المفاهيم التي تَجري دائمًا على أقلام النُّقاد وكُتَّاب الأدب بشكلٍ عام: كلمة "الغربة" و"الاغتراب"، وهذه الكلمة على الرغم مما لها من رفيفٍ وشاعريَّة فائقة، فإنها أصبَحت مُبتذلة في كثيرٍ من الأحيان، وخصوصًا عندما تُستعمل استعمالاً يُعطيها معانيَ تَبتعد بها عن الشِّحنة الشعوريَّة والنفسيَّة التي تَنطوي عليها الكلمة بالفعل.

 

وحقيقة اللفظ الدَّلاليَّة في اللغة العربية - الغربة والاغتراب - يَنطوي على معاني؛ منها:

1- الاغتراب المكاني؛ إمَّا اختيارًا بالهجرة بحثًا عن الرزق والعلم وغير ذلك، وإمَّا قهرًا بالهجرة فرارًا من البطش الفكري أو السياسي أو العقَدي.

 

2- الاغتراب الزماني؛ حيث يَستشعر الإنسان البون الشاسعَ بين ما يؤمن به ويَعتقده، وبين ما يَراه ماثلاً في الواقع المحيط به؛ سواء كان ذلك القريب في وطنه، أو البعيد في العالم شرقِه وغربه.

 

ومما لا شكَّ فيه أنَّ المسلم المعاصر في كثيرٍ من الأماكن، أصبَح يعيش كثيرًا من جوانب هذه الغربة في الزمان أو المكان، في عالمٍ افتَقد كثيرًا من العدل والحق والخير؛ حيث سيطَرت الصراعات العقديَّة وافتَقدت الأُمة الإسلاميَّة قِوَامتَها التي كانت لها على البشريَّة، التي كانت بها تقود شعوب العالم ودُوَله ومُجتمعاته إلى الحقِّ والعدل والخير، ذلك الحق والعدل والخير الذي جاءَت به شرائع السماء، ودعا إلى أُسسه الرُّسل والأنبياءُ، لا ذلك الحق والعدل والخير الذي تتحدَّث عنه فلسفات الأرض ومناهج البشر، ثم لا يكون له رصيدٌ من الواقع أو التاريخ.

 

مِن هنا كان أحقُّ البشر بهذا المعنى - الغربة والاغتراب - هو المسلمَ المعاصر، ولا غَرْوَ فهذا حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - يؤكِّد هذا المعنى: ((بدَأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدَأ، فطُوبى للغُرباء))[1].

 

ولقد عاشَ صحابة النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى الاغتراب المكاني في هجرة الحبشة وفي الهجرة إلى المدينة، تاركين أوطانَهم وديارَهم وأموالَهم، وكلَّ ما يَملِكون في سبيل عقيدتهم ونُصرة لدينهم، كما عاشوا الاغتراب الزماني وهم يواجِهون الواقع الجاهلي المُسيطر على العالم من حولهم، وينظرون للعالم من حولهم وقد غَرِق في ليلٍ طويلٍ من الظلام والضلال، فيَشعرون بكلِّ معاني الغربة وهم قلَّة مُستضعفة، يَخافون أن يتَخطَّفهم الناس.

 

وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حينما ذهَب إلى الطائف ولَم يجد من أهلها استجابة لدعوته، يَستشعر هذا المعنى من معاني الغربة، وتَحفَظ لنا كُتبُ السِّيَر هذا الدعاء الخاشع الذي يُعبِّر عن قمة الاغتراب في الزمان والمكان: ((اللهمَّ أشكو إليك ضَعْف قوَّتي، وقلَّة حِيلتي، وهواني على الناس، أنت أرحمُ الراحمين، أنت ربُّ المستضعفين، وأنت ربي، إلى مَن تَكِلني، إلى بعيدٍ يتجَّهمني، أم إلى عدوٍّ ملَّكْته أمري، إن لَم يكن بك غضبٌ عليّ، فلا أُبالي، غير أنَّ عافيتك هي أوسعُ لي، أعوذ بنور وجْهك الذي أشرَقت له الظلمات، وصلَح عليه أمرُ الدنيا والآخرة، أن يَحِلَّ عليّ غضبُك، أو أن يَنزلَ بي سَخطُك، لك العُتبى حتى ترْضى، ولا حولَ ولا قوَّة إلاَّ بك))[2].

 

ولقد كان القرآن يَعرض على النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام صُورَ الاغتراب الزماني والمكاني؛ ليكون في ذلك تسليةٌ وترويح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وتثبيتٌ لدعاة الحقِّ، ومن ذلك قَصص الأنبياء والرُّسل التي عرَضها القرآن.

 

هذا نوح - عليه السلام - يشكو إلى ربِّه غُربته في قومه، وصدَّهم وإعراضهم عنه: ﴿ قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا * ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾ [نوح: 5 - 9].

 

ويُصوِّر القرآن حال نوح - عليه السلام - ومَن معه من المؤمنين، قلَّة مُستضعفة تُواجه مجتمعًا تَموج فيه الجاهلية والشِّرك، ولكنَّ القلَّة المؤمنة صابرة واثقة بنصْر الله وتأييده: ﴿ وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ ﴾ [هود: 38].

 

وهذا إبراهيم - عليه السلام - حين يُواجه قومه الذين عبَدوا أصنامًا لا تَضُر ولا تَنفع، ويشعر بالغُربة بعد أن دعاهم إلى الحقِّ واليقين، فلم يَستجيبوا: ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا ﴾ [مريم: 48].

 

ثم ها هو يُهاجر إلى جزيرة العرب، ولا يَجد في المكان القفر المُوحش - الذي هاجَر إليه عند بيت الله الحرام - مَن يَأْنَس به، فيَدعو الله تعالى أن يُبدِّد غُربته هو وزوجته هاجر وابنه إسماعيل: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ [إبراهيم: 37].

 

وهذا نبيُّ الله يوسف - عليه السلام - وابتلاءاته المتكرِّرة، وغُربته التي امتدَّت أمدًا طويلاً من عُمره؛ حتى أُودِع السجن، فأصبَح غريبًا في المكان، بعيدًا عن وطنه وأبيه، وقد حُرِم حُريَّته، وغريبًا في الزمان؛ حيث يرى مَن حوله مِن البشر يَدينون بغير دين الحقِّ، ويرى ما عليه أهل الجاهلية في ذلك العصر مِن انحطاطٍ في الفكر والمُعتقد، والخُلق والسلوك: ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 39 - 40].

 

ولو مضَينا نُعدِّد الأمثلة، لطال بنا المقام، فكلُّ الأنبياء والرُّسل - عليهم الصلاة والسلام - عانوا الغربة كأشدِّ ما تكون المعاناة، وأُخْرِجوا من ديارهم، وأُوذُوا في سبيل الله أشدَّ الإيذاء؛ ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ﴾ [إبراهيم: 13].

 

﴿ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214].

 

ولكنَّ الرُّسل والأنبياء في نفس الوقت الذي عانَوا فيه من الغُربة والاغتراب، كان لديهم اليقين في نصْر الله وتأييده وعوْنه، وبعد أن تَصِل المعاناة إلى الذِّروة، والغُربة إلى أقصاها، يأتي نصْر الله تعالى؛ ﴿ حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [يوسف: 110].

 

على أنَّ الحديث في القرآن عن الغربة والاغتراب، لا يَقتصر على الأنبياء والرُّسل فقط؛ حتى لا نتصوَّر أنَّ الغربة والاغتراب خاصة من خواصِّهم، أو أمرٌ يتعلَّق بهم دون غيرهم، ولكنَّ القرآن يَضرب لنا أمثلةً من اغتراب البشر من غير الأنبياء، ممَّن كان تمسُّكهم بعقيدتهم السليمة سببًا لغُربتهم في الزمان والمكان، ومن الأمثلة القرآنيَّة على ذلك:

• أصحاب الكهف: ﴿ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ﴾ [الكهف: 14- 15].

 

ثم تكون الهجرة: ﴿ إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا ﴾ [الكهف: 10].

 

ثم ها هم أُولاء بعد أن يَبعثهم الله من نومهم الطويل، تظلُّ حقيقة الغربة قائمةً في أنفسهم: ﴿ وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا * إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا ﴾ [الكهف: 19 - 20].

 

• مؤمنو الأخدود: ﴿ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 8 - 10].

 

• مؤمن آل فرعون: مثلٌ قرآني نجدُ فيه فردًا واحدًا يُواجه فرعون ومَلأَه، ويَستشعر غُربته في وسط أوضاع التسلُّط الفرعوني الباطش؛ ﴿ وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ ﴾ [غافر: 28 - 29].

 

ثم هو يَستشعر غُربته في المجتمع الفرعوني ويُخاطبهم: ﴿ وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [غافر: 41 - 44].

 

هذه بعض الصور القرآنيَّة التي تُبيِّن لنا الغُربة والاغتراب الذي يَعيشه أصحاب الدعوات في كلِّ عصرٍ، فالمسلم إذًا هو أكثر البشر إحساسًا واستشعارًا لحقيقة الغُربة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسمي أصحاب الدعوة الذين يعانون قلَّتهم وغُربة دعوتهم "الغرباء"، ويُبيِّن أنهم هم الذين يصلحون إذا فسَد الناس.

 

وإذا كان الشاعر والأديب المسلم هو وِجدان الدعوة المُعبِّر عن آلامها وآمالها وغُربتها، فما أجدر الأدب الإسلامي والشعر الإسلامي - بصفة خاصة - أن يُعبِّر عن غُربة الدعوة الإسلاميَّة حينما يقف في وجْهها المناوِئُون، ويَعترض سبيلَها المعترضون، وهذا ما فعَله شُعراء عصر النبوة ومَن سارَ على دَرْبهم من الشعراء عبر العصور.

 

تعبير شعراء العهد النبوي عن مفهوم الغربة والاغتراب:

لقد عبَّر شعراء عهد النبوة عن غُربة المسلم الداعي إلى الله في المجتمع الجاهلي في كلمات، وكانت هذه الكلمات بحقٍّ تعبيرًا صادقًا عمَّا يَعتمل بقلوبهم، وتَهدِر به صدورُهم من آمال وآلامٍ، وما يُعانون من وَحْشة وغُربة على قلَّة السالكين وطول الطريق.

 

هذا خُبيب بن عَدِي - رضي الله عنه - عندما أسَره كفار قريش، وأجْمَعوا على أن يَصلبوه، ثم صاروا يُقطِّعون من جسده والدم يَقطر منه وهو ثابت كالطَّود، لا يُزعزعه ذلك ولا يَثنيه عن عقيدته، ولكنَّه يَشكو غُربته، ويرسم صورة لِما يُعانيه كلُّ أصحاب دعوة الحقِّ المُضطهدين؛ يقول خُبيب:

لَقَدْ جَمَعَ الأَحْزَابُ حَوْلِي وَأَجْمَعُوا
قَبَائِلَهُمْ وَاسْتَجْمَعُوا كُلَّ مَجْمَعِ
وَكُلُّهُمُ مُبْدِي الْعَدَاوَةِ جَاهِدٌ
عَلَيَّ لأَنِّي فِي وِثَاقٍ مُضَيَّعِ
وَقَدْ جَمَعُوا أَبَنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ
وقُرِّبْتُ مِنْ جِذْعٍ طَوَيلٍ مُمَنَّعِ
إِلَى اللهِ أَشْكُو غُرْبَتِي ثُمَّ كُرْبَتِي
وَمَا أَرْصَدَ الأَحْزَابُ لِي عِنْدَ مَصْرَعِي
وَوَاللهِ مَا أَرْجُو إِذَا مِتُّ مُسْلِمًا
عَلَى أَيِّ جَنْبٍ كَانَ فِي اللهِ مَصْرَعِي[3]

 

ثم ها هو ذا حسان بن ثابت - رضي الله عنه - شاعرُ الرسول، يَنقل لنا صورة من مشاعره بعد استشهاد خُبيب - رضي الله عنه - بعيدًا عن أهله وموطنه، بين مَجمع الكفر والطاغوت، ثابتًا على عقيدته:

مَا بَالُ عَيْنِكَ لاَ تَرْقَا مَدَامِعُهَا
سَحًّا عَلَى الصَّدْرِ مِثْلَ اللُّؤْلُؤِ الْفَلِقِ
عَلَى خُبَيْبٍ فَتَى الْفِتْيَانِ قَدْ عَلِمُوا
لاَ فَشِلٍ حِينَ تَلْقَاهُ وَلاَ نَزِق ِ
فَاذْهَبْ خُبَيْبُ جَزَاكَ اللهُ طَيِّبَةً
وَجَنَّةَ الْخُلْدِ عِنْدَ الْحُورِ فِي الرُّفُقِ[4]

 

كما أنَّ هناك صُوَرًا للغُربة عبَّر عنها الشعراء في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك غُربة المسلم وهو يُواجه الموت ويَقتحم الصفوف في ميدان الجهاد.

 

هذا جعفر بن أبي طالب يُصوِّر لنا هذا الشعور الجارف في الإقبال على الآخرة؛ فرارًا من سجن الدنيا، وطمعًا فيما عند الله من الثواب والأجْر:

يَا حَبَّذَا الْجَنَّةُ وَاقْتِرَابُهَا
طَيِّبَةً وَبَارِدًا شَرَابُهَا
وَالرُّومُ رُومٌ قَدْ دَنَا عَذَابُهَا
كَافِرَةٌ بَعِيدَةٌ أَنْسَابُهَا

عَلَيَّ إِذْ لاَقَيْتُهَا ضِرَابُهَا[5]

 

وهذا عبدالله بن رَواحة الأنصاري في غزوة مُؤْتة يُقحم نفسه على فرسٍ يَطلب الموت إنهاءً لهذه الغُربة في هذه الدنيا؛ ليعودَ إلى الله وإلى الجنة التي هي الدار الحقيقية للمؤمن:

أَقْسَمْتُ يَا نَفْسُ لَتَنْزِلِنَّهْ
لَتَنْزِلِنَّ أَوْ لَتُكْرَهِنَّهْ
إِنْ أَجْلَبَ النَّاسُ وَشَدُّوا الرَّنَّهْ
مَا لِي أَرَاكِ تَكْرَهِينَ الْجَنَّهْ [6]

 

على أنَّ أعظم غُربة عاشَها المسلمون، هي غُربتهم ووَحْشتهم حين فقَدوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتكالَبت العرب المُرتدة على المسلمين الذين وصَفتهم الروايات بأنهم كانوا كالغنم في الليلة المَطيرة؛ لقلَّتهم، وكثرة عدوِّهم، وإظلام الجو عليهم بفقْد نبيِّهم، وقد رمَتْهم العرب عن قوسٍ واحدة.

 

ويَنقل لنا حسان بن ثابت صورة من مشاعر المسلمين بعد فقْد النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول:

وَرَاحُوا بِحُزْنٍ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيُّهُمْ
وَقَدْ وَهَنَتْ مِنْهُمْ ظُهُورٌ وَأَعْضُدُ
يُبَكُّونَ مَنْ تَبْكِي السَّمَاوَاتُ يَوْمَهُ
وَمَنْ قَدْ بَكَتْهُ الأَرْضُ فَالنَّاسُ أَكْمَدُ
وَهَلْ عَدَلَتْ يَوْمًا رَزَيَّةُ هَالِكٍ
رَزَيَّةَ يَوْمٍ مَاتَ فِيهِ مُحَمَّدُ؟
تَقَطَّعَ فِيهِ مُنْزِلُ الْوَحْي عَنْهُمُ
وَقَدْ كَانَ ذَا نُورٍ يَغُورُ وَيَنْجُدُ
يَدُلُّ عَلَى الرَّحْمَنِ مَنْ يَقْتَدِي بِهِ
وَيُنْقِذُ مِنْ هَوْلِ الْخَزَايَا وَيُرْشِدُ
إِمَامٌ لَهُمْ يَهْدِيهُمُ الْحَقَّ جَاهِدًا
مُعَلِّمُ صِدْقٍ إِنْ يُطِيعُوهُ يَسْعَدُوا
عَفُوٌّ عَنِ الزَّلاَّتِ يَقْبَلُ عُذْرَهُمْ
وَإِنْ يُحْسِنُوا فَاللهُ بِالْخَيْرِ أَجْوَدُ
وَإِنْ نَابَ أَمْرٌ لَمْ يَقُومُوا بِحَمْلِهِ
فَمِنْ عِنْدِهِ تَيْسِيرُ مَا يَتَشَدَّدُ
فَبَيْنَا هُمُ فِي نِعْمَةِ اللهِ بَيْنَهُمْ
دَلِيلٌ بِهِ نَهْجُ الطَّرِيقَةِ يُقْصَدُ
عَزِيزٌ عَلَيْهِ أَنْ يَجُورُوا عَنِ الْهُدَى
حَرِيصٌ عَلَى أَنْ يَسْتَقِيمُوا وَيَهْتَدُوا
عَطُوفٌ عَلَيْهِمْ لاَ يُثَنِّي جَنَاحَهُ
إِلَى كَنَفٍ يَحْنُو عَلَيْهِمْ وَيَمْهَدُ
فَبَيْنَا هُمُ فِي ذَلِكَ النُّورِ إِذْ غَدَا
إِلَى نُورِهِمْ سَهْمٌ مِنَ الْمَوْتِ مُقْصِدُ[7]

 

إنَّ حسان بن ثابت - رضي الله عنه - يَستشعر وَحْشة المكان والزمان بعد فقْد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكيف لا وهؤلاء صحابته؟

 

يقول قائلهم: "ما وارَيْنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الترابَ؛ حتى أنكَرنا قلوبنا"[8].

 

إنها الوَحشة المُفزعة والغُربة القاسية لفقْد النبي - صلى الله عليه وسلم -:

وَأَمْسَتْ بِلاَدُ الْحرْمِ وَحْشًا بِقَاعُهُا
لِغَيْبَةِ مَا كَانَتْ مِنَ الْوَحْي تَعْهَدُ
قِفَارًا سُوَى مَعْمُورَةِ اللَّحْدِ ضَافَهَا
فَقِيدٌ يُبَكِّيهِ بَلاَطٌ وَغَرْقَدُ
وَمَسْجِدُهُ فَالْمُوحِشَاتُ لِفَقْدِهِ
خَلاءٌ لَهُ فِيهِ مَقَامٌ وَمَقْعَدُ
وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى لَهُ ثَمَّ - أَوْحَشَتْ -
دِيَارٌ وَعَرْصَاتٌ وَرَبْعٌ وَمَوْلِدُ
فَبَكِّي رَسُولَ اللهِ يَا عَيْنُ عَبْرَةً
وَلاَ أَعْرِفَنْكِ الدَّهْرَ دَمْعُكِ يَجْمُدُ[9]

 

ثم ها هو ذا حسان يُصوِّر حاله وحال الصحابة بعد فقْده - صلى الله عليه وسلم - فيقول:

مَا بَالُ عَيْنِكَ لاَ تَنَامُ كَأنَّمَا
كُحِلَتْ مَآقِيهَا بِكُحْلِ الأَرْمَدِ
جَزَعًا عَلَى الْمَهْدِيِّ أَصْبَحَ ثَاوِيًا
يَا خَيْرَ مَنْ وَطِئَ الْحَصَى لاَ تَبْعُدِ
وَجْهِي يَقِيكَ التُّرْبَ لَهْفِيَ لَيْتَنِي
غُيِّبْتُ قَبْلَكَ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ
بَأَبِي وَأُمِّي مَنْ شَهِدْتُ وَفَاتَهُ
فِي يَوْمِ الاثْنَيْنِ النَّبِيُّ الْمُهْتَدِي
فَظَلِلْتُ بَعْدَ وَفَاتِهِ مُتَبَلِّدًا
مُتَلَدِّدًا يَا لَيْتَنِي لَمْ أُولَدُ
أَأُقِيمُ بَعْدَكَ بِالْمَدِينَةِ بَيْنَهُمْ
يَا لَيْتَنِي صُبِّحْتُ سُمَّ الأَسْوَدِ
أَوْ حَلَّ أَمْرُ اللهِ فِينَا عَاجِلاً
فِي رَوْحَةٍ مِنْ يَوْمِنَا أَوْ فِي غَدِ
فَتَقُومُ سَاعَتُنَا فَنَلْقَى طَيِّبًا
مَحْضًا ضَرَائِبُهُ كَرِيمَ الْمَحْتِدِ[10]

 

بل إنه ليتمنَّى الموت؛ حتى يَلحق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لِما يحسُّ به من الغربة والوَحشة بعد الفِراق، ويصف حال الأنصار والمهاجرين:

يَا وَيْحَ أَنْصَارِ النَّبِيِّ وَرَهْطِهِ
بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ الْمَلْحَدِ
ضَاقَتْ بِالانْصَارِ الْبِلادُ فَأَصْبَحَتْ
سُودًا وُجُوهُهُمُ كَلَوْنِ الإِثْمِدِ[11]

 

وهكذا عبَّر الشعراء في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن كثيرٍ من معاني الغربة والاغتراب في شعرهم؛ مما يؤكِّد مُعايشتهم لذلك المعنى، وحديثَهم عن هذا المفهوم.



[1] رواه مسلم.

[2] فقه السيرة؛ محمد الغزالي، ص (126).

[3] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (3)، ص (68).

[4] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (3)، ص (68).

[5] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (3)، ص (182).

[6] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (3)، ص (182).

[7] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (4)، ص (389 - 390).

[8] رواه البزَّار عن أبي سعيد.

[9] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (4)، ص (390).

[10] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (4)، ص (391).

[11] السيرة النبوية؛ ابن هشام، ج (4)، ص (391).





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- مقالة رائعة
محمد أحمد - السودان 27-01-2018 09:49 PM

مقال جميل وواف
جزيتم خيرا

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة