• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / دراسات ومقالات نقدية وحوارات أدبية


علامة باركود

قراءة في ديوان: ملحمة التاريخ

د. أمين سليمان الستيتي


تاريخ الإضافة: 2/5/2010 ميلادي - 18/5/1431 هجري

الزيارات: 19626

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

المفهوم الملحمي للأدب

بين الفكر الإسلامي والوثنية

دراسة تطبيقية من خلال ديوان

"ملحمة التاريخ، قيام الدولة الإسلامية وسقوطها"

د. عدنان النحوي


هذا الكتاب في تَصنِيفه يقع بين دواوين الشعر وكتب الدراسات؛ فقد جمع بين دفَّتَيْه دراسات قيِّمة مُوجَزة مُرَكَّزة، عن أُمَّة عبَرَت التاريخ من سَمِّ الخِيَاط، تحمل بين جنبَيْها دينَ الله قرآنًا وسنة ولغة عربية، وترفع راية الجهاد في سبيل الله عاليَة شامِخَة، فتَبِيع مُهَجَ قلوبها في سُوق الشهادة والجِهاد بَيْعًا رابِحًا، فتَصدَّع أمام زحفها جبروتُ الطُّغاة.

 

وحين يُصبِح هَمُّ أبنائها الكسب والثراء، والتنافُس على زائل النِّعَم فيها، وتخبو أضواء الدِّين في قلوب القوم، وتُطَأطِئ رايَة الجهاد هامَتَها، وتَعلُو رايَة التنافُس الداخلي بين الإخوان - تغزوها الأُمَم، وتَتكالَب عليها كما الضِّبَاع على القصعة، وتَكثُر الفِتَن والهرج في كلِّ مكان؛ تَصدِيقًا لما أخبر عنه الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - من علامات القيامة.

 

وقبل أن نشرع قَوارِب القراءة نقف عند لوحة الغِلاف، حيث تَماوُج الألوان وانتقالُها من الإشراق في أسفل اللوحة إلى العتمة في أعلاها، تتوسَّطها دائرة كوكبيَّة التكوين، تلتَهِب بؤرتها لتُضِيء ما حولها، غير أنها تبدو محدودة الانتشار، ولا يُغطِّي وهَجَها أنحاء اللَّوْحَة، بل يَتضاءَل في البُعْدِ عنها حتى يَتلاشَى.

 

ويتربَّع اسم الدكتور عدنان علي رضا النحوي في الزاوية اليُمنَى من رأس اللوحة، بينما يستقرُّ العنوان (ملحمة التاريخ، قيام الدولة الإسلامية وسقوطها) في وسط اللوحة، وكأنما يُعانِق الكوكب وسط اللوحة، وتَكتمِل معلومات النشر الأساس في أسفل اللوحة.

 

وبعد الغلاف يُسجَّل في رأس الصفحة عنوان المرسل إليه (إلى لقاء المؤمنين وبناء الجيل المؤمن)، ويكمل بقيَّة المعلومات الواردة في صفحة الغِلاف بطريقة قريبة، ثم صفحة الترخيص بالطبع، وبعدها تتربَّع البسملة كلوحة منطادية القسمات، تَلِيهَا حقوق الطبع، ثم الدعوة لموقع لقاء المؤمنين على الشبكة العنكبوتية www.alnahwi.com في إطار زخرفي بديع.

 

أمَّا الإهداء، فقد جعَلَه كعادته "إلى كلِّ مسلم ومسلمة يُؤمِن بالله واليوم الآخر، وكلِّ ما جاء به محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لينظر في حالِ الأمَّة المسلمة..."، ويجعل له صفحة مستقلَّة.

 

وكان الافتِتاح بثلاث آيات من القرآن الكريم؛ من سورة آل عمران، ثم سورة الحج، ثم سورة الأنعام، ليضع بعدها كلماته المُضِيئة، والتي يَحرِص أن يجعلها في كلِّ كتبه التي ربَتْ عن المائة والعشرين كتابًا - نسأل الله أن يُبارِك فيها ويجزل لصاحبها الجزاء، ويجعلها في ميزان حسناته.

 

وكلماته المُضِيئة التي تعوَّدنا أن نجدها تاجًا في كتبه، والتي بلغت خمسًا وعشرين كلمة أوَّلها (بناء الإنسان)، وآخرها (المسؤولية والفقه)، ينتَقِل منها إلى المقدمة، والتي زادت عن ستِّ الصفحات، وبيَّن فيها جذور هذه التسمية للكتاب، ويوم بدأ به بعد عوْدته من لندن سالِمًا مُعافًى بفضل الله - سبحانه وتعالى - وأبرَزَ فيها كثرة المصائب التي ألَمَّت بالأُمَّة، وتتاليها في هذا الزمن، حتى لا تكاد تفيق من بَلِيَّة إلاَّ لتجد أشدَّ منها، وتكسَّرت السِّهام على السِّهام، وتضخَّمت الآلام، وكشَّرت الذئاب عن أنيابها، ومع كلِّ ذلك تبقَى الآمَال الإسلامية مُتَمسِّكة بوعْد الله الحق، تعمل كي تحقِّقه وإن ادلَهَمَّت الظلمات.

 

وكي يظهر ما في نفسه تجاه أوضاع الأُمَّة، كلَّما هَمَّ أن يكتب شيئًا عن واقعها يبدأ يقول: "في هذه اللحظات التي تشتدُّ فيها الفواجع..."، "وكأنَّ المآسي والفواجع ممتَدَّة في حياتنا مع كلِّ لحظة؛ لذا لا بُدَّ أن نقف قليلاً مع أنفسنا... ندرس ونتأمَّل عسى أن نعتبر ونستفيد، فنغيِّر ما بأنفسنا، عسى أن تتوقَّف الهزائم ونَذُوق حلاوة النصر والعزَّة"، ص 21.

 

ويُتابِع حديثه عن الملحمة، وأساسها في ذهنه وشعره، ومفهومها المُوجَز عنده، وكيف قسَّم الكتاب إلى (الملحمة بين تَصَوُّرَيْن ثم ملحمة التاريخ ودَوِيُّه نثرًا، وبعدها: ملحمة التاريخ ودَوِيُّه شعرًا).

 

أمَّا حديثه عن الملحمة بين التصوُّر الوثني والتصوُّر الإسلامي، فبدَأَه من (أرسطو) الذي اعتزَّ به الوثنيُّون عبر العصور، وحتى يومنا؛ حيث جعل الشعر ثلاثة أنواع: (المأساة، والملهاة، والملحمة)، وكان إعجابه بالشعر المسرحي الذي يُحاكِي الأحداث البشرية فوق كلِّ شعر، ولم يكن يرى قيمةً للشعر الغنائي؛ لذلك كان (هوميروس) عنده أفضل الشعراء، وانطَلَق من أعماله في كتابه وآرائه كلها، وكان لآرائه أثر واضح على أوربا قديمًا وحديثًا، وعلى الذين تأثَّروا بها في العالم كلِّه، مع أنها في مجموعها آراء اعتمدَتْ على الأدب اليوناني الوثني، وتكاد لا تخرج من دائرته إلا لتعود إلى جاذبيَّتها الوثنيَّة المقدَّسة عند أصحابها، والتي شكَّلت لهم رأس رمحٍ للهجوم على الآداب البشرية، والإسلامية خاصة، ودرعًا يَدَّرعونه أمام حقائق الأدب الحق، أدب المسلمين المُنطَلِق من عقيدتهم وتعالِيم دينهم الحنيف، فهل يمكن لآراء وثنيَّة أن تقف أمامَ عقيدة إلهيَّة مُحكَمة، تكفَّل الله بحفْظِها وثباتها؟!

 

وفي حديثه عن نشوء (الأسطورة EPIC) قال: إنها نشأت "من تصوُّرات مبكِّرة لأُناسٍ وهميِّين"، تصف تجاربهم الخارقة مع الطبيعة، واعتمدَتْ على التصوُّر الأسطوري للآلِهة وأنصاف الآلهة، والأبطال الخرافيِّين، وبالتالي هي خرافات لا يكاد العقل يَقبَلها، أو يُصَدِّق حدوثها، حتى أصحابها اليوم يَعرِفون أنها خُرافَات (كاذبة) لا عَلاقَة لها بالواقع، ولا تحمل أخلاقًا حَمِيدة، بل على العكس، تبثُّ سموم القتل والانتِقام والثأر والعدوان، وقد مَثَّلت (الإلياذة والأوديسا) هذه المبادئ أيَّما تمثيل.

 

ولم تكن الأساطير الهندية الوثنيَّة بعِيدَة عن ذلك، بل هي في صَمِيمه، وتجري على نسقه، وكذلك الأساطير التي صبغت مَلاحِم للرومان (الإنياذة)؛ لفيرجيل، و (الفردوس المفقود)؛ للشاعر الإنجليزي ميلتون، وصارَتْ تُطلَق على أعمالٍ لا تنطبِق عليها قواعد أرسطو، بل انطلَقَتْ إلى الهزليَّة والنقد، مثل قصيدة (بوب) التي بعنوان (خطف خصلة من الشعر) (Rape Of The Lock)، واستمرَّ الخروج على قواعد أرسطو حتى صارَتْ كلمة (الملحمة) تُطلَق على كلِّ عملٍ فيه تميُّز وإبداع، بغَضِّ النظر عن طول القصيدة، أو عدد أبياتها.

 

وبقي دُعَاة التغريب في مجتمعنا العربي يصرُّون على إثبات التِزامهم بالوثنية التي تَخَلَّى عنها أحفاد أهلها، مع أنهم يَرفُضون الماضي كلَّه إلا هذه الخرافات المقدسة عندهم.

 

ويُؤكِّد في هذا المجال أن "نقطة اللِّقاء في جميع ما ظهر في الغرب واليونان والرومان والهند من ملاحم مثل ملحمة (جلجامش) - ومهما كان من التطوُّر - هي روح الوثنية البارزة، التي أخذَتْ في عصرنا الحديث مصطلحًا جديدًا (العلمانية)"، ص 32، فكيف يمكن تطبيق التراث الوثني في إبداع المجتمع الإسلامي؟ والبُعْدُ بينهما ظاهِر بَيِّنٌ؛ لأنه المسافَة ما بين الكفر والإيمان، وما بين الدين السماوي والوثنية الجاهلة، ألاَ يَكفِي أن أساطيرهم تعتَمِد على الخيال الذي لا علاقَة له بالواقع ولا الحقيقة سوى بالمُسَمَّيات، وكلُّ ما فيها بُنِي على الأكاذيب، والتصوُّرات الخارِقة، التي تَصَوَّر مُنتِجوها أنها فوق طاقة البشر وقدراتهم، فنَسَبُوها إلى الآلهة، أو أنصاف الآلهة.

 

ومن وجهة نظر الأدب الملتزِم بالإسلام يرى د. عدنان النحوي أن الملحمة تمتازُ عن القصيدة الشعرية بخمس نقاط هي:

♦ الحجم: ولم يحدِّد عددًا لأقلِّها ولا لأكثرها.

♦ الموضوع: ورَأَى ضرورة أن يكون في بعض الملاحم (المعارك).

♦ الزمن: وهنا لا بُدَّ أن يكون محدودًا، وكأنَّه يَقصِد التركيز على واقعة بعينها.

♦ أجزاء الملحمة، والترابُط بينها، والتسلسُل المنطقي بينها.

♦ الهدف الذي يَسعى المبدِع إليه من ملحمَتِه، فليس من سِمَات المسلِم الملتزِم البحثُ عن اللذَّة المجرَّدة، إنه ينتمي إلى أمَّة تحمِل رسالة الله، وأمانة العهد، وواجب العبادة، ومسؤولية العمارة.

 

وهو بهذه العناصر يُوفِّر قاعدة للملحمة في الأدب الإسلامي، يجعل من تاريخ الأمَّة ما يُبرِز وحدتها، ويحفَظ للإنسان بذور الخير، ومَوارِد العزَّة والحقِّ، ويجعل التمايُز بيِّنًا بين الملحمة في الأدب الإسلامي و(الأسطورة EPIC) عند الوثنيِّين اليونان ومَن يُقدِّسهم عبر العصور.

 

ويَتساءَل د. عدنان النحوي عن معنى (الملحمة)، وتعريفها، والأساس الذي يَنهَض عليه التعريف، ويُطالِب أن تكون المصطلحات في هذا المجال ذات دلالة واضحة، تُميِّز بين ما يُمكِن أن نسمِّيه ملحمة، وما لا يمكن.

 

أمَّا تفنيده للترجمة الخاطئة لكلمة (EPIC) والتي جعلَتْ ظلالها تضغَط على بعض الذين تمسَّكوا بها، مع ما فيها من طبيعة اللغة اليونانية، وتاريخ اليونان ووثنيَّة اليونان، ومعناها عندهم: القصة الشعرية الطويلة، بأسلوب أدبيٍّ عالٍ، تَدُور أحداثها الخُرافيَّة حول شخصيَّة خياليَّة أو حقيقيَّة ترفعها إلى مستوى المعجِزات والوَهْمِ، لتدخل الآلهة وتُمارِس مُمارَسات الإنسان؛ فتعشَق وتكره وتُحارِب، وقد نما هذا الاتِّجاه الفني في اليونان، وسَيْطر على المفكِّرين والأدباء والفلاسفة، وقد حملت ملاحمهم خصائص واضحة، منها:

♦ أنها قصَّة شعرية.

♦ تعتمِد الوثنية اليونانية في عرض بطولات شخصياتها.

♦ تُشارِك الآلهة في أحداثها.

 

بينما اللغة العربية التي رفعَهَا الإسلام وحافَظ على ديمومتها واستمرارِها جعلت للملحمة معنًى آخر يَدُور حول: الوقعة العظيمة في الفتنة، والحرب ذات القتل الشديد، وقد أوْرَد شواهد مثل قولهم: (نبي الملحمة)، و(اليوم يوم الملحمة)، و(الملحمة الكبرى وفتح القسطنطينية وخروج الدجال...)، وهو يَربِط معناها بالنبوَّة المشرَّفة، والتوحيد ورسالته، وهو ارتِباط بالأمَّة ولغتها، وليس هناك أيَّة علاقة بين هذا المعنى وبين الشعر العربي عبر التاريخ، مع ما تحدَّث عنه التاريخيون من مَلاحِم حقيقيَّة عاشَتْها الأمَّة، لا علاقَة لها بالخرافة، بل كلها عين الحقيقة الصادقة، التي لا تبرح الواقع.

 

أمَّا كلمة (Epic) فارتِباطها بالخرافة والأكاذيب والوَهْم والوثنيَّة اليونانيَّة عبر التاريخ لم ينقطِع، حتى في أزمنة التنوير التي يدَّعونها.

 

ويَشترِط د. عدنان النحوي للملحمة في الأدب الإسلامي:

♦ تطهير كلمة الملحمة العربية من أوْهام الوثنية وشروطهم الفنيَّة.

♦ انبِثاق تصوُّر الملحمة الشعرية من طبيعة لغتنا وشعرنا وتاريخنا، ومن حقائق الإسلام.

♦ أخْذ الموضوعات الملحمية من تاريخ الإسلام الحديث والقديم.

♦ قيامها على الصدق والواقع.

 

فإذا توفَّرت هذه الشروط، بعيدًا عن التصوُّر الوثني، وتزيَّن النص بفنيَّات الأدب الشعري؛ من وعي الشعراء للمصطَلحات ودلالاتها في العربية، وقصْدهم إلى أعمالهم - يصبح للملحمة تصوُّر واضح في الأدب الملتزِم بالإسلام، ويربِط بين المفهوم الذي يحمله هذا الكتاب والمعنى الذي طرَحَه سابِقًا في كتاب "الأدب الإسلامي إنسانيته وعالميته"، على أن يتجنَّب النقَّاد الوقوف عند قضيَّة الطُّول، دون ملاحظة الشروط الفنية، مع أنه اقتَرَح أن يكون الحدُّ الأدنى ثمانين بيتًا، وكأنَّه انطَلَق من المعلقات التي اعتبَرَها العرب خير أشعارهم في الجاهلية، وعبر العصور.

 

فإذا كانت الملحمة بمعانيها المعجميَّة والشرعيَّة لم تتوقَّف على أرض المسلمين وستستمرُّ، فسواء أقدَّم الشعراء مَلاحِمَهم الشعرية أم لم يقدِّموا شيئًا، فعليهم وعلى أهل الفكر كلِّهم أن يلحقوا بهذه المعاني، وليشعروا بالعزَّة الصادقة، وليرتفعوا إلى مستواها الحق.

 

وفي مُقارَنة مُوجَزة ملخَّصة يُركِّزها الدكتور عدنان النحوي في نِقاط ثلاث، بين الملحمة اليونانية الوثنية والملحمة الإسلامية، جاء فيها:

♦ الملحمة في ديننا ولغتنا مرتبِطة بالنبوَّة والأحاديث الشريفة، أمَّا (Epic) فهي مُرتبِطة بالوثنية والكفر.

♦ الملحمة الإسلامية مرتبِطة بالقتال والالتِحام، والجهاد في سبيل الله، و(Epic) مرتبِطة بخرافات العشق وأساطير الغرام بين الآلهة والشخصيَّات.

♦ الملحمة الإسلامية مُرتبِطة بالصدق والواقع، أمَّا (Epic) فمُرتبِطة بالوهْم والظنِّ وفساد الخيال.

♦ والملحمة الإسلامية مُرتبِطة بالخير والصلاح، ومُحارَبة الفساد والجريمة في الأرض، و(Epic) تدعو إلى ذلك كله.

 

ويَتساءَل بدهْشة واضِحة: فأين العلاقة بين هذه وتلك؟ ص45، وأكَّد بعدها أن الملحمة لدى الشعوب القديمة أساطير وخرافات، ومنها في الهند (رامايانا، ومهابارتا، وجلجامش)، وعند اليونان (الإلياذة والأوديسا)؛ لهوميروس، وعند الرومان (الإنياذة) ثم (الفردوس المفقود)؛ للشاعر الإنجليزي ميلتون، وغيرها، وأوْرَد بعض الذين كتبوا مَلاحِم من المسلمين مُتَأثِّرين بذلك، ولكنهم لم يتنكَّروا لجذورهم وأدبهم، كأحمد محرم وعمر أبو ريشة، وملحمة (بدر)؛ للدكتور أحمد الخاني الحموي.

 

ويُلخِّص بالنقاط ما قاله عن الملحمة، ليُرَكِّز بعدها على الهدف في الملحمة الإسلامية، وأهميَّته للشاعر وللدارِسين والمتلقِّين، ثم يتحدَّث في قضيَّة طول الملحمة، وما يتَّصل به من الوزن والقافِيَة، وأن ذلك من دعائم الخلاف بين الدارِسِين، وذكَر عددًا من الملاحِم التي نظَمَها مثل: (ملحمة الإسلام في الهند، ملحمة الغُرَباء، ملحمة الجهاد الأفغاني، ملحمة القسطنطينية، ملحمة فلسطين، ملحمة الأقصى، ملحمة التاريخ، ملحمة البوسنة والهرسك، ملحمة أرض الرسالات، ملحمة الطوفان (تسونامي) ملحمة بين سجن أبي غريب ورفح، ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين، ملحمة أفغانستان، لهفي على بغداد)، وقد جعل الملحمة نثرًا، ثم شعرًا.

 

ويَختِم هذا الجزء بثِقته ويقِينه "بأنَّ هذا الطرح الجديد سيَفرِض نفسه مع نموِّ الوعي الإيماني في الأمَّة، كيف لا وهو يحمل النيَّة الخالصة لله، والحجَّة والبيِّنة من اللغة والكتاب والسنَّة والواقع، وهو يحمل النظرية والتطبيق؟!"، ص 56، وهذه من أهمِّ الركائز التي يَعتَمِدها مُؤسِّسو المدارس الفكرية عبر العصور، ولعلَّ تركيزها في ذهن الدكتور عدنان هذا منبته.

 

ويضع تخطيط القسم الثاني من هذا الكتاب في الصفحة السابعة والخمسين، حيث جعَلَه في ثلاثة أبواب:

الأول: نكبات وفواجع في تاريخ الأمَّة المسلمة: بغداد، الهند، الأندلس، أفغانستان.

الثاني: قيام الدولة العثمانية والخلافة الإسلامية وانهيارها.

الثالث: أحداث وفَواجِع مُمتدَّة ودروس وعِبَر في ملحمة التاريخ.

 

ويلتَزِم الدكتور عدنان النحوي هذا التقسيم؛ حيث جاء الباب الأوَّل: نكبات وفواجع في تاريخ الأمَّة المسلمة في فصول خمسة، يرتَبِط كلٌّ منها بالآخَر إمَّا منطقيًّا أو تاريخيًّا، أو وَفْقَ التسلسل الذي يُناسِبه، فكانت:

الأول: مُنطَلَق الملحمة وامتدادها.

الثاني: نكبات بغداد ومَآسِيها، وانهِيار الخلافة فيها.

الثالث: الهند بلد السحر والجمال، وقِيام دولة الإسلام وانهيارها.

الرابع: فاجِعَة الأندلس: قيام الخلافة فيها وانهيارها.

الخامس: أفغانستان: دخول الإسلام وجهاده الممتدُّ، وانهيار دولة الإسلام.

 

وقد سجَّل في الفصل الأول أن ملحمة التاريخ قد ابتدأَتْ مع بعثة النبوَّة الخاتمة "حين بعث الله محمَّدًا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - خاتم الأنبياء والمرسلين، في مَسِيرة عظيمة تظلُّ النموذج الأعلى في تاريخ البشرية كلها إلى أن تقوم الساعة، نموذجًا يُحتَذَى في الدعوة والبلاغ والتعهُّد، وفي التربية والبناء، وفي السياسة والاقتصاد وفي الإدارة، وفي التعامُل مع جميع الأجناس والمُعتَقَدات والمذاهب، في السلم والحرب، وفي كلِّ أمور الإنسان والمجتمعات، وفي جميع ميادين الحياة"، ص61.

 

وأكَّد أنَّ هذه المسيرة هي أعظم مَلاحِم التاريخ وأجلُّها؛ فهي رسالة الأمَّة التي ورثت رسالات الأُمَم السابقة الداعِيَة إلى الله - سبحانه وتعالى - ودعم حديثه بعددٍ من الآيات القرآنية الكريمة من سورة النحل، والنساء، والأنبياء، والمؤمنون، والأحزاب، وآل عمران، والنور، ومحمد.

 

والنتيجة التي أكَّدها ووصلها إلينا هي: "أنه كلَّما حمل المؤمنون دعوة الله ورسالته ودينه، يبلِّغونها للناس كافَّة كما أُنزِلت على محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ويتعهَّدونهم عليها إيمانًا وعلمًا وبناءً - نصَرَهم الله وأعَزَّهم وأقام دولتهم"، ص64.

 

وخَتَم هذا الفصل بالتأكِيد على النِّقاط التي لا بُدَّ من توفُّرها حتى يتحقَّق النصر:

أولاً: أن يكون المسلمون أمَّة واحدة غير مُفرَّقة ولا مُمزَّقة.

ثانيًا: أن يكون التزامها بمنهاج الله التزامًا وَثِيقًا، فالله هو الرقيب.

ثالثًا: أن يكون لها نهج تَلتَزِمه مع مِنهاج الله في الواقع البشري، نهج نابِع من الكتاب والسنَّة ومدرسة النبوَّة الخاتمة"، ص65.

 

وأَفْرَد الفصل الثاني لبغداد منذ نشأتها إلى نكباتها ونهايَة الخلافة الإسلامية فيها، فبدأ يَتَخيَّل أبا جعفر المنصور وشجاعته، والبغداديين ومدينتهم المدورة، التي صارَتْ عاصمة العالم، وأبوابها الرئيسة والفرعية، وكيف تَوافَد إليها طُلاَّب العلم والمال والعمل، وبيَّن اهتمام الدولة بكلِّ جوانب الحضارة؛ من زراعة وتجارة وصناعة ومِهَن طبيَّة، وكان أبهى سنواتها زمن هارون الرشيد، فقد ازدهرَتْ كلُّ جوانب الحضارة، وذكر الدكتور عدنان النحوي كتابَ ابن الشعار الموسوعي "عقود الجُمان في شعراء هذا الزَّمان" الذي يقع في عِدَّة مجلَّدات ضخمة، فُقِد أحدها، وما بقي منها فهو في مكتبة السليمانية في مدينة اسطنبول، ص72.

 

"وتتابَع التطوُّر الحضاري في بغداد مع مرور السنين، فازدانَتْ بغداد بالمعالم العمرانية التاريخية الكثيرة، الدينية والدنيوية، ومنها: جامع المنصور، وجامع الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان، ومرقد الإمام أحمد بن حنبل في باب حرب، والمرقد الكاظمي، والحضرة القادرية، ومرقد الشيخ السُّهْرَوَرْدِيِّ، وكنيسة اللاتين، وكنيسة الأرمن الأرثوذكس، وكنيسة الكلدان، وكنيسة السريان المستنصرية، والقصر العباسي، والمدرسة المرجانية، التي تُعرَف حاليًّا باسم جامع مرجان، ومنها: خان مرجان، وسور بغداد الشرقي وأبوابه: باب المعظم، وباب الظفرية الوسطاني، وباب الحلبة، وباب البصلية، ص73.

 

ثم وصل لرواية النكبات التي حلَّت ببغداد، وافتتَحَها بنكبة قوَّات هولاكو سنة 656هـ، والدَّور الذي قام به ابن العلقمي في التعاوُن مع الغُزَاة، وإعدام علماء المسلمين ووجهائهم وعامَّتهم، وإلقاء الكتب المخطوطة في مياه دجلة، وقد ذاق أبناء المسلمين في بغداد كلَّ أنواع الذلِّ على أيدي الغُزَاة.

 

واستمرَّت حملات اجتِيَاح بغداد بعد هولاكو؛ حيث جاء تيمورلنك وقتل من أهلها عشرات الآلاف، بل أمَرَ بإبادة سكَّانها وهدْم وتدمير منازلها، ثم أعاد الناسُ بناء المدينة مرَّة أخرى، وجاء (قره يوسف) واحتلَّها وقتل الكثير من سُكَّانها، وما كادت تلتقط أنفاسها حتى اجتاحَها عَنْوَةً (شاه جهان) وقتَلَ كلَّ الرجال فيها واستباحَهَا، وظلَّت قوَّاته فيها حتى حرَّرها التركمان، وهم المعروفون بالخروف الأبيض، ولَمَّا اجتاحها إسماعيل الصفوي كان اجتياحه لها هو التاسع، إلى أن حرَّرها منه الخليفة العثماني (سليم الأول)، لكن ما لبث الصفويون أن اجتاحُوها، وعَيَّنوا مَن ساعدهم وغدَر بأخيه خليفةً عليها وسموه (سلطان علي ذو الفقار كش) بعد السقوط الحادي عشر لبغداد.

 

واستمرَّ السِّجَال بين العثمانيين والصفويين على بغداد حتى ثبتها السلطان مراد لدولته العثمانية، إلى أن احتَلَّها الإنجليز سنة 1917م، وسلَّموها للحكم الهاشمي، الذي بدأ بفيصل الأول، وانتَهَى بمجزرة قصر الرحاب سنة 1958م.

 

والنتيجة التي يُثبِتها الدكتور عدنان النحوي بعد هذا الاستِعراض السّرِيع لنكبات بغداد أن سنَّة الله - سبحانه وتعالى - ماضِيَة في أحداث الحياة كلها، وكلَّما مرَّت الأيَّام كان الخليفة يزداد ضعفًا، والدولة تزداد ضعفًا حتى حقَّت عليها كلمة الله، وتَمضِي أحداث وتأتي أحداث لتُمثِّل مع سائر ميادين الصراع ملحمة واحدة: ملحمة التاريخ ودَوِيُّه، ص 76.

 

وجاءت حكايات الهند - بلد السحر والجمال - في الفصل الثالث، وقيام دولة الإسلام فيها وانهيارها، وجعَلَ حديثَه عنها في أربعة عناوين:

♦ بلد السحر والمال وتتابع الشعوب عليها.

♦ أوَّل دخول الإسلام إلى الهند.

♦ الدول الإسلامية التي قامت في الهند:

(الدولة الإسلامية الأولى - الدولة الغزنوية - الدولة الغورية - عهد المماليك - طلائع المغول - عهد السادات).

♦ دولة المغول المسلمة في الهند.

 

ثم العدوان البريطاني على الهند، ومقاومته، وانهيار الحكم الإسلامي.

 

وينقل الدكتور عدنان النحوي العنوان الأوَّل من كتابه عن الهند (ملحمة الإسلام في الهند) مختصِرًا الحديث عن طبيعتها وتضاريسها وشعوبها المتنوِّعة: الهاريانيون، والآريون، والعرب، والمغول، والترك، واليونان، والدرافيديون، وغيرهم، وتعدُّد اللغات واللهجات والديانات التي أهمُّها الإسلام، ثم الصابئة، والهندوكية بمذاهبها: البوذية، والسيخية، والجينية، ثم النصرانية، واليهودية، وديانات أخرى كثيرة، ويُؤَكِّد أن دين الفطرة يبقى هو الإسلام، فهو الأصل الذي بعث الله - سبحانه وتعالى - به جميع الأنبياء، بينما الدين الآخر إنما هو تحريف وانحِراف، وهذا ما يُبرِّر كثرة الانحِرافات وتسمياتها التي لا تكاد تُحصَى.

 

والإسلام هو الدِّين الذي أعطى الهند أجمل صفاتها التاريخية، وأغنَى العطاء والعلوم، وحوَّل أساطِيرَها إلى حقائق صادقة، ومَلاحِم غنية، أمنًا وعدلاً، وعلمًا وفضلاً، ومجدًا وسؤددًا...

 

"وستظلُّ غرسة الإسلام - غرسة الإيمان والتوحيد - ماضِيَة مع الدهر، في تبليغ رسالة الله، يَتصدَّى لها المُفسِدون في الأرض والمُجرِمون، فتَمضِي رسالة الله خِلال ذلك في ملاحمها الغنية"، ص80.

 

وتحت عنوان (أوَّل دخول الإسلام إلى الهند) يُؤكِّد الدكتور عدنان النحوي أن الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - أَرسَل رُسُلَه إلى مُلوك الأرض - ومنها الهند - وأن كلَّ مسلم آنذاك كان يشعر أنه مُكلَّف بدراسة الإسلام والدعوة إليه مع إتقان لغة العرب، لغة القرآن الكريم والسنَّة المشرَّفة، وكان للهند في قلوبهم مكانة خاصَّة صنعَتْها كلمات الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إذ يقول عن ثوبان - رضِي الله عنه -: ((عِصابتان من أمَّتي أحرزهما الله من النار: عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم - عليه السلام))؛ أخرجه أحمد والنسائي، وفي "صحيح الجامع الصغير، وزيادته"؛ للألباني (رقم 4012) ص 84.

 

وذكر في حديثه عن الدولة الإسلامية الأولى في الهند، والتابِعة للخلافة، بعد أن تَوَجَّه محمد بن القاسم بجيوش الإسلام، ومعه جمعٌ من المؤمنين الذين يحملون الدِّين في قلوبهم ومُمارَساتهم، فنشروا الإسلام وأقاموا الدولة في الهند، تابعة للخلافة الإسلامية.

 

ويَعجَب الدارس لهذا الكتاب كيف لم يأتِ المؤلِّف على ذكر (قتيبة بن مسلم الباهلي) مع ما كان له من أثرٍ في الفتوحات الإسلامية في الهند، وما كان لأحفاده من بعده من أثرٍ في نشر الإسلام في أواسط آسيا، بل وصل بعضهم إلى عُمْقِ البلاد الروسيَّة، وتجاوَز بحر الخزر، إلى أرض (بشكيريا) القريبة من موسكو، ولعلَّ الدكتور يَعُود للمراجع التاريخية ويُثبِت لمثْل هؤلاء النفر من المؤمنين دَوْرَهم التاريخي في ملحمة التاريخ الإسلامي في تلك الأرجاء، فقد أقاموا هناك دولةَ الإسلام، وثبَّتوا عقيدته السمحة، وما زال نسلهم وأتباعهم هناك شاهِدين على الفاتِحين الذين بذَلُوا أنفسهم في سبيل الله، ونشْر دينه، وتطبيق شريعته.

 

ومن الدُّوَل الإسلامية التي تحدَّث عنها الدكتور النحوي في الهند: الدولة الغزنوية (392/ 582 هـ - 1001ـ، 1186م) والتي أقامَهَا السلطان محمود الغزنوي، والدولة الغورية (582هـ - 602هـ) (1206م- 1412م)، ثم عهد المماليك (602هـ- 815هـ) (1206م- 1412م)، حيث بدَأَتْ طلائع المغُول تُغِير على العالم الإسلامي زمن السلطان محمود بن فيروز شاه، وهو آخِر سلاطين المماليك، ص 86.

 

أمَّا المغول فقد رأى الدكتور في غزوهم لبلاد المسلمين وتدميرهم كلَّ معالم الحضارة في عاصمتهم، والمَجازِر التي لم تُسبَق، وحلَّت حيث حلَّت جيوشهم، رآها آيَةً من آيات الله - سبحانه وتعالى - وكأنَّها عِقاب لما وقعوا فيه من ضعْف وفِتَن وتمزُّق وانحِراف، وكانوا آيَةً أخرى حين اعتَنَقَ الغُزَاة الإسلام وصاروا من دُعاته!

 

وعن عهد السادات الذي حدَّده بين سنتي (817هـ/ 855هـ) (1414م/ 1451م) أثبت أنه بدأ بعد وفاة آخر ملوك المماليك، حيث قام (خضر خان) حاكم لاهور بحكم البلاد واستمرَّ حكم أسرته (37) سنة مَلِيئة بالفتن والاضطرابات، وظهر بعد ذلك أُسَرٌ حكمت الهند فترات متتالية، منها:

أسرة لودي: (855 هـ- 932هـ) (1451م- 1531م).

الدولة الإسلامية في الكجرات: (810هـ- 965هـ) (1407م - 1572م).

سلاطين مالوا: (839هـ- 937هـ) (1436م- 1527م).

مملكة الدكن البهمنية: (748هـ- 934هـ) (1347م- 1527م).

مَمالك أخرى قامت في البنكال وفي جونيور.

 

وتقسَّمت الهند دُوَيْلات لم يجمعها إلا دولة المغول الإسلامية، التي انتهَتْ باحتِلال الإنجليز للهند، ونفي آخِر ملوكهم (بهادر شاه ظفر) إلى رانجون في بورما سنة 1274هـ/ 1858م، ص90.

 

وحين احتَلَّ الإنجليزُ الهندَ، وحوَّلوا شركة التجارة الهندية إلى جيش، وارتكبوا المَجازِر التي فاقَتْ مَجازِر المغول والتتار، لم يأخُذْهم في ذلك إلاًّ ولا ذِمَّة - هَبَّ المسلمون لمقاوَمَتِهم، واستشهدَ من عامَّتِهم وخاصَّتِهم وعُلَمائِهم الكثيرُ، وانتَشرَت الثورة في بلاد الهند كلها، ونادَى الناس ببهادر ملكًا على الهند كلها، لكن الإنجليز أخمَدُوا لَهِيب الثورة بمَجازِر لم يعهد لها التاريخُ مثيلاً، وامتَلأَت الشوارع بالجُثَث التي تنهَشُها الوحوش، وتَحُوم حولها النسور، فهذه حضارة الغرب التي عرَفَها المسلمون في الأندلس والهند والحروب الصليبية، وفي لبنان وفلسطين، والشيشان والبوسنة والهرسك، والفلبِّين، وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا، وأفغانستان والعراق، و... ص93.

 

وأمَّا الفصل الرابع فكان (فاجعة الأندلس، وقيام الخلافة فيه وانهيارها)، وجعَلَه الدكتور عدنان النحوي في تسعة عناوين:

♦ عهد فتح الأندلس وعهد الوُلاَة.

♦ عهد الدولة الأموية.

♦ الخلافة في عهد عبدالرحمن الثالث.

♦ عهد العامريين.

♦ عهد ملوك الطوائف.

♦ دولة المُرابِطين.

♦ دولة الموحدين.

♦ دولة بني الأحمر.

 

سقوط الأندلس كلها بيد النصارى، وطرْد أبي عبدالله من غرناطة، وطرْد المسلمين منها، ثم طرْد الذين تنصَّروا.

 

ويُبَيِّن أن العِزَّة التي دخل بها المسلمون الأندلس يَحمِلون رسالة الإسلام وينشُرونها، استمرَّت معهم حتى بدَأَت الدنيا تَملأُ قلوب خاصَّتِهم وعامَّتِهم، فبدَّل الله عِزَّتهم وقوَّتهم ضعفًا ووهنًا، ونزلت بهم مِحَن عظيمة بما كسبت أيدي الناس، فصَرَخُوا وطلَبُوا العَوْنَ من أعدائهم حينًا، ومن بعض المسلمين حينًا آخر.

 

(ولم تنتَهِ المحنة بسقوط غرناطة سنة 898هـ/ 1492م، وإنما كان سقوطها بداية عهد من الاضطهاد والقتل والحرق، والتعذيب الذي لا يُوصَف، وأنشأ ملوك الإفرنج مَحاكِم التفتيش لِمَحْوِ أيِّ أثرٍ للإسلام، وأُحرِقت أهمُّ كتب المسلمين، وأُبِيدت روائع الفكر الإسلامي وعبقريَّاته، وامتدَّت التصفِيَة إلى طرْد المسلمين الذين تنصَّروا من الأندلس طردًا عامًّا سنة 1609م)، ص101.

 

ولعلَّ أهمَّ ما يَختِم به الدكتور النحوي هذا العنوان قوله: "ولولا أن الإسلام هو الذي يترك أثره الذي لا يزول، وعبقه الذي يملأ الدنيا، لما بقي للمسلمين اليوم من أثر في الأندلس..."، ص101.

 

وفي الفصل الخامس تحدَّث عن أفغانستان ودخول الإسلام إليها، وجهاده الممتدِّ، وانهِيار دولة الإسلام، وجعَلَ الحديث في خمسة مَحاوِر:

♦ الموقع والسكَّان.

♦ شعوب أفغانستان.

♦ أهم القُوَى التي حكمت أفغانستان.

♦ الفتح الإسلامي.

♦ موجز لتاريخ أفغانستان وصراعها الممتدِّ.

 

يَخلُص في نهاية حديثة عن الغزو الذي لا يَكاد يحطُّ عصاه عن أفغانستان عبر التاريخ، إلى عِبَرٍ ودُروسٍ على المسلمين أن يَعُوها، ولعلَّ أهمَّها: "أن الله يَنصُر عباده المؤمنين ما استمسَكُوا بحبلِ الله وصدَقوا الله في نِيَّاتهم وعملهم، ونهجهم وأهدافهم، عن إيمان صافٍ، وعلمٍ بمنهاج الله صادق، ونهج جليٍّ وأهداف مُحَدَّدة، تَدُور كلُّها حول تبليغ رسالة الله إلى الناس كافَّة، كما أُنزِلت على محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وتعهُّدهم لها، لتمتدَّ في تاريخ الإسلام ملحمة واحدة"، ص116.

 

أَمَّا حديثُه عن الدولة العثمانية والخِلافة الإسلامية وانهيارها، فقد جعله في سبعة فصول:

♦ موجز نشأة الخلافة العثمانية: نموُّها وامتدادها وانهيارها.

♦ الخلافة والمُؤامَرات الخارجية عليها.

♦ الخليفة عبدالحميد الثاني.

♦ الخلافة والمشكلات الداخلية.

♦ حكم الاتِّحاديين ومصيرهم.

♦ محمد السادس وحيد الدين.

♦ عبدالمجيد الثاني وإنهاء الخلافة الإسلامية.

 

وسجَّل بعض التفصيلات لملحمة التاريخ منذ نشأة الدولة العثمانية وحتى نهايتها، ليَخلُص إلى النتيجة الحتميَّة، والتي رآها عبر قراءاته وتجارِبه، وثقافته الإسلامية الأَصِيلة التي لا تتغيَّر؛ لأنها إلهيَّة المنشأ والتكوِين، فهي سنَّة الله، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً، فقد هُزِمت تركيا في مواقع كثيرة، واحتلَّ الحُلَفاء بلاد الشام والعراق وغيرها، وتَقاسَم الكفارُ بلادَ المسلمين، فكانَتْ غَنِيمة سَمِينة، فقد قَطَّعوا البلاد العربية تقطيعًا، ومَزَّقوا العالم الإسلامي تَمزِيقًا، وظلَّ المسلمون في ضعف ووهن، لا يخرج منه... والثقة بالله كبيرة، وما زال في الأمَّة نبْض الإسلام، وخفق الإيمان، وبُشرَيات المستقبل، وملحمة التاريخ... ص 154.

 

أمَّا الباب الثالث، فقد جعَلَه الدكتور عدنان النحوي لأحداث وفواجع مُمتَدَّة ودروس وعِبَر في ملحمة التاريخ، في فصلين:

♦ أحداث وفواجع مُمتَدَّة مع سقوط الخلافة الإسلامية.

♦ دروس وعِبَر مُمتَدَّة في ملحمة التاريخ.

 

ليَخلُص إلى نتيجته الناصِعة وهي: أن التاريخ البشري صِراعٌ بين الإيمان والكفر، والمعركة مستمِرَّة منذ بُعِثَ محمدٌ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وستبقى إلى أن يرث الله الأرض ومَن عليها، وليس للمسلمين سبيلٌ سوى الصراط المستقيم الذي اختَطَّه الله لهم، "وكلما تفرَّقت كلمة المسلمين أنزَلَ الله بهم العذاب والهَوان، عسى أن يَتذكَّروا فيتوبوا، ولكن الواقع اليوم يكشف أن التمزُّقَ ماضٍ، وأن البُعْدَ عن الصراط المستقيم واضح، وأن الهوان بين المسلمين بلغ ذروة من ذرواته!

 

ملحمة التاريخ مُمتَدَّة ودويُّها عالٍ والنُّذُر شديدة، وعسى الله أن يُنزِل رحمته، ويمدَّنا بعونه ومَدَدٍ من لدنه..."، ص163.

 

ثم تحدَّث في الفصل الثاني عن "دروس وعبر مُمتَدَّة في ملحمة التاريخ، سنن لله ماضية، قضاء نافذ، وقدَر غالب، وحكمة لله بالغة، وحسابٌ حق يوم القيامة"، وأهمُّ ما يُبرِزه الدكتور عدنان النحوي أنَّ الله - سبحانه وتعالى - خلَقَ عباده ليُوفُوا بمهمَّة عظيمة "أمانة وعبادة وخلافة في الأرض، وعمارة لها في الحياة الدنيا"، ثم بعث في كلِّ أمَّة رسولاً يُذَكِّرهم بهذه المهمَّة، حتى جاء محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فأقام مدرسة جامعة، تَبنِي الإنسان في أجيال مؤمنة، تحمِل رسالة الله إلى خلقه على مرِّ العصور لعمارة الأرض، ولتكون كلمة الله هي العُليَا"، ص 165.

 

ولعلَّ أهمَّ العِلَل التي يراها سببًا في سقوط الدُّوَل وانهيارها "العصبيَّات الجاهليَّة، والانغِماس في اللهو والشهوات، واتِّباع الأهواء، وتنافُس الدنيا، ونسيان الآخرة"، وما ذلك إلا لضعف الإيمان، وهجْر القرآن والسنَّة النبويَّة المشرفة، فيغلب الجهل والشياطين من الإنس والجن، وينمو الشرُّ، فلا تُغنِي النذر، وينزل العقاب، ولا يترك واحدة من ذلك إلا ويُورِد آياتٍ من القرآن الكريم، وكأنَّه يُوثِّق كلامه، ويَربِطه أوْثَقَ رِباطٍ بأساس عقيدته المَتِينة: "القرآن الكريم، والسنة النبويَّة الشريفة، ولغته العربيَّة"، التي تحمل هذين الطودَيْن الشامِخَيْن.

 

وحاجة المسلمين إلى دراسة العِبَر من التاريخ، والواقِع الذي يَعِيشونه اليوم - صارَتْ من الضروريات التي لا بُدَّ لهم منها؛ إذ كانت الأمَّة تنهض وتتوحَّد لرفع راية الله عاليًا، بقوَّتها وعلومها الربَّانية، وتذل وتُهزَم حين تتخلَّى عن مهمَّتها، وتتغيَّر النفوس، وتجري وراء الدنيا وتتنافَسها، فتهلكها كما أهلكت غيرها.

 

ويُؤكِّد الدكتور عدنان النحوي أن المُؤامَرة على الأمَّة الإسلامية مستمرَّة عبر التاريخ، فقد وضَع المشركون مائة مشروعٍ لتحطيم الخلافة الإسلامية، وشهد على ذلك (ت ج د جوفار) الرُّوماني في كتابه الذي نشره في باريس سنة 1914م، ويعمل الكفَّار بهدوء وتخطيط مدروس، وكيْد خفيٍّ، ومكر عميق، وتنسيق وتعاوُن بينهم، ويخدمهم من المسلمين أولئك الذين فُتِنوا بهم، فانطلَقُوا وراء فلسفاتهم الضالَّة المُضِلَّة، فمرَّةً يُخرِجون الاشتراكية، وأخرى يُخرِجون الديمقراطية، وثالثة يُخرِجون العلمانية، ولا تخلو جَعْبَتُهم من فكرة شيطانيَّة، هدفها إبعاد أبناء المسلمين عن حقيقة قوَّتهم، وأصولهم التي ارتَضاها الله لهم، فالمهمَّة الرئيسة للمسلمين هي الدعوة والبلاغ، والتعهُّد وبناء القوَّة عبر الأجيال؛ لتتوفَّر لها خاصتان:

1- الإيمان بخصائص الإسلام المفصَّلة في القرآن والسنَّة.

2- العمل الصالح بهذه الخصائص.

 

ويروي حديث ثوبان - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((يُوشِك الأُمَمُ أن تَداعَى عليكم كما تَداعَى الأكَلَة على قصعتها))، فقال قائل: ومن قلّة نحن يومئذ؟ قال: ((بل أنتم يومَئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاء كغُثاءِ السَّيْل، ولينزِعَنَّ الله من صدور عدوِّكم المَهابَة منكم، وليقذِفَنَّ الله في قلوبكم الوَهَنَ))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوَهَنُ؟ قال: ((حبُّ الدنيا وكراهة الموت))؛ أخرَجَه أبو داود، إنها ملحمة مُمتَدَّة في تاريخ المسلمين، على سُنَنٍ ثابتة لله، إنها ملحمة التاريخ ودَوِيُّه.

 

وبذلك يَصِلُ الدكتور عدنان النحوي إلى القسم الثالث (الملحمة شعرًا) والتي وضَعَها في مقدِّمة وخمسة أبواب، جاء في المقدمة تأكيده المستمرُّ على أن ما يُقدِّمه "هو نماذج فقط من أحداث متتالية كثيرة جدًّا"، وأن مُنطَلَق الملحمة العربية الإسلامية كان الجزيرة العربية، من مكَّة المكرمة والمدينة المنوَّرة، حيث مهد الرسالة المحمدية، وهذا ما يسوغ به البدء في القسم الشعري من الملحمة بقصيدة (رسول الهدى) ثم (الجزيرة العربية) ثم (مكة المكرمة والمدينة المنورة) ثم قصيدة (الافتتاح)، كما يذكر أنَّه حصر حديثه في أحداث العصور الأخيرة؛ مثل: سقوط بغداد والأندلس والهند، وما تلا ذلك من فَواجِع، ص184.

 

ووَضَع في التمهيد قصيدة بعنوان (ولا غرَّنِي من زخرف العمر زينةٌ)، على لحنِ الطويل، تجاوَز فيها حكاية التصريع في المطالع، فكان مطلعها:

بَذَلْتُ عَلَى عَهْدِ الشَّبَابِ عَزَائِمًا
وَخُضْتُ عَلَى الْمَيْدَانِ نَهْجَ حَيَاتِي
فَمَا وَهَنَتْ نَفْسِي وَلاَ الْعَزْمُ قَدْ وَنَى
وَلاَ مَسَّنِي يَأْسٌ مَعَ الْعَزَمَاتِ
وَلاَ غَرَّنِي مِنْ زُخْرِفِ العُمْرِ زِينَةٌ
وَلا َبِعْتُ نَفْسِي فِي ضَلاَلِ غُوَاةِ

ويَلمَس القارِئ لهذه الأبيات مدى تأثير المعاني التي طرَقَها محمود سامي البارودي، إذ يُبَيِّن نهجه في الحياة وما تعرَّض له فيها من عقبات، ومُساوَمات، وما قدَّمه من نصائح لوجه الله - سبحانه وتعالى - لكن قضاء الله نافِذٌ، والندامة لا تُجدِي، ولا العيون البواكي:

نَصَحْتُ لِوَجْهِ اللهِ، لَكِنْ تَبَدَّدَتْ
أَمَانِيُّ مِنْ شَوْقٍ وَمِنْ فُرُجَاتِ
نَصَحْتُ، وَلَكِنْ قَدْ قَضَى اللهُ أَمْرَهُ
وَجَاءَ الَّذِي نَخْشَى مِنَ النَّكَبَاتِ
فَمَا عَادَ يُجْدِي بَعْدَ ذَاكَ نَدَامَةٌ
وَلاَ عَادَ يُجْدِي دَفْقَةُ الْعَبَرَاتِ

ويُعلِن الشاعر اتِّضاح الأمور، وتكشُّفها، وإن كانت تُحاوِل الاختِفاء خلف ضَباب الخديعة والمكر الكافر، تلك المكايد التي أسقطت نفوسًا وساحات، وصنعت تاريخًا مُشَوَّها، وشَكَّلت ملحمة التاريخ المدوِّيَة، والمواعظ منها بادِيَة، عسى أن يستفيد منها المسلمون؛ فيبعثوا أُمَّتهم من رُقادِها الذي طالَ أمَدُه، وتستأنِف أمجادها، وصفحاتها المضيئة:

سَتَبْقَى مَعَ الْأَيَّامِ تَتْلُو مَوَاعِظًا
وَتَقْرَعُ مِنْ أُذْنٍ وَمِنْ مُهَجَاتِ
لِيَنْتَفِضَ التَّارِيخُ يَبْعَثُ أُمَّةً
فَتَسْتَأْنِفُ الْأَمْجَادَ وَالصَّفَحَاتِ

ص186.

وجاء الافتِتاح بقصيدة (دعاء ودمعة في جوف الليل)، وكانت مُتابِعة للقصيدة الأولى من حيث الوزن والقافية، بدَأَها بمناجاة الله - سبحانه وتعالى - وتمجيده، ودعاه أن يهب له نورًا يشقُّ به طريقه، ويَقِينًا لينجو من حُفَرِ الدنيا، ومن فِتَنِها المتتالِيَة، فليس له سوى الله - سبحانه وتعالى - يُمِدُّه ويُعطِيه من قوَّته وثباته، وعلمًا بكتاب الله - سبحانه وتعالى - يَتَّقي به الشرَّ، وينجو من الشبهات، ومن السنَّة المشرَّفة، تقودُه للخير والبركة، ودمعة ليل تُضِيء له ما أظلم، وتملأ حياته نورًا:

إِلَهِي، وَهَذَا اللَّيْلُ أَلْقَى جِبَالَهُ
وَدَافَعَ أَمْوَاجًا مِنَ الظُّلُمَاتِ
فَهَبْ لِيَ نُورًا مِنْ لَدُنْكَ يَشُقُّ لِي
سَبِيلاً وَيُنْجِينِي مِنَ الْحُفُرَاتِ
وَمِنْ دَمْعَةٍ فِي اللَّيْلِ يَنْزَاحُ دُونَهَا
ظَلاَمٌ وَتَزْوِي الْمَوْجَ مِنْ عَتَمَاتِ

وبعد أن ينتهي من دعائه لنفسه، وطلب العفو من الله عن كلِّ ما وقع في حياته، لا ينسى أمَّته، التي تَغُطُّ في سُباتِها، وكأنَّها استمرأت تمزُّقَها عبر التاريخ، فيدعوه أن يُغِيثنا، فهو الملجأ في كلِّ حين، وليس سواه من مغيث:

أَغِثْنَا إِلَهِي، وَالْمَصَائِبُ أَقْبَلَتْ
تَلاَطُمُ طُوفَانٍ وَزَحْفُ مَمَاتِ
أَغِثْنَا وَقَدْ ضَاعَتْ دِيَارٌ وَسَاحَةٌ
وَأَطْبَقَ "أَعْدَاءٌ" عَلَى رَبَوَاتِ
أَغِثْنَا وَقَدْ مَاجَ الفُجُورُ وَدَنَّسَتْ
أَفَاعِيلُهُ السَّاحَاتِ وَالعَرَصَاتِ
أَغِثْنَا فَمَنْ يُنْجِي سِوَاكَ وَقَدْ وَهَتْ
نُفُوسٌ وَمَاتَتْ نَخْوَةُ الْعَزَمَاتِ

ص 192.

وقصيدة (رسول الهدى) - صلَّى الله عليْه وسلَّم - صاغ لحنها من بحر الخفيف، وبلغ فيها أكثر من سبعين بيتًا، والتزم في مطلعها التصريع، حين قال:

عَانِقِي الْمَجْدَ وَاخْفُقِي يَا بِيدُ
كُلَّ يَوْمٍ عَلَى رِمَالِكِ عِيدُ

ويلتزم فيها نهجه الفكري، والتزامه بتاريخ أمَّته، الذي سطرته الرايات المعقودة، والزحوف، والانتِصارات التي ترنَّح على ألحانها الشهداء والمؤمنون، يَصِلُون برسالة نبيِّهم إلى أرجاء الأرض، مُؤيَّدين بالوحي حاضِرًا وغائبًا، مُهتَدِين بهدي الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - شاكِرين فضلَ الله - سبحانه وتعالى - مُسطِّرين ملحمة التاريخ المُدَوِّيَة:

رَايَةٌ بَعْدَ رَايَةٍ وَزُحُوفٌ
فِي مَيَادِينِهَا وَفَجْرٌ جَدِيدُ
لاَ يَزَالُ التَّارِيخُ يَدْفَعُهُ النَّصْ
رُ وَيَبْنِيهِ مُؤْمِنٌ وَشَهِيدُ
فَمِنَ اللهِ كُلُّ فَضْلٍ عَلَيْهِ
آيَةُ الْحَقِّ وَالْهُدَى التَّوْحِيدُ

ويدخل إلى ملحمة فلسطين من خلال الإسراء، الذي كرَّم الله - سبحانه وتعالى - به نبيَّه محمدًا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فكان إمامَ المرسلين في الأقصى، وفلسطين يملَؤُها النور النبوي، وتخشع رُباها ودُرُوبها، وتُصبِح أرض الرِّباط والمَحْشَر، وبهذه المكانة يفديها الفتى الأبرُّ الجَلُود، وينزل عذاب الله على مَن يخون العهد فيها، فيقول:

يَا جَلاَلَ الإِسْرَاءِ يَحْمِلُهُ الشَّوْ
قُ وَجِبْرِيلُ وَالبُرَاقُ الشَّدِيدُ
إِنَّهُ المُصْطَفَى أَطَلَّ فَهَبَّتْ
لِلِقَاهُ نُبُوَّةٌ وَجُدُودُ
وَإِذَا أَنْتِ يَا فِلَسْطِينُ نُورٌ
يَتَلَأْلَا وَجَوْهَرٌ وَعُقُودُ
مَنْ يَخُنْ عَهْدَهُ مَعَ اللهِ يُرْهِقْ
هُ عَذَابٌ مِنْ رَبِّهِ وَصَعُودُ

ويُطلِق نداء للرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ليكيل ما استطاع من المديح والسلام عليه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ويُعلِن للملأ أن النصْر والفتْح هو حمل رسالة الله - سبحانه وتعالى - وحمايتها بالسيف، فإذا التَقَى السبيلان كان النصر والفتح، وهذه قاعدة وسُنَن ثبَّتها الله - سبحانه وتعالى - وحقَّقَها الفاتحون من المسلمين عبر العصور، فيقول:

يَا رَسُولَ الْهُدَى سَلاَمٌ مِنَ اللَّ
هِ وَمِنْ مُؤْمِنٍ لَهُ تَرْدِيدُ
فَإِذَا مَا الْتَقَى عَلَى الْحَقِّ سَيْفٌ
وَبَلاَغٌ فَذَاكَ فَتْحٌ مَجِيدُ
أُمَّةٌ لَمْ تَزَلْ إِلَى اللهِ تَسْعَى
هِيَ فَتْحٌ مِنْهُ وَنَصْرٌ فَرِيدُ

ويُتابِع نداءَ الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ليبلغه صلاته وسلامه ووفاءه كما دَأَبَ المؤمنون على مَرِّ العصور، ويذكر المكرمات النبويَّة التي أفاض الله بها عليه، فكانت مَنْهَلاً للمؤمنين، ومَنأًى للمشركين والمنافقين:

يَرْتَوِي الدَّهْرُ مِنْ هُدَاهُ فَيَدْنُو
مُؤْمِنٌ خَاشِعٌ وَيَنْأَى كَنُودُ

ويَستمرِئ النِّداء للرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لكن هذه المرَّة باسم (المصطفى)، ليقف عند أوصاف الرسول الجديَّة - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ويَتجاوَزها إلى الصِّفات والأخلاق، فقد اكتملَتْ خلقته، واكتَمَل خلقه، ويَكفِيه أنَّه مُمَدَّحٌ في كل آيَة من كتاب الله - عزَّ وجلَّ - بخُلُقِه العظيم، يتلوه المؤمنون أبد الدهر:

حَسْبُكَ الْمَدْحُ أَنْ تَكُونَ عَلَى خُلْ
قٍ عَظِيمٍ يُتْلَى الْكِتَابُ المَجِيدُ
كُلُّ آيٍ مِنَ الْكِتَابِ وَذِكْرٍ
هُوَ ذِكْرٌ عَلَى الزَّمَانِ جَدِيدُ

ويَستمتِع الشاعر بإضافة الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى الهدى، ويكرِّر ذلك في بداية كلِّ مقطع من قصيدته، وكأنه يُؤكِّد العنوان لفظًا ومعنًى، ويجعله فاصلة بين نوعيَّات النجوى التي يبثُّها، فهو الذي حمل للبشرية السلام، وربَّى أمَّته على حمايته وحفظه، وكم واسَى المحزونين، ورقت إليه أكبادهم، واطمأنَّت له قلوب الخائفين الوَجِلِين، وأعادَ الحقوق الضائعة إلى أصحابها، ولم يكن ذلك من قوانين البشر، ولا أفكارهم، بل هي شريعة الله، فإن استَقامَ الناس عليها سادَ السلامُ، ونجا الناس من الفتنة، وكأنَّه يَستحضِر قولَ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39] فيقول:

فَاسْتَقِيمُوا للهِ نَبْنِ سَلاَمًا
لَمْ تُخَالِطْهُ فِتْنَةٌ وَوُعُودُ

ويَستمِرُّ النداء للرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ليُقارِن بين التطبيق النبوي لشريعة الله في إحقاق الحق، وإبطال الباطل، وسيادة العدل والمُساوَاة بين الناس، فلا ظلم ولا عنصريَّة للونٍ أو لعرق، بل أكرمكم عند الله أتقاكم، وبين غياب أمَّة الإسلام عن القرار، وتركها الساحة الفاعلة لغيرها، وانقِلاب المفاهيم كلها، وسيادة أفكار الشياطين، وكثرة الخبث، وانتشار الفتنة، وعموم البَلاء، واشتِعال الأرض، وكثرة الهرج، لكن مَوْكِب الحق وراية هذه الأمَّة ما تَزال تنتظِر أبناءَها ليرفعوها، ويُعِيدوا شريعة الله لموقع القيادة، وَفْقَ النواميس التي بيَّنتها، وجاء بها الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم -:

أَشْعِلُوا الْأَرْضَ، فَجِّرُوهَا بَرَاكِي
نَ فَمَادَتْ ذُرًا وَمَادَ عَمُودُ
صَاحَ مِنْ هَوْلِ مَكْرِهِمْ كُلُّ جَبَّا
رٍ وَجُنَّ اللَّهِيبُ وَالأُخْدُودُ
غَيْرَ أَنَّ اليَقِينَ يَبْقَى وَيَمْضِي
مَوْكِبُ الحَقِّ يَجْتَلِي وَيَرُودُ

وفي خاتمة القصيدة يَتساءَل الشاعر خائفًا مرهوبًا: إن كان يرقى إلى مدح النبي الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لكن أشواقه وحنينه الشديد غلَبَ الرَّهبة، مع تزايُدها من الخشوع الذي يملأ قلبه، فإذا هو الحب والتوحيد والعمل في سبيل الله، وكأنه نذَرَ نفسه لله منذ كان، فكانت جهوده كجيوش وحشود تتابعت مدى العمر، فيقول:

كُلَّمَا لَجَّ فِي فُؤَادِيَ شَوْقٌ
دَفَعَ الشَّوْقُ رَهْبَتِي فَتَزِيدُ
وَإِذَا بِالْخُشُوعِ يَرْفَعُ أَشْوَا
قِي فَتَصْفُو وَتَرْتَقِي فَتَجُودُ
إِنَّمَا اللهُ وَالرَّسُولُ هُمَا الحُبْ
بُ وَللهِ وَحْدَهُ التَّوْحِيدُ
يَا لَدَرْبٍ شَقَقْتُهُ فِي سَبِيلِ الْ
لَهِ عَهْدٌ عَلَى الزَّمَانِ جَدِيدُ
مَاجَ فِيهِ مِنَ الْهِدَايَةِ نُورٌ
وَسَرَايَا تَتَابَعَتْ وَحُشُودُ

والشاعر يحمل عواطفه ومشاعره وأحاسيسه عبر أبيات القصيدة وعباراتها وكلماتها، بل وحروفها، وإن اتَّكأ على معلوماته التاريخية واقترب من السَّرْد أحيانًا، فقد أسدل عباءَة عواطفه عليه، وعَبَر به أمواج فؤاده، فحمَّله نبض مشاعره، وخلجات قلبه، فنبضت ألحانه، وسالَتْ رَقْرَاقَة في قصيدةٍ يُمكِن أن تكون بوَّابة الملحمة التي أرادَها الشاعر، بمعانِيها الإسلامية، وقواعدها المنطلقة من المفاهيم الإلهية الراقِيَة، بعيدًا عن المفاهيم الوثنية، الساعِيَة خلف المجهول والتهويل، وحصان الكذب والأسطورة الخيالية، النائية عن الواقع والجافية لأبسط مفاهيم البشرية التي كرَّمها الله، فجاءت بداية مجلية، بمدح خير البشر ورسالته وتعاليمه، لتكون القاعدة المتينة لملحمة التاريخ ودَوِيِّه.

 

وإذا كانت الجزيرة العربية هي مهْدَ الرسالة المحمدية، فإن الوقوف عندها بالقصيدة الثانية منطق واضح جليٌّ، وقد جعَلَ لها قصيدة (انثري الورد بين يديك نديًّا - الجزيرة العربية) وعزَفَ ألحانها على بحر الخفيف، في ثمانية عشر بيتًا، وتخلَّى في مطلعها عن التصريع، وخاطَبَ فيها الجزيرة العربية، آمِرًا أن تنثر الورد النديَّ، وتسكب العطر في كلِّ نادٍ، فكلُّ ما في الجزيرة خير وبركة من السماء للبشرية كلها، أليس منها الرسول الكريم - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وصحْبُه الكرام الذين حملوا الرسالة للناس كافَّة، والشاعر هنا يرى في هذه الجزيرة كلَّ المعاني السامِيَة الجميلة، في رمالها، وفي بحارها، وكل أرجائها، ألم تُنجِب كلَّ أولئك النَّفَرِ الذين اختارَهُم الله - سبحانه وتعالى - ليكونوا صحابة رسوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم؟! فيقول:

انْثُرِي الْوَرْدَ مِنْ يَدَيْكِ نَدِيًّا
وَاسْكُبِي الْعِطْرَ وَامْلَئِي كُلَّ نَادِ
لَهْفَ نَفْسِي وَكُلُّ حَبَّةِ رَمْلٍ
لُؤْلُؤٌ شَعَّ كَالْبَرِيقِ الْهَادِي
نَثَرَتْ بِرَّهَا الْوَفِيَّ عَلَى الْبَرْ
رِ وَفِي الْبَحْرِ، فِي الذُّرَا، فِي الْوِهَادِ
مِنْ صَفَاءِ الْهُدَى وَمِنْ آيَةِ الْوَحْ
يِ وَمِنْ نُورِهِ وَمِنْ إِسْعَادِ
وَجُنُودِ الرَّسُولِ أَصْحَابِهِ الْغُرْ
رِ بُدُورِ الزَّمَانِ وَالْآمَادِ

والشاعر يتنقَّل من العموم إلى الخصوص، فهو يدخل من بوَّابة الجزيرة العربية إلى حيث مَوْلِد الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ونشأته ومهاجره التي صارَتْ مدينته المنورة، وضمَّت جسدَه الشَّرِيف، في قصيدة (مكة المكرمة، والمدينة المنورة)، وجعَلَها في ثلاثة وعشرين بيتًا من البحر الخفيف، وكأنه استمرَّ في قصيدة الجزيرة العربية، وعبَر من صَحارِيها وقِفارها وبِحارها إلى مُدُنِها، وهذا ما يَتَّكِئ عليه في تجاوُز التَّصرِيع، لكنَّه بدأ بشُجونِه وتجرِبته، واتَّخذَهَا جِسْرًا للوصول إلى مكَّة فيقول:

أَيُّ نُورٍ سَرَى يَرُدُّ ظَلاَمًا
عَنْ دُرُوبِي وَعَنْ هَوَايَ الصَّادِي
فَإِذَا مَكَّةُ أَمَامِيَ نُورٌ
مِنْ جَلاَلِ الْهُدَى وَمِنْ مِيلاَدِي

ويقف على زمزم، ليرى في مكَّة لؤلؤة الكون، مُلمِّحًا إلى ما أثبَتَه علماء الفلك في نظريَّات مركز الكون، وإجماع غالبيَّتهم على أنَّه مكة المكرمة، ويَكفِيهما أن فيهما نبيَّ الهُدَى محمدًا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الذي نشَرَ نور الإسلام، وفاحَ عبقه وعمَّ شذاه وهُداه، ويَستنِد إلى ما رُوي عن النبي - صلَّى الله عليْه وسلَّم - من أداء الأنبياء جميعًا لفَرِيضة الحج إلى مكة، فيُؤكِّد كثرة الأنبياء الذين درجوا على ثراهما الطاهر، تملأ قلوبهم الأشواق فيَملؤُون الأجواء بأصواتهم وأدعيتهم، فيقول:

لَهْفَ نَفْسِي وَأَنْتِ لُؤْلُؤَةُ الْكَوْ
نِ وَأَلْمَاسَةٌ، وَكَفُّ جَوَادِ
وَإِذَا طَيْبَةٌ يَفِيضُ عَلَيْهَا الْ
وَحْيُ تَغْنَى بِوَثْبَةٍ وَجِهَادِ
حَسْبُكِ الْيَوْمَ أَنَّ فِيكِ نَبِيًّا
وَجَلاَلاً مِنْ طِيبِهِ وَالرَّشَادِ
كَمْ نَبِيٍّ سَعَى بِأَرْضِكِ يَدْعُو
وَنَبِيٍّ سَعَى إِلَيْكِ وَهَادِي
بَيْنَ شَوْقٍ مُمَوَّجٍ وَحَنِينٍ
وَدُعَاءٍ مِنْ صَامِتٍ وَمُنَادِ

وبعيدًا عن لغة المؤرخين الخالية من الانتماء، والتي يَفُوح منها روائح الولاء والمُداجَاة، وإخفاء الحقائق الشائنة عن الذين تَمِيل إليهم أهواؤهم - قدَّم الدكتور عدنان النحوي رؤيته للمدينتين، ومزَجَها بتجربته وحبِّه وعواطفه، فجاءت لحنًا يشدو به المسلمون عبر الزمن، واتَّخَذ من قدراته التصويرية جسرًا، وزيَّنه بما يَلِيق من الصُّوَر التي زادت النص رَوْنَقًا؛ كقوله: "أشرقت مكة، وطيبة عطرٌ"، "فانشرا النور"، و"نورٌ يموج ملء البوادي"، "وشوشات مهاد"، "هواي الصادي"... وغيرها من الصُّوَر التي اختمرَتْ بغِلالة من أحاسيسه ومشاعره الفيَّاضة، النابِعَة من عقيدة راسِخَة، تُؤَثِّر وتشقُّ طريقها عبر الدروب على مرِّ الأيام.

 

لم يكن الشاعر يَمِيل إلى الإغراب، مُنطلِقًا من حرصه على البلاغ، ونشر الفكر الذي نما بين ضلوعه، فكانت لغته - على فصاحتها، ورَصانة الأساليب التي بنى عليها معانِيَه - واضحةً قريبة المنال، تَفُوح منها رائحة أنفاسه، ليختطَّ بها نهجه، نهج مدرسة لقاء المؤمنين.

 

وتختلط ذاتيَّة الشاعر بحالِ الأمَّة وأوطانها، فيدلف من الخاصِّ إلى الأخصِّ، وكأنَّه اعتَبَر هذا الأخصَّ أكثر عمومِيَّة، فصاغَ قصيدته (تلفَّتُّ أين الدار والأهل والصبا؟!) ليتحدَّث عن تجرِبته في حياته التي شقَّ طريقها بين الدروب، شائكها ووعرها وسهلها، وتضحياته بما يخصُّه في سبيل الإسلام والمسلمين، قصيدة بلغت أربعين بيتًا، على بحر الطويل، وصرَّع مطلعها حين قال:

حَبَسْتُ الْهَوَى، أَمْسَكْتُ مُرَّ شَكَاتِي
وَأَرْخَيْتُ لِلْأَيَّامِ حَبْلَ أَنَاتِي

إلى أن يصل إلى الاندِماج التامِّ بأمَّته وآمالها وآلامها، تحت راية هذا الدين الذي ينبُع منه كلُّ ما تَجِيش به قلوب المؤمنين، فتعلو بها الآمَال، وتشتدُّ الخطوات، والخير يبقى أبدًا بيد الله - سبحانه - وما الشرُّ إلاَّ من نَزْغِ الشيطان، فيقول:

إِلَهِي، وَفِي نَفْسِي أُرَدِّدُ حَاجَتِي
وَبَيْنَ ضُلُوعِي هَمْسَةٌ اللَّهَفَاتِ
عَلَى شَفَتَيَّ الْهَمْسُ وَالْجَهْرُ وَالصَّدَى
يُرَجِّعُ مَا فِي القَلْبِ مِنْ كَلِمَاتِ
أَبَى لِيَ دِينِي أَنْ أُضِيعَ مُرُوءَتِي
وَقَدْ غُرِسَتْ فِي فِطْرَةٍ وَسِمَاتِ
يَصُوغُ لَنَا الْقُرْآنُ طِيبَ جُذُورِهَا
وَحُلْوَ أَمَانِيهَا وَنَهْجَ حَيَاةِ

ويُلَمْلِم ذكرياته مع أهله، وما في الدار من أزهار، ومع المروج وما فيها من الخيرات، وما سال عليها من دِماء الشهداء والمجاهدين على مرِّ الأيام، فلم يكن غير هذا الدِّين أساسًا لكلِّ تلك المَشاعِر والأحاسيس والأعمال، مع أنَّ ديار المسلمين قد تقطَّعَتْ أَوْصَالها، وتشتَّتت أطرافها، وما عادَت الدَّار هي الدار، ولا الحجرات هي الحجرات:

لَمَمْتُ طُيُوفَ الذِّكْرَيَاتِ بِخَاطِرِي
مِنَ الدَّارِ مِنْ أَهْلٍ مِنَ الزَّهَرَاتِ
جَمَعْتُ بِهَا التَّارِيخَ قَبْلَ جَفَافِهُ
وَقَبْلَ ذُبُولِ الْعُودِ وَالْغَرَسَاتِ
فَلَمْ أَلْقَ إِلاَّ الدِّينَ يَرْوِي جُذُورَهَا
وَيُزْكِي فُرُوعًا فِي رُبًا وَفَلاَةِ
فَوَاعَجَبًا لِلدَّارِ كَيْفَ تَقَطَّعَتْ
حُدُودًا وَمَادَتْ فِي أَسًى وَشَتَاتِ
أَمُرُّ بِهَا ذِكْرَى فَلاَ الدَّارُ دَارُهَا
وَلاَ حُجُرَاتُ الْعِزِّ بِالْحُجُرَاتِ

ص203.

ويستمرُّ الشاعر على اللحن ذاته - بحر الطويل - وروي (آتِ)، وكأنه يُتابِع قصيدته السابقة؛ ليُشَكِّل منها ملحمة شعريَّة تحتوي ملحمة التاريخ، أو مشهدًا منها، فيُضِيف ستّة وثلاثين بيتًا تحت عنوان (دار الإسلام بين مكر الأعداء وغفلة الأبناء)؛ ليتحدَّث عن ملحمة المؤامرة، المؤامرة التي تُرِيد إخفاء المؤامرة، وتُطلِق تُهَمَة (المريض بمقولة المؤامرة)، أو (عقدة المؤامرة) على كلِّ مَن يحاول توعِيَة المسلمين بِمَخاطِرِها، وتستبدل ذلك بمشروع جلد الذات، وينسى أن معسكر الكفر حاكَ آلاف المشاريع التآمُريَّة لتقسيم العالم الإسلامي والمسلمين، ولو استَطاع لجَعَل كلَّ بيتٍ في ديار الإسلام دولةً مستقلَّة، تُقاتِل جاراتها وتُعادِيهم لصالِحِه وحدَه، وفي سِياق هذا كلِّه الأحداث الحاضرة والسابقة، وستكون اللاحِقة على دربها، وإستراتيجيَّتها التي لم تتغيَّر منذ أبي جهل زمن الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى أبي جهل القرن العشرين والحادي والعشرين، وهي اجتثاث الإسلام من جذوره، فيقول في آخرها:

يَكِيدُونَ لِلْإِسْلاَمِ وَيْلَ مَكَايِدٍ
وَعِزُّهُمُ فِيهِ وَصِدْقُ نَجَاةِ
تَجَمَّعَتِ الْأَحْقَادُ سَوْدَاءَ وَالْتَقَتْ
مَطَامِعُهَا مَوْجًا مِنَ الظُّلُمَاتِ
تَدَفَّقَ مِنْهَا الْكَيْدُ وَالْمَكْرُ وَالْأَسَى
قُرُونًا وَأَجْيَالاً وَصَبْرُ دُهَاةِ
وَتَدْفَعُهُمْ عَبْرَ الدُّرُوبِ طَوَائِفًا
تَهَاوَتْ وَأَحْزَابًا وَحَرْبَ فِئَاتِ

وقبل ذلك كشَفَ عن تآمُرهم على دينهم، مع ما فيه من تحريفٍ يُوافِق أهواءَهم، فهم يرفعون رايات الصليب، يتستَّرون خلفها لتحقيق أطماعهم وبلوغ نزواتهم، أليسوا قد ادَّعوا صلب المسيح - عليْه السلام؟ وكذَّبهم الله - سبحانه وتعالى - بقوله: ﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ﴾ [النساء: 157]، والمسيح منهم بَراء، كما هو موسى - عليْه السلام - بريء من الكفَرَة الذين يدَّعون من أتْباعه، ويُحَرِّفون رسالته لتُوافِق أهواء شَياطِينهم، وهم يعلمون ما في التوراة من أَوامِر لهم باتِّباع النبي الأميِّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر - صلَّى الله عليه وسلَّم - بل يتجرَّؤون على الله، فكيف على الناس؟! فيقول:

وَيُلْقُونَ رَايَاتِ الصَّلِيبِ أَمَامَهُمْ
سِتَارًا يُوارِي نَهْمَةَ الْغَزَوَاتِ
فَيَا أَيُّهَا التَّارِيخُ أَيُّ عِصَابَةٍ
تَوَلَّتْ مِنَ الإِجْرَامِ زَيْفَ رُوَاةِ
أَيُصْلَبُ عِيسَى ثُمَّ يُجْعَلُ خَالِقًا
فَيَا وَيْلَ بُهْتَانٍ وَوَيْلَ جُنَاةِ
يُهِيجُ لَهَا حَشْدُ الضَّلاَلِ حَمِيَّةً
مِنَ الْجَهْلِ أَمْوَاجًا عَلَى الْحَمَلاَتِ
وَلَكِنَّمَا الْأَهْوَاءُ تَقْتُلُ أَهْلَهَا
وَتَرْمِي بِهِمْ فِي سَبْسَبٍ وَفَلاَةِ

وقبل ذلك تَحسَّر على دِيار الإسلام بالنداء الأوَّل، وذكَّرها بما كان يُغنِيها من التُّقَى، وكيف تحوَّلت خَيْراتُها وبركاتها، وتَمَتْرَس فيها الداء، وتتالَتْ عليها الضربات المرَّة، بعد سيادة الجهل، وتفتَّحت أبواب الشياطين، وعبَرَها الكفَّار، بارِزَة عداوتهم، وأحقادهم، يقتلون وينهَبُون، والمسلمون وإن كانوا يَهُزُّون رؤوسهم بقراءة القرآن فإن قلوبهم وسيوفهم في سَكْرَةٍ وغَفْوَةٍ، فيقول:

فَيَا أَيُّهَا الدُّارُ الْغَنِيَّةُ بِالتُّقَى
تَحَوَّلْتِ مِنْ خَيْرٍ وَمِنْ بَرَكَاتِ
طَغَى الْجَهْلُ لاَ عِلْمٌ يَقُودُ وَلاَ هُدًى
يُنِيرُ وَلاَ حُكْمٌ لِرَأْيِ سَرَاةِ
هُوَ الْجَهْلُ، وَالْقُرْآنُ يَتْلُوهُ جَاهِلٌ
عَلَى غَفْلَةِ الْأَلْبَابِ وَالسَّكَرَاتِ
يَهُزُّ رُؤُوسًا لاَ يَهُزُّ سَوَاعِدًا
وَلاَ أَضْلُعًا مَاجَتْ عَلَى نَخَوَاتِ
وَيَجْتَاحُ سَاحَاتٍ لِيَحْصُدَ أَهْلَهَا
وَيَنْهَبَ مِنْ كَنْزٍ وَمِنْ ثَرَوَاتِ

وفي هذه القصيدة تظهر صورة الأمَّة في ذهْن الشاعر، فأحوالها المتردِّية ناتجة عن جهْل أبنائها بكتاب الله الكريم؛ فهم يتلونه، ويهزُّون له الرُّؤوس، لكنَّهم لا يَعُون مَعانِيَه ومَرامِيَه، فلا تهتزُّ له قلوبهم، ولا سواعدهم، وكأنما فقدوا النخوة والإحساس، أو كأنما فقَدُوا عربيتهم، وانتماءهم.

 

ولا يتخلَّى الشاعر عن الأُسُس الفنية للغة الشعرية، فقد ملأت صُوَرَه وصياغاته الخاصَّة القصيدة من بيتها الأوَّل؛ مثل: (الغنية بالتقى - تمرس فيك الداء - طغى الجهل - أضلعًا ماجت على نخوات - تدفق منها الكيد...).

 

وينطلق الشاعر في هذه القصيدة من أعماق ثقافته وفكره الإسلامي، ومن قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ﴾ [النور: 21].

 

وجعل الباب الثاني في ثلاثة فصول:

الأوَّل: حنانيك يا بغداد.

الثاني: الهند وسحر جمالها، والهند بين نور الإسلام وظلام الفتن.

الثالث: فاجعة الأندلس.

 

ففي قصيدة (حنانيك يا بغداد) التي جاءت كسابقاتها بحرًا ورَوِيًّا، في أربعة عشر بيتًا، يبدأ بذكرياته عن نكباتها، والفواجع التي حلَّت بها، ويُشِير الشاعر إلى ملحمته الخاصَّة ببغداد، والتي أفرَدَها في كتاب خاص؛ لما لبغداد من خصوصية في فواجعها، وفيما تمثّله للمسلمين كعاصمة للخلافة طوال فترة حكم بني العباس، ولعلَّ عمود القصيدة في قوله:

إِذَا عَجَزَ الْإِنْسَانُ عَنْ جَمْعِ أُمَّةٍ
سَتَجْمَعُهَا الأَيَّامُ فِي نَكَبَاتِ

حقًّا؛ إن النكبات تجمع الأمَّة وتُوَحِّدها عبر الزمن، فما بال أمَّتنا اليوم ما عادَتْ تجمعها النكبات؟ وتفرقها الأعياد؟ فالأمر لله من قبلُ ومن بعدُ، فهو القادر على هداية القلوب وتنقِيَة النفوس، فقد مضَتْ سُنَّته - عزَّ وجلَّ - في الذين خَلَوْا من قبلُ، ولن تجد لسنَّته - سبحانه وتعالى - تبديلاً ولا تحويلاً؛ إذ حين يكون الله - عزَّ وجلَّ - وحبُّه وشريعتُه هي الدافع، وتكون الآخرة هي الهدف، تجتَمِع الأُمَّة وتحقق النصر، وإن تغيَّرت كلُّ هذه السنن، ضاعَ النصر، وحلَّت النكبات، وهذه سنَّته - سبحانه وتعالى - مع الناس كافَّة، من أقرب المقرَّبين محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - إلى آخِر الخلق، فليس بينه وبين الناس نَسَبٌ يَتَّكئ عليه المتَّكِئون، وهذا دَوِيُّ التاريخ عَبْرَ الزمن، وهذا تأكيدٌ للمفهوم الملحمي للشعر في ذهن الشاعر، وقدرته على التطبيق، فيقول ص 211:

حَنَانَيْكِ يَا بَغْدَادُ كَمْ مِنْ فَوَاجِعٍ
مُدَوِّيَةٍ فِي السَّاحِ وَالقَصَبَاتِ
تَوَاثَبَ أَعْدَاءٌ عَلَيْكِ وَأَطْبَقُوا
مِنَ الْجَوِّ، مِنْ بَحْرٍ وَمِنْ ظُلُمَاتِ
وَيَجْمَعُهَا الرَّحْمَنُ حِينَ يَضُمُّهَا
وَفَاءُ نُفُوسٍ أَوْ صَفَاءُ دُعَاةِ
مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ الْعَزِيزِ وَحِكْمَةٌ
فَيَهْوِي غُرُورُ النَّاسِ فِي ظُلُمَاتِ
دَوِيٌّ مِنَ التَّارِيخِ مَا زَالَ عَالِيًا
يُرَجِّعُ مِنْ ذِكْرَى وَمِنْ حَسَرَاتِ

وفي الفصل الثاني (1) قصيدة عنوانها (الهند وسحر جمالها)، يُتابِع الشاعر من خلالها صِياغة ملحمة التاريخ ودَوِيِّه، فقد جاءَتْ على بحر الكامل، في تسعة أبيات وقافية الدال المكسورة، وتجاوَز فيها الشاعر تصريع المطلع في قوله:

الْهِنْدُ يَا سِحْرَ الْجَمَالِ تَحَدَّثِي
فَالدَّهْرُ مُصْغٍ لِلْجَمَالِ فَرَدِّدِي

ثم ينطلق في ذكريات تاريخيَّة ترسِم صورة الفاتحين، أو الذين حملوا دعوة الإسلام في صدورهم، وجالُوا مَشارِق الأرض لتبليغ الرسالة، ثم ينطلق إلى سحر الجمال، مستغنِيًا عن الجسور اللفظية التي تعوَّدَها الشعراء: (دع ذا - عد عن...)، لكنه كرَّر صدر المطلع (الهند يا سحر الجمال...)، مُستَعِيضًا به عن الجسور اللفظية التي تنقل الشعراء من فكرة إلى أخرى، ومن غَرَضٍ إلى آخر، فقد ألقَتْ عليها اللآلِئ عسجدًا وزمردًا، وياقوتًا منثورًا ومنضدًا، ويطلب منها أن تصوغ تلك الجواهر وتتغنَّى بها، فيقول:

الْهِنْدُ يَا سِحْرَ الْجَمَالِ لَآلِئٌ
أَلْقَتْ عَلَيْكِ بِعَسْجَدٍ وَزُمُرُّدِ
وَرَوَائِعُ الْيَاقُوتِ شَعَّتْ كُلُّهَا
مَا بَيْنَ مَنْثُورِ الْحِلَى وَمُنَضَّدِ
صُوغِي مِنَ الْأَلْمَاسِ وَالدُّرِّ الحِلَى
صُوغِي كَمَا شِئْتِ الْجَوَاهِرَ وَانْشِدِ

ويشير الشاعر إلى ملحمة خاصَّة بالهند صاغَهَا مستقلَّة في كتاب، وليته جمع هذه إلى تلك كي تُكَوِّنا صورةَ الملحمة المتكامِلة، في ذلك البلد الذي بشَّر الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الذين يغزونه، قبل وصول جيوش المسلمين إلى تخومه بعشرات السنين.

 

وفي القصيدة الثانية (الهند بين نور الإسلام وظلام الفِتَن) جاء أحزانها على بحر الطويل، وقافية التاء المجرورة المسبوقة بالألف، وكأنَّها لحن النائحات على الفَقِيد، بلغت سبعة وثلاثين بيتًا.

 

والشاعر يتذكَّر أمجاد المسلمين الذين لَبّوا دعاء الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لهم لتبليغ الدعوة؛ عن أبي هريرة - رضِي الله عنه - قال: "حدثني خليلي الصادق المصدوق رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - قال: ((يكون في هذه الأمَّة بَعْثٌ إلى السِّند والهِند، فإنْ أنا أدركته فاستشهدت فذاك، وإن أنا وإن أنا))، فذكر كلمة رجعت، فأنا أبو هريرة المحدث قد أعتقني من النار"؛ (تفرَّد به أحمد)، وخفقَتْ قلوبهم بنور الإيمان، ويُشِيد الشاعر بمحمد بن القاسم، الذي قادَ الجيوش إلى الهند وهو في السابعة عشرة من العمر، فيقول:

بَنَوْا أُمَّةً أَوْفَتْ مَعَ اللهِ عَهْدَهَا
وَشَقَّتْ دُرُوبًا فِي سَبِيلِ نَجَاةِ
أَضَاؤُوا سَبِيلَ الْحَقِّ بِالْعَزْمِ وَالتُّقَى
وَأَعْلَوْا مِنَ الْإِسْلاَمِ صَرْحَ أُبَاةِ
فَنَالُوا بِفَضْلِ اللهِ نَصْرًا، فَأَقْبَلُوا
لِتَثْبِيتِ دِينِ اللهِ بَيْنَ فِئَاتِ

ولا ينسى العظماء من أبناء الهند الذين أقاموا دولة الإسلام، وبنَوا الحضارة الإسلامية في الهند، ماديَّة وعقديَّة؛ كالغزنوي، والغوري وأورانك زيب عالكمير الذي يَعتَبِرُه بعض المؤرِّخين سادس الخلفاء الراشدين، فيقول:

فَطُوبَى لِزَحْفِ الْغَزْنَوِيِّ وَوَثْبَةٍ
فَكَمْ مَدَّ مِنْ زَحْفٍ وَمِنْ حَمَلاَتِ
وَطُوبَى لِغُورِيٍّ يَهُبُّ لِدِينِهِ
لِيَنْشُرَ مِنْ هَدْيٍ وَمِنْ عَزَمَاتِ
هَنِيئًا أورنكْ زيب التقى وَمَا بَنَى
عَلَى أُسُسِ الإِيمَانِ مِنْ قَصَبَاتِ

ولا يفوت الشاعر أن يُذَكِّر بسحر جمال الهند، ويدعوها لاستعادة الإيمان الذي ترك موقع التأثير والقرار، بعد غزو الكفر الغربي من الإنجليز وغيرهم، الذين سلكوا كلَّ سبيل من المؤامرة والخِداع ومُعادَاة المسلمين وعقيدتهم، وإبادتهم كلَّما قدروا عليهم:

غَزَاكَ بَنُو الْإِفْرِنْجِ غَزْوَةَ طَامِعٍ
لِمَا كَانَ فِي نَادِيكَ مِنْ ثَرَوَاتِ
يَصُدُّونَ عَنْ دِينِ الْحَنِيفَةِ وَيْحَهُمْ
بِمَكْرٍ شَدِيدِ الْكَيْدِ وَالنَّزَعَاتِ

كما يُشِيد بعلمائهم وشُهدائِهم الذين وقفوا يُنافِحون عن الهند إسلامًا وغير إسلام، أرضًا وشعبًا، فهم لآلئ العلم والجهاد:

فَحَسْبُكَ عِرْفَانُ الشَّهِيدِ وَنَدْوَةٌ
مِنَ الْعُلَمَاءِ الْغُرِّ وَالْحَلَقَاتِ
وَحَسْبُكَ تِيبُو فِي بَلاَءِ جِهَادِهِ
وَحَسْبُكَ مِنْ صَيْدٍ وَمِنْ حَمَلاَتِ
تَنَاثَرَ فِي سَاحَاتِهَا عُلَمَاؤُهَا
لَآلِئُ فِي سَاحٍ وَفِي غَزَوَاتِ

أليس هؤلاء القوم من أبناء الهند الذين فتح الله عليهم، وهدى قلوبهم إلى دينه الحق، فقاموا يَنشُرون نور الشريعة السمحة، ويقدمون أرواحهم في سبيل الله - جلَّ جلاله؟ لكن لما تَراخَى العزم، وأقبلت الشهوات، وأطلَّت الفتنة بقرونها، والغُزَاة يَغزُونها بمكرهم وكَيْدِهم، تَحقَّقت سُنَّة الله العزيز، التي لا تَبدِيل لها، فهَوَى البناء، وبقي المخلصون يُكافِحون ويُجاهِدون في كلِّ سبيل، ويُعانُون من حشود العقبات، التي لا نهاية لها، وهذه ملحمة التاريخ ودَوِيُّه عبر الزمن:

مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ الْعَزِيزِ بِخَلْقِهِ
فَأَهْوَى بِنَاءٌ بَعْدَ طُولِ ثَبَاتِ
وَظَلَّ غرس التقى وَرِجَالُهُ
يَشُقُّونَ مِنْ دَرْبٍ وَنَهْجِ ثِقَاتِ
إِلَى اللهِ فِي صَبْرٍ وَعَزْمٍ وَدَعْوَةٍ
يُغَالِبُهُمْ حَشْدٌ مِنَ الْعَقَبَاتِ
دَوِيٌّ مِنَ التَّارِيخِ مَا زَالَ عَالِيًا
يُرَجِّعُ مِنْ ذِكْرَى وَمِنْ حَسَرَاتِ

والشاعر الدكتور عدنان النحوي في كلِّ ذلك لا يَتَخلَّى عن عواطفه، وتمازجها مع تاريخ الأمَّة التي ينتمي إليها عقيدة صارت في قلبه هي العرق الأصيل الذي يفوح من عبق الرسالة المحمدية، التي يَنتَشِر نورها عبر الزمان والمكان، بأسلوبه وخصوصيَّته وانفعالاته وآماله وآلامه، التي يُعَبِّر فيها عن كلِّ مَشاعِر المسلمين الصادقين، الذين يَنتَمُون لمدرسة لقاء المؤمنين، وإن لم يُسَجِّلوا أسماءَهم بالمداد، فقد سجَّلوها بالعمل والنهج والاعتماد.

 

ولا تَعتَرِض الشاعر حيرة في اختيار الفَواجِع من تاريخ المسلمين وحاضرهم؛ فحيثما يَمُدُّ يده يجد وَفْرَة من المآسِي التي تحرق قلوب المخلِصين؛ فهذه فاجعة الأندلس، جعلت الشاعر يئنُّ بألحانه الحزينة، ويَصُوغها على بحر الطويل، ورويِّ التاء المكسورة المسبوقة بمدِّ الألف، وفي أربعة وستِّين بيتًا، يُتابِع بها ملحمته، فلا يجد حاجةً للتصريع، وإن اختَلَف الموقع الذي يتحدَّث عنه، ويعلو صوته بأنَّات صارخة، عساه يُسمِع أصحاب القرار في هذه الأمَّة فتتحرَّك قلوبهم وأيديهم لنجدة أمَّتهم، والعودة بها إلى مقام القادَة التي أرادَهَا الله - عزَّ وجلَّ - لها:

تَعُودُ بِيَ الذِّكْرَى فَأَلْقَى فَوَاجِعًا
بِأَنْدَلُسِ الْغَنَّاءِ وَالْقَصَبَاتِ
أَقَامَ بِهَا الْإِسْلاَمُ دَهْرًا بَنَى بِهَا
حَضَارَةَ عِلْمٍ وَافِرِ الْبَرَكَاتِ
لَقَدْ سَكَبُوا أَزْكَى الدِّمَاءِ بِأَرْضِهَا
وَأَصْفَى وَفَاءٍ كَانَ مِنْ مُهَجَاتِ
فَكَيْفَ تَهَاوَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَانْطَوَتْ
صَحَائِفُ مَجْدٍ مِنْ عُلاً وَسَرَاةِ
بِمَاذَا جَزَيْتِ الْقَوْمَ يَا دَارُ بَعْدَمَا
بَنَوْا فِيكِ أَمْجَادًا وَعِزَّ بُنَاةِ
فَجَازَيْتِهِمْ قَتْلاً وَحَرْقًا وَفِتْنَةً
وَتَعْذِيبَ آلاَتٍ وَقَطْعَ صِلاَتِ

بهذه الأبيات يُجمِل الشاعر الحكاية كلها، لكن مشاعره تُفِيض عن هذا الحدِّ، فيَصُوغ العبرة مَرَّة، والحزن مَرَّة، والألم مَرَّة، يتنقَّل من فاجعةٍ إلى أخرى، ولكنَّه على يَقِين من أنَّ قدر الله هو الذي يَجرِي، وما يقوم به الإنسان هو جزاء اختياره، ووقوعه في محظورات الشريعة، وما نهى الله ورسوله عنه:

رُوَيْدَكِ، مَا يَجْرِي قَضَاءٌ وَحِكْمَةٌ
مِنَ اللهِ حَقٌّ جَاءَ دُونَ فَوَاتِ
فَمَا هَذِهِ الدُّنْيَا سِوَى دَارِ فِتْنَةٍ
وَسَاحَةِ تَمْحِيصٍ وَآيِ عِظَاتِ
لِيُكْشَفَ مَا تُخْفِي الصُّدُورُ فَإِنَّهُ
لَهَا أَوْ عَلَيْهَا حُجَّةُ الصَّفَحَاتِ

وسنة الله لا تبدِيل لها؛ إذ حين صارت الملذات الدنيوية هي هم القادة، وتبعتهم في ذلك الرعية، أزالَ الله دولتهم، وسلَّط عليهم عدوَّهم، ونَزَع الهيبة منهم، ووقعَتْ سُيُوفُهم في رقابهم، وكأنَّهم كما يقول المحلِّلون اليوم (الإخوة الأعداء)، فصاروا يستَجِيرون بأعدائهم! وهنا يَسمَع الشاعر دَوِيَّ التاريخ، ويرى ملحمته التي يسطرها بشعره، فيقول:

فَلَمَّا تَوَلَّوْا عَنْ هُدَاهُ وَأُشْغِلُوا
بِسِحْرِ جَوَارٍ أَوْ غِنَاءِ لِدَاتِ
وَأَصْبَحَتِ الدُّنْيَا مَحَطَّ رَجَائِهِمْ
وَغَايَةَ شَوْقٍ أَوْ هَوَى لَهَفَاتِ
تَنَافَسَتِ الْأَهْوَاءُ دُنْيَا غُرُورِهِمْ
وَأَصْبَحَتِ الْمَيْدَانَ وَالْحَلَبَاتِ
وَأَصْبَحَ هَذَا يَسْتَجِيرُ بِظَالِمٍ
وَذَاكَ يُنَادِي ظَالِمًا لِنَجَاةِ
دَوِيٌّ مِنَ التَّارِيخِ مَا زَالَ عَالِيًا
يُرَجِّعُ مِنْ ذِكْرَى وَمِنْ حَسَرَاتِ

ويَعِيش الشاعر مع المدن الأندلسية، وجَرْسِ أسمائها الذي ما زال على المدى يحفر في قلوب المسلمين، فيُحادِثها على طريقة العرب، كأنما يُعاتِب المحبِّين، أو كأنما يَئِنُّ لِمُصاب أصاب كَبِدَه، أو خامَرَ فؤاده، فيقول:

أَغَرْنَاطَةٌ هَاتِي حَدِيثَكِ أَسْمِعِي
وَدَوِّي بِهِ الْآفَاقَ وَالْقَصَبَاتِ
أَقُرْطُبَةٌ قُومِي وَأَوْفِي شَهَادَةً
مِنَ الْحَقِّ فِي سَمْعِ الزَّمَانِ وَهَاتِي
وَإِشْبِيلَةٌ مَاذَا لَدَيْكِ سِوَى أَسًى
أَسًى غَابَ فِي دَمْعٍ وَفِي زَفَرَاتِ
طُلَيْطِلَةٌ وَالْمَجْدُ حَوْلَكِ مَا لَهُ
هَوًى وَانْطَوَى فِي غَفْلَةٍ وَسُبَاتِ
وَكُلُّ الرَّوَابِي فِي دِيَارِكِ لَمْ تَزَلْ
تُرَجِّعُ مِنْ شَوْقٍ وَمِنْ لَهَفَاتِ

ويَختِم بالتأكِيد أن هذا هو دَوِيُّ التاريخ، ص 224، على ما فيه من حُرْقَةٍ وعبرات لا تكاد تجفُّ من عيون المسلمين، عبر الزمن وفي كلِّ أنحاء العالم الإسلامي، بل في كلِّ العالم؛ إذ حيث تجد المسلمين اليوم تجد الأسى والألم! فالكفَّار إن يظهروا على المسلمين لا يَرقُبون فيهم إلاًّ ولا ذِمَّة، والوقائع تُثبِت ذلك عِيانًا، وفي كلِّ حين، عبر الزمن، منذ بدأ محمدٌ - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الدعوةَ لدين الحق، الذي بُعث به:

دَوِيٌّ مِنَ التَّارِيخِ مَا زَالَ عَالِيًا
عَلَى حُرْقَةِ الْأَحْنَاءِ وَالْعَبَرَاتِ

ويَدخُل الشاعر عدنان النحوي سَرِيعًا إلى العصر الحديث، في الباب الثالث من ملحمته الأدبية، قسم الشعر، ويجعله في ثلاثة فصول:

الأول: الحرب العالمية الأولى والزَّحف على العالم الإسلامي.

الثاني: نكبة فلسطين وفاجعتها.

الثالث: من الأقصى إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي.

 

ثلاث قصائد من بحر الطويل، وقافِيَة التاء المكسورة المسبوقة بمدِّ الألف، استمرارًا للقصائد السابقة، بلغَتْ ثلاثةً وعشرين ومائةَ بيتٍ من الشعر، مقسمة على القصائد الثلاث، للأولى سبعةٌ وعشرون بيتًا، وللثانية خمسةٌ وستون بيتًا، وللثالثة واحدٌ وثلاثون بيتا.

 

أمَّا عن الحرب فقد بسَطَ فيها القول، ووصَفَ أهوالها وغَدَرَاتها، وكيف تَواثَب المسلمون - شبابهم وشيبهم - للدفاع عن بلادهم ورايَة الإسلام والتوحيد، وصبروا على شدائدها ومصائبها، وما رابَهُم إلا الغدر والطعن من يد الإخوة الأعداء، الذين فضَّلوا الكفار على المسلمين:

هِيَ الْحَرْبُ يَا دُنْيَا أَطِلِّي وَرَجِّعِي
فَوَاجِعُ مِنْ هَوْلٍ وَمِنْ خَطَفَاتِ
تَدَاعَى لَهَا الفِتْيَانُ مَنْ مَدَّ عَزْمَهُ
لِيَسْبِقَ مِنْ خَطْوٍ وَمِنْ وَثَبَاتِ
حَوَافِزُهُ الْإِيمَانُ مَا كَانَ يَنْجَلِي
عَنِ السَّاحِ إِلاَّ طُعْمَةً لِبُزَاةِ
تَلَفَّتَ يَا هَوْلَ الَّذِي لَمَّ جَفْنَهُ
مِنَ الْغَدْرِ مِنْ أَهْلٍ وَمِنْ عَصَبَاتِ
وَمِنْ خِنْجَرٍ فِي الظَّهْرِ غَاصَتْ شَبَاتُهُ
فَيَا وَيْلَهَا مِنْ طَعْنَةٍ وَشَبَاةِ
فَهَذَا شَهِيدُ الْبِرِّ وَالْحَقِّ وَالْهُدَى
عَلَى جَوْلَةٍ للهِ أَوْ خَطَرَاتِ
وَلَيْسَ شَهِيدًا مَنْ تَرَدَّى بِمُنْيَةٍ
وَفِرْيَةِ مُحْتَالٍ وَعَهْدِ جُنَاةِ

وشاعرنا الدكتور عدنان النحوي يرى النكبة الكبرى في تدمير الأُمَّة في تلك الحرب والخيانة التي كانت على مرِّ العصور سببًا في هزائمها، لكنَّ المصيبة أن يُصبِح أولئك الغادرون أبطالاً يُحَيِّيهم الناس على غدراتهم وخياناتهم! لكنَّها ملحمة التاريخ ودَوِيُّه، تحمل الذكريات والحسرات بآلامها القاتلة:

هِيَ النَّكْبَةُ الْكُبْرَى تُدَمِّرُ أُمَّةً
وَتَسْبِقُ مِنْ أَمْجَادِهَا النَّضِرَاتِ
وَيَا وَقْفَةَ التَّارِيخِ وَالزَّحْفُ مُقْبِلٌ
وَفَرْحَةُ قُطْعَانٍ وَفَرْحَةُ شَاةِ
يُحَيُّونَ أَبْطَالَ الْجَرِيمَةِ وَيْحَهُمْ
عَلَى ذِلَّةِ الْأَحْنَاءِ وَالْخَفَقَاتِ
دَوِيٌّ مِنَ التَّارِيخِ مَا زَالَ عَالِيًا
يُرَجِّعُ مِنْ ذِكْرَى وَمِنْ حَسَرَاتِ

ويدخل شاعرنا إلى نكبة فلسطين وفاجعتها دون أن يغير الوزن أو القافية، فهي جزء من ملحمة التاريخ ودَوِيِّه، مع ما لها من خصوصيَّة في ذاكرته، وتجربته الشخصية، ويتابع رؤيته للغدر الذي صار يَتَمَتْرَسُ في مواقع القرار في الأُمَّة، ويَدَّعي في كلِّ مرَّة أنه يُحاوِل إصلاحها، حتى جاء الصهايِنة وغرَسُوا مُصِيبتهم في الأقصى مَسْرَى الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - تدعمهم كلُّ العصابات المُشرِكة الظالِمَة في العالم، بالمال والسلاح والتخطيط:

هُوَ الْمَكْرُ فِي كُلِّ الْمَيَادِينِ مُطْبِقٌ
لِيَرْسُمَ مِنْ حَرْفٍ وَمِنْ كَلِمَاتِ
وَيَدْفَعُ أَشْبَاهَ الرِّجَالِ يَقُودُهَا
عَبِيدًا وَيَرْمِيهَا عَلَى شَفَرَاتِ
وَفِي كُلِّ يَوْمٍ رَايَةٌ يَدَّعِي بِهَا
ذَوُوهَا صَلاحَ الْحَالِ بِالدَّعَوَاتِ
وَتَنْسِلُ صِهْيَوْنٌ وَتُلْقِي بِفِتْيَةٍ
عَلَى بَسَمَاتِ الْغَدْرِ وَالنَّظَرَاتِ
وَتَغْرِسُ فِي الْأَقْصَى بُذُورَ مُصِيبَةٍ
وَتَجْمَعُ مِنْ كُوخٍ وَمِنْ شَجَرَاتِ
تُغَذِّيهِمُ دُنْيَا الْعِصَابَاتِ فِتْنَةً
سِلاَحًا وَأَمْوَالاً وَنَهْجَ طُغَاةِ

وكم عجب المسلمون من قومٍ شهد التاريخ ذُلَّهم عصرًا بعد عصر، كيف خَطَّطوا وأحكموا غدرهم حتى اقتطعوا فلسطين من جسد الأمة، وأظهروا جرائم كانوا يشتكون منها؟! وكان المسلمون يُنصِفونهم، ويُشفِقون عليهم من مُرتَكِبيها، ويُؤوونهم إلى ديارهم ليحتموا بها من غدر الأُمَم الأخرى! ويَعجَب أكثر كيف زحفت جموعٌ من أبناء الأُمَّة لتلاقي (أَللنبي)؟! وهو قائد مُخادِع إنجليزي، قادَ جيوش الكفر واحتَلَّ فلسطين والأردن في الحرب العالمية! وغابَتْ وعود الكُفَّار للعرب بعد انتهاء الحرب، وكَشَّروا لهم عن أنيابهم، وأظهروا العَداوة التي حاوَلُوا إخفاءَها، وقلبوا لهم ظهر المِجَنِّ، وعلى العرب والمسلمين أن يُدرِكوا أنه إذا سقط الأقصى في يد الكفار فإن أبوابهم ستُصبِح مشرعة أمامهم، لا يمنعهم من ولوجها مانع:

عَجِبْتُ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ حِفْنَةً
تُوَارِي وَتُخْفِي غَدْرَةَ الْبَسَمَاتِ
تَرَاءَوْا عَلَى ذُلٍّ فَلَمَّا تَمَكَّنُوا
تَفَجَّرَ مِنْهُمْ هَوْلُ حِقْدِ بُغَاةِ
فَيَا أَيُّهَا الْأَقْصَى حَنَانَيْكَ هَلَ تَرَى
أَكُفَّ وَفَاءٍ أَمْ أَكُفَّ عُدَاةِ؟
أَلِنْبِي أَزِحْ عَنْكَ الْقِنَاعَ لَعَلَّنَا
نَرَى مَا طَوَاهُ الْغَدْرُ مِنْ صَرَخَاتِ
إِذَا سَقَطَ الْأَقْصَى فَكُلُّ دُرُوبِهِمْ
مُفَتَّحَةُ الْأَبْوَابِ وَالطُّرُقَاتِ

ويُنادِي فلسطين مُتفَجِّعًا إلى الحدِّ الذي لا يدع مَجالاً لفاجعة بعد فلسطين؛ فهي واسِطَة العقد المعلَّى، نُزِعت فانكشَفَتْ كلُّ بلاد المسلمين، وصار الكُفَّار يسرَحُون حيث أرادوا، وهنا يَطلُب من المسلمين أن يبكوا على الصين والهند ومصر والشام، ولا ينسى الأندلـس... فهل ترك الباكون من نكبة فلسطين دمعًا لنائح بعدهم؟! لكنه دَوِيٌّ من التاريخ، وسُنَّة إلهيَّة لا تَتَبدَّل، وقد خلَتْ سُنَّة الأوَّلين الذين أخذوا بأسباب النصر، والذين تركوها:

فِلَسْطِينَ هَلْ أَبْقَيْتِ دَمْعًا لِنَائِحٍ
حَنَانَيْكِ مِنْ شَوْقٍ وَمِنْ عَبَرَاتِ
أَوَاسِطَةَ الْعِقْدِ الْغَنِيِّ بِجَوْهَرٍ
كَرِيمٍ وَحُرِّ الْمَالِ وَالْحَرَزَاتِ
فَبَكِّ عَلَى الصِّينِ الَّتِي هَانَ حَالُهَا
عَلَى الْهِنْدِ مِنْ صَيْدٍ وَمِنْ سَرَوَاتِ
وَبَكِّ عَلَى بَغْدَادَ وَالشَّامِ وَالْهَوَى
يَضُمُّ حَنَانَ الْوَجْدِ وَالْخَفَقَاتِ
وَبَكِّ عَلَى مِصْرٍ وَكَمْ شَقَّ نِيلُهَا
صُخُورًا مِنَ الْأَهْوَالِ وَالنَّكَبَاتِ
تَحِنُّ قُلُوبُ الْعَاشِقِينَ لِجَنَّةٍ
بِأَنْدَلُسٍ نَضَّارَةِ الْجَنَّاتِ

وينتَقِل إلى الفصل الثالث الذي جعَلَ عنوانه (من الأقصى إلى دمشق، إلى سائر أنحاء العالم الإسلامي)، ويستمرُّ مع البحر الطويل وقافية التاء المكسورة المسبوقة بالألف، وكأنه انتَقَلَ من فكرة إلى أخرى، بل تلك هي الحقيقة، فالشاعر يَعِيش ملحمة التاريخ في هذه القصيدة، التي جعَلَها لمشاعر الأسى والألم والحزن، والقلب الذي اتَّسع لكلِّ هذه الفواجع، ولم يبقَ فيه مُتَّسعٌ كما يتخيَّل الشاعر.

 

ويبدأ بخطاب فرنسا، التي شق ظلام المسلمين لها الطريق، ليس إلى دمشق وحدها، بل إلى حيث تشاء! ولَمَّا ألهبَتْها بمَدافِعِها ونيرانها، هبَّ المسلمون شبابًا وشيبًا ليُدافِعوا عنها بما يملكون، في ميسلون، من كلِّ أنحاء البلاد، وتساقَطُوا ليُصبِحوا في بطون السِّبَاع، أو الطيور الجارحة، فمَن كانت نيَّته لتكون كلمة الله هي العُليَا فهو الشهيد، ومَن كانت نيَّته لغير ذلك فقد خسر الدنيا والآخرة!

فَسِيرِي فَرَنْسَا هَا هُوَ الدَّرْبُ شَقَّهُ
لِزَحْفِكُمُ لَيْلٌ حَالِك الظُّلُمَاتِ
أَفَاقَتْ دِمَشْقُ وَالرَّدَى يَدْفَعُ الرَّدَى
وَدَفْعُ الْمَنَايَا صَاعِقُ الْخَطَفَاتِ
فَيَا مَيْسلُونَ اسْتَرْجِعِي دَمْعَةَ الْأَسَى
وَيَوْمًا يُرَوِّي الدَّهْرَ بِالْعَبَرَاتِ
فَمَنْ صَدَّقَ الرَّحْمَنَ عَزْمًا وَنِيَّةً
يَنَلْ مِنْ ثَوَابٍ صَادِقَ الدَّرَجَاتِ
وَمَنْ خَانَهُ عَزْمٌ وَمَالَ بِهِ الْهَوَى
هَوَى بِشَقَاءِ الْعُمْرِ أَوْ بِمَمَاتِ

ولا ينسى قولة (غورو) على قبر صلاح الدين، ومخاطبته له بنفسية منهزمة تدَّعي الانتصار، ويُذكِّره بأجداده الذين طوَتْهُم حُفَرُ الموت إلى أبواب جهنَّم، بينما صاحب القبر من الشهداء الذين أخبر الله - عزَّ وجلَّ - أنهم أحياء عند ربهم يُرزَقون، بل هم فَرِحُون بما آتاهم ربهم، بعد أن تركوا لأمَّتهم مجدًا مُؤَثَّلاً، ص 234، فيقول:

أَعِيدِي صَدَى (غُورُو) وَوَقْفَةَ فَاجِرٍ
جَبَانٍ وَزَيْفَ الْمَجْدِ وَالدَّعَوَاتِ
وَقَفْتَ عَلَى قَبْرٍ يَضُمُّ جِدَارُهُ
جَلاَلَ حَيَاةٍ فِي جَلاَلِ مَمَاتِ
أَرَاعَكَ هَذَا الْقَبْرُ أَمْ رَاعَكَ الَّذِي
يَضُمُّ مِنَ الْأَجْدَاثِ وَالْوَقَعَاتِ
حَسِبْتَ الَّذِي فِي الْقَبْرِ مَيْتًا وَإِنَّهُ
شَهِيدٌ مَضَى للهِ فِي وَثَبَاتِ
وَهَذَا صَلاَحُ الدِّينِ مَجْدٌ مُؤَثَّلٌ
عَلَى الصِّدْقِ مَنْشُورٌ عَلَى صَفَحَاتِ

وهكذا يُتابِع الشاعر الدكتور عدنان النحوي ملحمة التاريخ في قصيدته المُتواصِلة، ليصل إلى الباب الرابع، فجعَلَه في ثلاثة فصول:

الأول: حنانيك يا دار الخلافة، تسعة وسبعون بيتًا.

الثاني: فهل أَوْبَة إلى الله؟! ثلاثون بيتًا.

الثالث: سنَّة الله في عقاب المجرمين ومَن تبعهم، ثمانية وثلاثون بيتًا.

 

أمَّا قصيدة (حنانيك يا دار الخلافة)، فهو يُحادِثها ما بين عتاب وحسرة، ويَستَعرِض معها تاريخ الفجيعة التي حلَّتْ بها، وكيف تمكَّن اليهود بمكرهم من تكوين الجماعات المُناهِضة، ثم تقويض الخلافة، بعد أن تَخَفَّوْا بعمائم، أو اندسُّوا في صفوف المتَّقين، وصاروا يَصِفُون موتاهم المُجرِمين بالشهداء، وضَيَّعوا عِزَّ القرون الذي بناه العثمانيون صرحًا بعد صرح، فأولئك هم الذين خانوا الأُمَّة، وزيَّفوا دلالة الكلمات التي استَعمَلُوها، وتسمَّوا بها، وما لَبِثُوا أن لقوا جزاءهم، فأماتَهُم الله شرَّ مِيتَة، بعد أن عاثوا بديار المسلمين، وتبعثَرَتْ أقطارُهم، وتفرَّقت كلمتهم، وصاروا طوائف تَتناوَشُهم سِهام الكفر من كلِّ ناحِيَةٍ، بهذه المعاني يَتناجَى الشاعر الدكتور عدنان النحوي مع دار الخلافة، فيقول:

حَنَانَيْكِ يَا دَارَ الْخِلاَفَةِ مِنْ أَسًى
يَمُرُّ وَمِنْ بَلْوَى وَمِنْ حَسَرَاتِ
أُولَئِكَ أَبْنَاءُ الضَّلاَلِ لِبَانُهُمْ
مَكَايِدُ كُفَّارٍ وَكَيْدُ عُتَاةِ
وَكَمْ مِنْ يَهُودٍ كَانَ يَلْبَسُ عِمَّةً
وَكَمْ مِنْ كَفُورٍ كَانَ بَيْنَ تُقَاةِ
وَيُدْعَى شَهِيدًا مُجْرِمٌ بَعْدَ مُجْرِمٍ
وَيُنْصَبُ فِي السَّاحَاتِ وَالْعَرَصَاتِ
أُولَئِكَ مَنْ خَانُوا الْأَمَانَةَ وَيْحَهُمْ!
وَظَنُّوا لَدَى الْأَعْدَاءِ بَابَ نَجَاةِ
أَقَامُوا عَلَى أَهْوَائِهِمْ عُصْبَةً لَهُمْ
شِعَارُ اتِّحَادٍ أَوْ رُقِيُّ فَتَاةِ
فَمَا لَبِثُوا أَنْ مَزَّقَ اللهُ شَمْلَهُمْ
وَأَلْقَى بِهِمْ فِي مَهْلِكٍ وَشَتَاتِ

ويقف مع الخليفة العثماني (السلطان عبدالحميد) في بقيَّة القصيدة، والتي تجاوزت الخمسين بيتًا، ليعرض رؤيته لما جرى، وكيف تَمَسَّك هذا السلطان بالآخِرة وعافَ الدنيا، ورفَضَ أن يُعطِي اليهود شبرًا من أرض فلسطين، ممَّا أَوْغَرَ عليه صدورهم، وجعَلَهُم يَتآمَرُون ويدعمون الخارِجين عليه، ويُقَوِّضون أركان الدولة كلها.

 

وقد بدا واضحًا تزكِيَة الشاعر لهذا السلطان من مُنطَلَقٍ شرعيٍّ، واستِهجَانُه لِمَا أصابَه، وكيف انزَلَق بعض علماء المسلمين ليُفْتُوا بتَقوِيض شرعيَّة الخلافة لصالح الجمعيات التي خرجت عليه، لتحقيق مُؤامَرَة اليهود، ومعسكر الكفر كله:

سَلاَمٌ عَلَى عَبْدِالْحَمِيدِ وَقَدْ مَضَى
عَلَى الطِّيبِ مِنْ أَمْجَادِهِ الْعَطِرَاتِ
يُسَاوِمُكَ الْكُفَّارُ مَالاً وَزِينَةً
وَزَهْرَةَ دُنْيَا أَوْ مَتَاعَ حَيَاةِ
لِتُعْطِيهِمُ دَارًا وَرَوْضًا وَمَا حَوَتْ
فِلَسْطِينُ مِنْ قُدْسٍ وَمِنْ حُرُمَاتِ
تَلَفَّتَّ كَيْ تَلْقَى الرِّجَالَ فَلَمْ تَجِدْ
سِوَى غَادِرٍ يَخْتَالُ فِي طَعَنَاتِ
أَتَوْكَ بِأَشْبَاهِ الرِّجَالِ يَلُمُّهُمْ
خِيَانَةُ أَجْيَالٍ وَذُلُّ سُعَاةِ
فَيَا وَيْحَهُمْ فَتْوَى بِخَلْعِ خَلِيفَةٍ
تُزَلْزِلُ مِنْ سَاحٍ وَمِنْ قَصَبَاتِ
عَلَوْتَ ذُرَا التَّارِيخِ، مَا أَعْظَمَ الْعُلاَ!
إِذَا كَانَ فِي نُورِ الْهُدَى وَثَبَاتِ
سَلاَمٌ عَلَى رُكْنٍ هَوَى فَهَوَتْ بِهِ
مِنَ الدَّارِ أَرْكَانٌ وَمِنْ عَزَمَاتِ
فَذَاكَ دّوِيٌّ يَمْلَأُ الْأُفْقَ صَوْتُهُ
دَوِيُّ قُرُونٍ هَائِجُ الصَّرَخَاتِ

إذًا؛ هي سنن الله في الخلق، ولا تبديل ولا تحويل، فهل يُدرِك المسلمون ذلك ويعودون لها، بل ويتمسَّكون بها تَمَسُّك الرُّوح بالجسد، أو أنهم استمرؤوا الحال التي علَتْهم منذ قرون، وصاروا يستمتعون بآلامهم؟! وهذا شاعرنا الدكتور عدنان النحوي، وتحت عنوان (فهل أَوْبَة إلى الله؟) يؤكِّد أن المسلمين ما عادوا يتأثَّرون بما يسمعون، لا الأذان له أثره، ولا الاستغاثات تجد قلوبًا تهتزُّ لها كما كان المُعتَصِم وغيره من المسلمين الغيورين:

وَكَمْ طَرَقَ الْآذَانَ مِنْ نُذُرٍ بَدَتْ
فَمَا وَعَتِ الْأَلْبَابُ مِنْ طَرَقَاتِ
سَكَارَى عَلَى لَهْوٍ حَيَارَى عَلَى خُطًى
أَسَارَى لِشَوْقٍ هَائِجِ النَّزَعَاتِ
فَهَلْ أَوْبَةٌ للهِ يَا قَوْمُ يَنْجَلِي
بِهَا الذُّلُّ عَنْ عِزٍّ وَعَنْ فُرُجَاتِ

لقد تداعَتْ على المسلمين الأُمَمُ، وهذا تذكيرٌ بما أخبر به الرسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وهؤلاء الكفَرَة مطمعهم الدنيا والثروات، ومُحارَبَة دين الله وشرعه الذي أنزَلَه على نبيِّه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فأين الفتيان الذين يُقَدِّمون أرواحهم في سبيل الله، ويَشُمُّون ريح الجنَّة وهم على قارعة الدنيا يدرجون؟

تَنَاهَبَتِ الدُّنْيَا دِيَارَكَ وَالْتَقَتْ
مَطَامِعُهَا فِي الْأَرْضِ وَالثَّرَوَاتِ
وَمَا وَجَدَ الْكُفَّارُ دُونَكَ حَامِيًا
سِوَاهُ وَلاَ هَابُوا مِنَ الْخَطَرَاتِ
سَيَبْقَى هُوَ الْإِسْلاَمُ يَحْمِي حِيَاضَهَا
وَيَدْفَعُ عَنْهَا غِيْلَةَ السَّطَوَاتِ

والشاعر لا يَنِي يبحث عن ذاك الفتي الذي ملأ الهدي المحمدي قلبه، منذ كان - عليْه السلام - في مكَّة والمدينة، ويذكر شاعرنا أنه إذا ما تولَّوا سيستبدِل الله قومًا غيرهم، ثم لا يكونوا أمثالهم، مُنطَلِقًا من نصوص القرآن الكريم، ومُتَرجِمًا معانيها، التي خالطَتْ مهجته، وصارت تكوين مشاعره، وفيْض عواطفه:

تَلَفَّتُّ كَيْ أَرَى الْفَتَى يَقْرَعُ الْقَنَا
وَيَرْمِي عَلَى مَوْجِ الرَّدَى مُهَجَاتِ
فَهَذَا ابْتِلاَءٌ مَحَّصَ اللهُ عِنْدَهُ
نُفُوسًا وَأَلْقَى بَيْنَهَا بِعِظَاتِ
لِيَسْتَبْدِلَ الرَّحْمَنُ قَوْمًا سِوَاهُمُ
إِذَا مَا تَوَلَّوْا فِي دُرُوبِ غُوَاةِ
دَوِيٌّ مِنَ التَّارِيخِ مَا زَالَ عَالِيًا
يُرَجِّعُ مِنْ ذِكْرَى وَمِنْ حَسَرَاتِ

ويختم هذا الباب بقصيدة (سنة الله في عقاب المجرمين ومَن تبعهم) منطلقًا - كما أشار في الحاشية ص 247 - من معاني قوله - تعالى -: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21]، وقوله - سبحانه وتعالى -: ﴿ وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ ﴾ [غافر: 47- 48]، فيَتساءَل عن بريطانيا، وفرنسا، وعهد العصابة، وكلايتون، ولورنس، ومكماهون، وسايكس بيكو، وبلفور، وهذه أسماء عرَفَها المسلمون من الجرائم التي ارتُكِبت، والرِّقاب التي ذَلَّت، أو جُزَّت، فقد كان الكفر عاتِيًا، لا يَرقُب في المسلمين إلاًّ ولا ذِمَّة، وقد جادُوا بالأقصى للصهايِنة، واعتَدوا على الأعراض والذرية، سيُجازِيهم الله عن جرائمهم في الدنيا قبل الآخرة، وسيحيق بهم مكرهم السيِّئ:

فَأَيْنَ بِرِيطَانْيَا؟ وَأَيْنَ عِصَابَةٌ؟
وَأَيْنَ فَرَنْسَا مِنْ دَوِيِّ عِظَاتِ
عُتَاةٌ أَصَابُوا الزَّرْعَ وَالضَّرْعَ وَالْحَشَا
وَمَدُّوا قَنَاةً أُتْبِعَتْ بِقَنَاةِ
يَحِيقُ بِهِمْ مَكْرٌ رَمَوْا وَيَسُومُهُمْ
مِنَ الذُّلِّ مَا سَامُوهُ مِنْ ضَرَبَاتِ

ولا ينسى الشاعر أمريكا، وما عندها من قدرات أعطاها الله وابتلاها ليرى أتشكر أم تكفر، وقد سلكت دروب الغَوايَة والضلال، وما تركت قهرًا ولا ذلاًّ ولا عدوانًا إلا حمَتْه، ومارسَتْه ضدَّ الإسلام والمسلمين، وسيُذِيقهم الله عذاب الدنيا قبلَ عذاب الآخرة، هم والذين تَبِعوهم من المنافقين، والمستضعَفِين، وهل هناك أصدق من خبرٍ قالَهُ الله - سبحانه وتعالى - حين أَكَّد حالهم يوم القيامة، وقد وجدوا مصيرهم جهنم وبئس المصير؟!

وَمَنْ يَبْذُرِ الْإِفْسَادَ يَحْصُدْ فَسَادَهُ
وَيَطْعَمُ مِنْهُ مُرَّ جَنَاةِ
وَذَلِكَ مِنْ أَدْنَى الْعَذَابِ وَبَعْدَهُ
جَهَنَّمُ تُؤْوِيهِ وَخِزْيُ حَيَاةِ
هُنَالِكَ يَلْقَى الْمُجْرِمُونَ وَصَحْبُهُمْ
مَنِ اسْتُضْعِفُوا مِنْ مُجْرِمِينَ عُتَاةِ
يُقَالُ لَهُمْ: كُلٌّ يَنَالُ نَصِيبَهُ
مِنَ الْخِزْيِ وَالْإِذْلاَلِ وَاللَّعَنَاتِ

وكأنَّ شاعرنا - الدكتور عدنان النحوي - لم يعد يشاهد في المدى المنظور قدرة المسلمين بمواصفاتهم التي يَعرِفها اليوم، على ردِّ العدوان وتحقيق النصر، فلجأ إلى النتائج الإلهيَّة الحتمِيَّة، التي تُحَقِّق له تمام الثقة، فكأنَّه يُشاهِد كلَّ هذا الجبروت الكافر، وقد زجَّهم الله - سبحانه وتعالى - في جهنَّم جزاء نكالاً لما كانوا يَقتَرِفون.

 

ويصل شاعرنا إلى الباب الخامس، وكأنَّه حطَّ رِحاله في الزمن الحاضر، ليقف عند المآسِي المُعاصِرة للمسلِمين اليوم، فجعل عنوانه: (امتداد ملحمة التاريخ ودَوِيِّها)، وجمَعَ فيه القصائد المُختارَة من الملاحم السابقة، ليُعطِي صورة أعمق، ولتُمَثِّل مرحلة جديدة من الأحداث القريبة، فكانت فصول الباب:

الأول: ملحمة فلسطين.

الثاني: شوق ودماء في البوسنة والهرسك.

الثالث: صرخة غروزني (الشيشان).

الرابع: دم الجزائر فوار بساحتها.

الخامس: مجزرة قانا، لبنان.

السادس: كسوفا.

السابع: أفغانستان بين الماضي والحار.

الثامن: بغداد، ما بال أهلك في شتات هوان؟!


ففي ملحمة فلسطين بحرٌ متلاطم من المنايا المُتَماوِجة، ومن الآمال الصاخبة، فالكفار تَتكاثَر كتائبهم، والآمال أن تَتواثَب، كتائب المسلمين من كلِّ فجٍّ لملاقاتهم ومقارعتهم، لكنَّها تَتلاشَى لتصبح كومة من الأحجار تتحرَّك قبل أن تتحرَّك قلوب المسلمين لنجدة فلسطين وأهلها، فهل لان الصخر وما لانت القلوب الراحمة؟! وهل سمع الصخر استغاثات المستغِيثين، والمسلمون يُحِيطون بفلسطين، لكنْ لعلهم ما بين أصم ونائم؟! صاغَهَا الشاعر على بحر الطويل، وقافية الميم المضمومة، في تسعة وسبعين بيتًا، أفرغ فيها شحنة عالية تتردَّد في أعماق قلبه، من المشاعر المتلاطمة، بين الأسى والحزن والأمل بالقوة، والرد الذي يشفي القلوب:

تَمُوجُ الْمَنَايَا حَوْلَهُ وَالْمَلاَحِمُ
وَتَزْأَرُ مِنْ هَوْلِ اللِّقَاءِ الضَّرَاغِمُ
هَلِ انْتَفَضَ التَّارِيخُ ثُمَّ تَوَاثَبَتْ
عَلَى السَّاحِ أَشْوَاقُ الْهُدَى وَالْعَزَائِمُ
وَنَادَى وَأَيْنَ الْكَاسِحَاتُ وَمِدْفَعٌ
وَأَيْنَ الْقَنَا مِنِّي وَأَيْنَ الصَّوَارِمُ
فَلَمْ يَلْقَ إِلاَّ كَوْمَةً مِنْ حِجَارَةٍ
وَصَيْحَةَ أَجْدَاثٍ تَقُولُ هُنَا هُمُ
أَتَسْمَعُ مِنِّي الصَّخْرُ صَيْحَتِي
وَحَوْلِيَ لَوْ تَدْرِي أَصَمُّ وَنَائِمُ

وقد جاءت جحافل الكفر وأذنابهم المنافقون، بآلاتهم وهينماناتهم، وحين استغاثَتْ فلسطين لم تجد غير الصخرة التي تناثرت في أيدي فتيانٍ كأنَّها عواصف في وجه الأعداء، لكن لا بُدَّ من تطبيق آيات الله - سبحانه وتعالى - في إعداد كلِّ قوَّة مُمكِنة، فليس للمسلمين ولا لغيرهم من عاصم إلا الله:

وَأَقْبَلَ لِلأَعْدَاءِ دَفْقُ جَحَافِلٍ
وَحَشْدُ مَوَالٍ حَوْلَهُمْ وَسَوَائِمُ
سَيَحْفَظُنِي عَهْدٌ مِنَ اللهِ صَادِقٌ
وَحَقٌّ مَعَ الْأَيَّامِ مَاضٍ وَقَائِمُ
فَجَمْعٌ عَلَى السَّاحِ الْعَدِيدِ وَعُدَّةٌ
فَمَا الْحَرْبُ إِلاَّ عُدَّةٌ وَعَزَائِمُ
وَعُذْ إِنْ صَدَقْتَ الْيَوْمَ بِاللهِ وَحْدَهُ
فَمَا لَكَ إِلاَّ اللهُ مِنْ ذَاكَ عَاصِمُ

وحين رأى المعركة تَتلاطَم حافاتها، ويتأجَّج وَطِيسها، طافَ يبحث عن سلاح، أيِّ سلاح، لكنه لم يجد غير الحجر! فهل سيُغنِيه في هذا الخِضَمِّ الهائج؟! ولقد أبكى الشاعر الصخر من المآسي التي رآها، فبكى حين لم يرَ من المسلمين مُغِيثًا، ورآهم على موائدهم أشباه رجال، وقد شغلَتْهم نَزَواتُهم، وتَعَلُّقهم بالحياة الزائلة، وصارَ ولاؤهم للكفار:

تَلَفَّتُّ هَلْ لِي خِنْجَرٌ فَأُدِيرُهُ
إِذَا جَدَّ مِنِّي فِي النِّزَالِ التَّلاَحُمُ
بَكَى مِنْ أَسًى لَمَّا رَأَى ذُلَّ حَيْرَتِي
وَفَاضَتْ عَلَى الصَّخْرِ الدُّمُوعُ السَّوَاجِمُ
بَكَيْتُ لِأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَوَائِدًا
هُنَاكَ وَأَشْبَاهَ الرِّجَالِ سِوَاهُمُ
بَكَيْتُ وَمَاخُورٌ يَضِجُّ وَفِتْيَةٌ
تَهَاوَتْ وَرِجْسٌ مِنْ خَنًا وَمَآثِمُ
بَكَيْتُ لِأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ ذَوِي الْحِجَا
يَكَادُ الْهَوَى يَهْوِي بِهِمْ وَيُداهِمُ
أَضَرَّ بِهِمْ حُبُّ الْحَيَاةِ وَأَفْسَدَتْ
مَنَاهِجَهُمْ أَهْوَاؤُهُمْ وَالتَّخَاصُمُ
بَكَيْتُ لِأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ وَلاَءَنَا
تَدَاوَلَهُ أَعْدَاؤُنَا وَالسَّوَائِمُ
بَكَيْتُ وَيَا هَوْلَ الْبَلاَءِ أَمَامَنَا
إِذَا مَا غَفَوْنَا أَسْوَدُ اللَّيْلِ فَاحِمُ

ويتلفَّع شاعرنا بالحَنِين لأرض الحجارة، ويتلذَّذ بنِدائها بهذا الاسم، ويُعلِن أنه يحنُّ إلى الأقصى، إلى كلِّ ربوةٍ بلَغَها الإسلام، وأُقِيمت عليها شعائره، إلى كلِّ شبرٍ درَجَ فوقه نبيٌّ، والساحات التي ابتهجت بإسراء محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فكانت الفتوحات بعدها كالعقد تُزَيِّن جِيدَها ومَعاصِمها.

 

وينتقل بحنينه إلى نداء أشجار فلسطين، زيتونها والليمون، وأزهارها والعنَّاب، روضها والورود والشذا، لكن كل هذا قد ترَكَ زهوته مُنتَظِرًا شهيدًا يُعِيد له رُواءَه، وتنزل أمَّة محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ساحات الجهاد؛ لتطوِي صفحة المآسي التي أنَّ تحت وَطِيسِها المسلمون ردحًا، فيقول:

حَنَانَيْكِ يَا أَرْضَ الْحِجَارَةِ إِنَّهُ
حَنِينُ اللَّيَالِي لَمْ تَرُعْهَا الْهَزَائِمُ
حَنِينٌ إِلَى الْأَقْصَى عَلَى كُلِّ رَبْوَةٍ
عَلَيْهَا مِنَ الْإِسْلاَمِ آيٌ وَخَاتَمٌ
وَيَا شَجَرَ الزَّيْتُونِ أَيْنَ اخْضِرَارُهُ
وَيَا غَرْسَةَ اللَّيْمُونِ أَيْنَ الْبَرَاعِمُ
تَرَكْنَاهُ حَتَّى يَسْتَعِيدَ رُوَاءَهُ
شَهِيدٌ وَتُرْوَى مِنْ دِمَاهُ الرَّمَائِمُ
وَتَنْزِلُ لِلْمَيْدَانِ أُمَّةُ أَحْمَدٍ
لَهَا فِي الْوَغَى عَهْدٌ مِنَ اللهِ لاَزِمُ
تَدُورُ عَلَى الْمَيْدَانِ أَعْرَاسُ أُمَّةٍ
وَتُطْوَى مَآسٍ عِنْدَهَا وَمَآتِمُ

وفي الفصل الثاني جاء العنوان (شوق ودماء في البوسنة والهرسك)، وصاغَهَا الشاعر على بحر البسيط وقافية الراء المضمومة، بلغت ثمانية وخمسين بيتًا، تحدَّث فيها عن مشاعر الأسى والعواطف الحزينة، والآلام التي عانَاها المسلمون هناك، وفي كلِّ مكانٍ أثناء حروبهم مع الصربيِّين، وما نالَهُم من قتلٍ وتشريدٍ واعتِداءٍ على الأموال والأعراض، وانتِهَاك الحرمات، فقد تَداعَتْ عليهم أُمَّة الكفر، وجلبت وحشدت كلَّ ما أمكنها للقضاء على دولتهم، واجتثاثها من جذورها.

 

ووَاضِحٌ من قصائد الشاعر مَيْلُه للوحات الشاملة العامَّة، وعدم الوقوف عند زواياها ودقائقها، مُعتَمِدًا على الروايات الرسميَّة أو شبه الرسميَّة التي تُسَجِّلها الكتب والمطبوعات ووسائل الإعلام، والتي جاشَتْ لها قلوب المسلمين في كلِّ مكان، فهو لا يَصِفُ مواجهة خاضَهَا مسلم ضدَّ كافر، ولا يتحدَّث عن موقع جرَتْ فيه الدماء، فكان لكلِّ قطرةٍ حكايةٌ، وأَنَّةٌ خرجَتْ من أعماق صاحبها، وصرخة دوَّت في أجواء الموقع؛ لتختَلِط مع أزيز الرَّصاص، وانفِجار القَذائف، التي استَلَّت الأرواح، ومزَّقت الأجساد، ودمَّرت البيوت، وحرقت الأخضر قبل اليابس، يقول فيها:

أَنَا سَرَايِيفُوا لاَ تَعْجَبْ هُنَا قِمَمٌ
عُلاً يَرِفُّ وَمَجْدٌ لَيْسَ يَنْدَثِرُ
أَنَا بُهَاتْشُ وَمُسْتَارٌ وَغَيْرُهُمَا
مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ يَأْتِي لَكَ الْخَبَرُ
هُنَا الْأَشَاوِسُ إِنْ جَدَّ الْوَغَى الْتَحَمَتْ
هَذِي النِّصَالُ فَطَارَ الْوَقْدُ وَالشَّرَرُ
للهِ دَرُّ سَرَايِيفُو إِذَا وَثَبَتْ
تَوَاثَبَتْ دُوَلُ الْآفَاقُ وَالبَشَرُ
تَلَفَّتِي يَا سَرَايِيفُو إِلَى قِمَمٍ
يَمُورُ فَوْقَ ذُرَاهَا الْعَاصِفِ الْخَطَرُ
وَرَجِّعِي مِنْ ذُرَا كَشْمِيرَ صَرْخَتَهَا
دَوَّتْ فَأَجْفَلَ مِنْ هَوْلٍ بِهَا الْبَصَرُ
وَمِنْ رُبَا الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وَقَدْ خَفَتَتْ
أَنْوَارُهُ وَعَلاَهُ الْغَيْظُ وَالْكَدَرُ
هُبِّي وَخُوضِي غِمَارَ الْمَوْتِ وَاقْتَحِمِي
هَذِي الْمَيَادِينَ جَدَّ الْأَمْرُ وَالْخَطَرُ
أُولَئِكَ الْمُعْتَدُونَ الْمُجْرِمُونَ وَقَدْ
جُنَّتْ مَطَامِعُهُمْ فَاشْتَدَّتِ الْغِيَرُ

وفي الفصل الثالث كان الحديث عن ملحمة غروزني، وقد ربَطَها الشاعر بغيرها من الملاحم والمآسي التي عاشَهَا المسلمون في هذا العصر، وكيف يندَحِر العدوُّ عندما يقف المسلمون مُدافِعين عن عقيدتهم وراية الإسلام؛ لأن هذه أسس النصر التي سَنَّها الله - سبحانه وتعالى - وقد نَظَمَ عقدها على بحر البسيط وقافية اللام المكسورة في تسعة وستين بيتًا، تَتلاطَم عواطفها كالموج في بحر هائج القسمات، تَزِيدُه رِياح الإعصار، مصرِّعًا مطلعها فيقول:

شِيشَانُ صُبِّي دَمًا فِي الْأَرْضِ وَاغْتَسِلِي
بِالنُّورِ مِنْهُ وَضُمِّي زَهْوَةَ الْأَمَلِ
جُنُّوا فَهُبُّوا بِأَحْقَادٍ مُرَوِّعَةٍ
بِالْمَكْرِ بِالْكَيْدِ مِنْ غَدْرٍ، وَمِنْ خَتَلِ
ظَنُّوا الْقِتَالَ سُوَيْعَاتٍ فَهَالَهُمُ
أَنَّ الْقِتَالَ طَوِيلُ الْعَهْدِ وَالْأَمَلِ
ظَنُّوا النَّجَاةَ بِأَرْتَالٍ مُدَبَّبَةٍ
مِنَ الْحَدِيدِ وَأَلْوَانٍ مِنَ الْحِيَلِ
وَأَطْبَقُوا فَوْقَهُمْ كَالْجِنِّ قَدْ مَلَؤُوا
كُلَّ الْمَسَالِكِ مِنْ وَادٍ وَمِنْ جَبَلِ
يَسْتَقْبِلُونَ جِنَان الْخُلْدِ فَانْفَرَجَتْ
أَبْوَابُهَا فَرَحًا بِالْمُؤْمِنِ الْبَطَلِ
وَخَلَّفُوا جُثَثَ الْكُفَّارِ هَاوِيَةً
إِلَى الْجَحِيمِ عَلَى وَقْدٍ وَفِي شُعَلِ
للهِ دَرُّ دُدَايِيفٍ وَعُصْبَتِهِ
تَحَصَّنُوا بِدُرُوعِ الْحَقِّ وَالْعِلَلِ
هِيَ الْحَضَارَةُ يَبْنِيهَا غَطَارِفَةٌ
مِنْ فَارِسٍ صَادِقٍ للهِ أَوْ نَبَلِ

ويقصر شاعرنا المقطع الأخير في قُرابة ستة عشر بيتًا على رثاء دُداييف - يرحمه الله - ويبشِّره بجنَّات الخلد إن كان قلبه وعمله خالصًا لله، وهذه سُنَنُ الله في الذين خلَوْا من قبل، ولن تجد لسنَّة الله تبديلاً، ولا تحويلاً:

للهِ دَرُّ دُدَايِيفٍ وَقَدْ رَصَدَتْ
أَعْدَاؤُهُ خَطْوَهُ رَصْدًا عَلَى وَجَلِ
رَمَوْكَ مِنْ مُحْكَمِ الصَّارُوخِ وَاسْتَتَرُوا
سَتْرَ الْجَبَانِ وَسَتْرَ الْعَاجِزِ الوَكِلِ
تَفَجَّرَ الدَّمُ فَاهْنَأْ مِنْ بَشَائِرِهِ
وَانْظُرْ إِلَى الْأُفْقِ تُشْرِقْ زَهْوَةُ الْأَمَلِ
فَاهْنَأْ أَمَامَكَ جَنَّاتٌ مَنَائِرُهَا
لِلْعَائِدِينَ بِصِدْقِ الْقَلْبِ وَالْعَمَلِ

وهنا يقف الشاعر على بعض التفاصيل التي تُصَوِّر الملحمة تصويرًا يُهِيج النفس، ويُحَرِّك مشاعرها النائمة، بل ويحيي العواطف المُتهالِكة، فهو يَعِيش مع الحدث، أو يُحاوِل أن يكون داخِلَه، فيكون البث المباشر، وحرارة الدم لم تزل مُتوَهِّجة، فتزداد حرارة القصيدة، وتبدو الملحمة والدم يَقطُر من حروفها، فتتحرَّك الدماء في العروق؛ ليُصبِح للملحمة الشعريَّة ارتباطها الحقيقي بالملحمة التاريخية، التي أرادَهَا في التأصيل لمعنى الملحمة، وتَزداد القصيدة بَهاءً حين يُحافِظ الشاعر على التزامِه بهذه الشريعة السمحة، التي أنزَلَها الله لتكون شرعته في الأرض، ولا يَقبَل غيرَها من عباده: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85].

 

الفصل الرابع - دم الجزائر فوَّار بساحتها:

وهذه الفقرة الشعرية من ملحمة الشاعر جاءَتْ على بحر البسيط، وقافية الميم المضمومة، مصرعة المطلع:

اصْمُتْ فَمَا عَادَ يُجْدِي عِنْدَهُ الْكَلِمُ
وَلَسْتُ أَدْرِي عَمًى أَعْمَاهُ أَمْ صَمَمُ

كيف لا يقف الشاعر عند أحداث الجزائر، وقد صارت ملحمتها بيد أبنائها، وارتفعَتْ ألهِبَتُها، وطاوَلَت السحاب، والمسلمون يُذبَحون رجالاً ونساءً وأطفالاً وشيوخًا، ومَلأَتْ دماؤهم الساحات، وذاقَ الناس هناك مَرارَة الفواجع تَتْرَى في ديارهم، ففَقَدَ الأب أولاده، والزوج زوجه، والابن والديه، والجار جاره، والصاحب صاحبه، وتخلخلت الثقة بين الناس، وصارت المذابح في كلِّ ناحية، أهوال مُرَوِّعة، بعد أن كانت مَوْئِلاً للإخوة والأقارب والأباعد، وسادَهَا الحبُّ ولَذَّة العيش، واطمِئنان الإيمان... ويَتساءَل الشاعر عن مضرم هذه الفتنة المُرَوِّعة من الإجرام الأسود، ويُؤكِّد أنه ما كان إلا من الشياطين التي تدور برأسها الأطماع والنهم:

مَنْ أَضْرَمَ النَّارَ مَنْ غَذَّى اللَّهِيبَ بِهَا
فَعَمَّ مِنْ وَقْدِهَا الْإِجْرَامُ وَالضَّرَمُ
وَمَنْ رَمَى الْفِتْنَةَ السَّوْدَاءَ فَانْطَلَقَتْ
مِنْهَا الفَوَاجِعُ وَالشَّحْنَاءُ وَالْأَضَمُ
كُلُّ الشَّيَاطِينِ فِي سَاحَاتِهَا دَلَفَتْ
يَشُدُّهَا الطَّمَعُ الْقَتَّالُ وَالنَّهَمُ

كما يقف الشاعر عند تفاصيل كثيرة في دراسة أسباب الفتنة، والجرائم المُرتَكَبَة، وآثارها القاتلة على المسلمين في كلِّ مكان، ويَخلُص إلى تقديم الحلِّ والنصيحة المُرتَكِزة على شريعة الله - سبحانه - والخالِصَة لوجهه - سبحانه وتعالى -:

عُودُوا إِلَى اللهِ لاَ مَنْجَى لَنَا أَبَدًا
إِلاَّ إِلَيْهِ وَشَرْعُ اللهِ فَالْتَزِمُوا
عُودُوا إِلَى اللهِ صَفًّا لاَ يُمَزِّقُهُ
حِقْدٌ عَلَى جَمْرَةِ الْأَهْوَاءِ يَرْتَكِمُ
وَأَطْلِقُوا النُّورَ فِي الظَّلْمَاءِ نُورَ هُدًى
لِيَجْمَعَ النَّاسَ أَمْنُ الْحَقِّ وَالسَّلَمُ

أمَّا الفصل الخامس، والذي كان عن مجزرة قانا في لبنان، والتي ارتكبَتْها عصابات الصهاينة، بأعتى قوَّة حربيَّة امتلَكَها الإنسان عبر التاريخ، بعد أن كان لبنان تاجًا للحياة عبر التاريخ، بما أبدى فيه الفاتِحُون من أخلاق، ورقيِّ التعامل، والتطبيق لشريعة الله - سبحانه وتعالى - ونظَمَ شاعِرُنا هذا الجزء من الملحمة على بحر الكامل وقافية الراء المكسورة:

قَدْ كُنْتِ يَا لِبْنَانُ سَاحَةَ أُمَّةٍ
مَوْصُولَةٍ وَعُرًى وَصِدْقَ ذِمَارِ

ويتحدَّث عن ظنونه في الأُمَمِ المتَّحدة أو القانون الدولي، لكنَّه يُؤَكِّد أن هذه الجرائم ما كانت لتُرتَكب لولا المذلَّة التي يَعِيشها المسلمون اليوم، ببُعْدِهم عن دينهم، وتركهم سبل النصر التي اختَطَّها الله - سبحانه وتعالى - لهم:

قَانَا حَسِبْتُكِ فِي الدِّيَارِ مَصُونَةً
بِالْعَهْدِ مِنْ أُمَمٍ وَمِنْ أَقَطَارِ
غَابَ النِّظَامُ وَلَمَّ زَيْفَ شِعَارِهِ
وَرَمَى بِكَيْدٍ صَارِخٍ مَكَّارِ
هَلْ تَغْفِرِينِ لِأُمَّةٍ نَامَتْ عَلَى
ذُلٍّ وَأَغْفَتْ فِي مَتَاهَةِ عَارِ

ويمشي الشاعر مع مجزرة قانا ببعض التفاصيل، التي يُحاوِل من خلالها بَيان بَشاعة الإجرام الذي ارتكَبَه الصهاينة، وكيف تَنادَى القوم لنجدتها بعد أن كان الرَّدَى قد حطَّ فيها من كلِّ ناحِيَة، وبقسوة لم تعهَدْها البشرية، فهل من مُغِيث؟! لكن الأيام دُوَلٌ، وستزحف الجموع غدًا لرفع رايَة الإسلام، وقهر الطغيان:

هُرِعُوا وَقَدْ أَهْوَى الْجَحِيمُ عَلَيْهِمُ
هَوْلاً يَمُورُ بِهِمْ وَضِيقُ حِصَارِ
طَلَعَ الْيَهُودُ عَلَيْكِ فِي حَوَّامَةٍ
مَجْنُونَةٍ تَهْوِي وَفِي إِعْصَارِ
جَمَعُوا مِنَ التَّارِيخِ كُلَّ جَرِيمَةٍ
عُرِفَتْ وَكُلَّ خَدِيعَةٍ وَشَنَارِ
قُولُوا لِبِيرِيزَ اللَّيَالِي دَوْلَةٌ
مَهْلاً سَيَعْقُبُهَا جَلاَءُ نَهَارِ
فَغَدًا تَرَى زَحْفًا يَهُولُكَ مُقْبِلاً
بِالْحَقِّ تُشْرِقُ طَلْعَةُ الْأَبْرَارِ

وقدرة الشاعر على الرَّبْطِ بين كلِّ المآسي، وما أشبهها في فلسطين، تُبيِّن مَدَى ما تعيش هذه المآسي في قلبه، وليس عجيبًا ما لاقاه هذا القلب، فقد أخبر شاعر الحكماء أنه:

وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا
تَعِبَتْ فِي مُرَادِهَا الْأَجْسَامُ

وقانا ذاقَتْ شيئًا ممَّا تعوَّدت مُخَيَّمات فلسطين على طعمه، فمَجازِر صبرا وشاتيلا، وقبلهما دير ياسين، وغيرها من مواقع المَجازِر التي لا يُفارِق مُرُّها حُلوقَ المسلمين في فلسطين، غُصَص فوقها غُصَص، فكأنَّما تكسَّرت النِّصال على النِّصال، لكن وإن كان البلاء بهذه المَجازِر قد عمَّ جموع المسلمين في القُرَى والمدن والمُخَيَّمات كلها، فإن الفجر قادِمٌ - إن شاء الله - وسيخرج من بين هذه الأشلاء طوفان من الأحرار مُتَلاحِقة، ستُعِيد للإسلام نضارته:

غُصَصٌ تُرَجِّعُهَا رُبَا الْأَقْصَى لَهَا
لِتُعِيدَ مَا فِي الدَّارِ مِنْ أَخْبَارِ
فِي دِيرِ يَاسِينٍ حَدِيثٌ مُفْجِعٌ
يُرْثِي وَيَدْفَعُ غَضْبَةً لِلثَّارِ
وَحَنِينُ قبْيَةَ لِلنِّزَالِ كَأَنَّهُ
مَلأَ الزَّمَانَ بِلَيْلِهِ وَنَهَارِ
وَرُبَا الْخَلِيلِ فَلَمْ تَزَلْ أَيَّامُهَا
فَجْرًا مُدَمًّى مُشْرِقَ الْأَنْوَارِ
قَانَا رُوَيْدَكِ فَالْمَيَادِينُ ارْتَوَتْ
أَفَلاَ تَرَيْنَ مَطَالِعَ النَّوَّارِ
فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ جِنَانٌ فُتِّحَتْ
وَعَزَائِمٌ نَهَضَتْ وَصِدْقُ نِفَارِ
مَا بَيْنَ أَشْلاَءٍ وَبَيْنَ جَمَاجِمٍ
وَثَبَاتِ أَحْرَارٍ إِلَى أَحْرَارِ

ويظهر جليًّا مدى التأثير الذي يعيش في قلب الشاعر، وحرارة الموقف، ومدى الترابُط بين المَجازِر في ذاكرته، حتى كأنَّه يعيش الحدث لحظةَ وقوعِه، فهَنِيئًا له هذا التفاعُل مع الأحداث، وهَنِيئًا للأمَّة هذا التذكير والحث على الوثوب لملاقاة هذا الطغيان الظالم، وتخليص البشرية منه، وإلى الأبد - إن شاء الله.

 

وجعَلَ الفصل السادس: كوسوفا: وتابَعَ نهجه في الحديث عن المأساة، والحقد الدَّفِين في صدور الكافرين، وكيف يتستَّرون بزيف شعارات الدين، ويُخْفُون أطماعهم الظاهرة البيِّنة، ويُمارِسون جَرائمهم كلَّها مُتَحدِّين التعاليم الإنسانية والدينية كلها، لكن شاعرنا الدكتور عدنان النحوي لا يرى إلا الأمل القادم، فيُوصِي بالصبر، والوفاء بحق الله، وانتظار تحقيق وعده - سبحانه وتعالى - ويَربِط مَآسِيها بفلسطين كما اعتاد، لكنَّه لا ينسى بقِيَّة المآسِي في عالَم المسلمين اليوم، من الصومال إلى الجزائر وكشمير، ولا يَحتَار الشاعر؛ فحيثما مَدَّ بصره تُلاقِيه المآسي بارِزَةَ الأنياب، غير باسِمَةٍ، فالمطلع المصرع قوله:

لَآلِئُ فِي السُّفُوحِ وَفِي الجِبَالِ
وَطَيْفُكِ مِنْ جَمَالِكِ وَالْجَلاَلِ

مُرورًا بكلِّ ما وصف من المآسي الكوسفية، ووصولاً إلى خاتمته التي فيها وصاياها والعِبَر في قوله:

رُوَيْدَكِ يَا دِيَارَ البُسْنِ صَبْرًا
رُوَيْدَكِ كُوسُفَا فَالْحَقُّ غَالِ
رُوَيْدَكِ يَا "فِلَسْطِينُ" اسْتَعِدِّي
وَيَا كَشْمِيرُ شُدِّي فِي النِّضَالِ
وَيَا صُومَالُ لُمِّي مِنْ صِرَاعٍ
أَصَابَكِ مِنْهُ أَلْوَانُ الْهُزَالِ
وَيَا دَارَ الْجَزَائِرِ كَمْ بَلاَءٍ
أَصَبْتِ بِهِ وَكَمْ مَرَضٍ عُضَالِ
دِيَارُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ أَضْحَتْ
مُمَزَّقَةً بِهَوْنٍ وَاعْتِلاَلِ
فَلُمُّوا مِنْ صُفُوفِكُمُ جَمِيعًا
عَلَى حَقٍّ أَشَدَّ مِنَ الْجِبَالِ

ولا يفوت الشاعر أن يُؤَكِّد أن النصر لا يكون إلا على يد التُّقَاة من أبناء هذه الأمَّة، الذين ينتمون إلى مدرسة الإيمان، ويُطَبِّقون الشريعة السمحة كما نزلت على محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - في قوله:

وَمِنْ عَزْمِ التُّقَاةِ إِذَا أَنَابُوا
عَلَى سَاحِ الشَّهَادَةِ وَالنِّزَالِ

ويعود إلى أفغانستان التي يقول عنها الكثيرون: إنها مقبرة الغُزَاة؛ لما في شعبها من قوة إيمان وانتماء إلى هذه الشريعة السمحة، واعتزاز بديارهم التي منَّ الله - سبحانه وتعالى - عليها بكثيرٍ من الخير والبركة؛ في طبيعتها وإنتاجها وتكوينها، فكم فيها من الشهداء والعلماء ورجالات الأمَّة عبر التاريخ، فما بالها قد عدت عليها العادِيَات بدهكل؟ في قصيدةٍ شكَّلت مرحلةً من ملحمة الشاعر، صاغَهَا على بحر الكامل، في عشرين بيتًا، قال فيها:

أَفْغَانُ يَا أَمَلَ الْقُلُوبِ تَطَلَّعَتْ
لِرُبَاكِ فِي شَوْقٍ وَعِزَّةِ مَأْمَلِ
مَا بَالُهُمْ أَضْحَوْا هُنَالِكَ وَيْحَهُمْ
شِيَعًا مُمَزَّقَةَ الْهَوَى الْمُتَبَدِّلِ
كَمْ مُجْرِمٍ سَاقَ الزُّحُوفَ إِلَى رُبَا
كِ فَتَاهَ بَيْنَ ذُرًا وَقَسْوَةِ مَعْقِلِ
هَلَكُوا عَلَى أَهْوَائِهِمْ وَتَمَزَّقُوا
إِرَبًا بِوَادٍ غَائِرٍ مُتَهَيِّلِ
يُطْوَى الْغُزَاةُ عَلَى رُبَاكِ وَتَنْمَحِي
وَتَظَلُّ دَارُكِ فِي جِهَادٍ أَمْثَلِ

والتاريخ يُسَجِّل للأفغان مَآثِر لا يعدُّها العَدُّ، ولا يحصيها الدارسون، فما بالها اليوم لا تبدي ولا تخفي؟!

قَدْ كُنْتِ ثَرْوَةَ أُمَّةٍ وَغَنَاءَ أَزْ
مِنَةٍ وَفَيْضَ مَنَابِعٍ لَكِ فَانْهَلِ
كَمْ عَالِمٍ دَفَعَتْ رُبَاكِ وَصَادِقٍ
دَاعٍ وَكَمْ يَوْمٍ أَغَرَّ مُحَجَّلِ
مَا بَالُ دَارِكِ أَحْوَلَتْ وَعَدَتْ عَلَيْ
هَا الْعَادِيَاتُ مَعَ الزَّمَانِ بِدهْكَلِ

وإذا كانت بلاد الأفغان قد ابتُلِيَت مرَّات بغُزَاة كان مصيرهم الهزيمة والاندِحار، فإن بغداد لم تكن بعِيدة عن تلك المآسي، بل لعلَّ ما أصابها أكبر من كلمات الوصف في لغات الكون كلها، ولا سبيل للنجاة سوى سبيل الله - سبحانه وتعالى - وسيُحاسب كل امرئ بعدالة ميزان الله - عزَّ وجلَّ - كلُّ ذلك نظَمَه الشاعر في العقد الأخير من ملحمته الشعريَّة، ملحمة التاريخ ودَوِيُّه، على بحر الكامل في سبعة وعشرين بيتًا:

بَغْدَادُ وَاأَسَفَاهُ هَذَا حَالُنَا
لَمَّا ابْتُلِيتِ فَمَنْ تَرَاهُ الْجَانِي
كَمْ مِنْ بَنِيكِ تَأَلَّبُوا وَتَنَاثَرُوا
فِرَقًا مُشَتَّتَةً وَهَوْجَ أَمَانِ
فَسَلِ الْمُسَادَ وَكَمْ رَمَى بِشِبَاكِهِ
وَكَمِ الَّذِينَ هَوَوْا إِلَى قِيعَانِ
هَذَا الْكِتَابُ وَتِلْكَ سُنَّةُ أَحْمَدٍ
نَطَقَا بِحَقٍّ صَادِقِ التِّبْيَانِ
لاَ يُعْذَرَنَّ سِوَى الَّذِي عَذَرَ الْإِلَ
هُ وَلَيْسِ بَعْدُ هُنَاكَ عُذْرٌ ثَانِ
هَذَا سَبِيلُ نَجَاتِنَا وَبِغَيْرِهِ
ذُلٌّ يُطِيحُ بِنَا وَقَهْرٌ ثَانِ

وبهذه القصيدة يصل الدكتور عدنان النحوي إلى خِتام ملحمة التاريخ، الشعرية، التي أراد لها أن تعبِّر عن المفهوم الإسلامي للملحمة، والذي يتلخَّص في الصراع الدائم الدائر بين معسكر الكفر ومعسكر الإيمان، منذ أرسل الله - عزَّ وجلَّ - محمدًا - صلَّى الله عليْه وسلَّم - وسيَبْقَى حتى يرث الله الأرض ومَن عليها، ليستخلص الله من المؤمنين الشهداء، ويتوب عليهم، ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ويَقِينُهم في الدنيا أن ذلك هو الفوز العظيم، الذي يَتنافَس فيه المتنافسون.

 

وقد اقتَصَر الشاعِر في مُعظَم قصائده على النظرة العامَّة لهذا الصراع؛ من حيث أسبابه، وحقائقه، والنتائج التي يسعى لها كلُّ فريق، والفِرَق الثانوية التي تنمو عادة بينهما، وهم الذين يسمِّيهم القرآن الكريم بـ(المنافقين).

 

ولعلَّ في قدرات الشاعر على تحسُّس العِبَر والوقوف عليها دورًا كبيرًا في المواعظ التي سطرها عبر هذه الملحمة، ونادَى بأعلى صوته المؤمنين المخلِصين لينتَبِهوا، ويعملوا وَفْقَ شريعة الله التي أنزَلَها على محمد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - لا يقصدون من عملهم سوى وجه الله - تعالى - لأنَّه السبيل الوحيد لِخَلاص الأُمَّة، وإعادتها إلى رايَة القيادة، ولتخرج البشرية من عبادة غير الله إلى عبادة الله، وتُنهِي الفتن التي ملأت الدنيا شرقها وغربها، ودخلت على المؤمنين في أخصِّ أماكنهم وسط المساجد، وفي عقر دارهم، وما غُزِي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.

 

ولو وقف الشاعر عند المواقف الجزئية في المَعارِك، التي يَعِيشها المُقاتِل في هجومه أو دفاعه، وما يراه أو يحسه ويَعتَلِج في خاطره، سواء عند انتِصاره أو عند نهايته - لوصلت ملحمته آلاف الأبيات، خاصَّة وأنه يحمل بين ضلوعه نفَسًا طويلاً، في قدرة فائقة على الوصف، ومعجم لغوي غني، وقدرة شاعرية متميِّزة.

 

فالمُقاتِل عند انتِصاره، وما أمدَّه الله به من قوَّة، فهو يده التي يبطش بها، وعينه التي يُبصِر بها، هدفه تبليغ رسالة الإسلام، وشريعة الله - سبحانه وتعالى - وهذا الكافر بين يديه يُقاتِل الله وجنوده، فهو حَقِير يذهب برجله إلى شفير جهنم، وتجحظ عيناه حين يرى الخاتمة المحتومة التي لا مفرَّ منها، فلا يملك إلا نظرة الأسى والذهول لفقده أعزَّ ما يملك وهي الحياة، والنعيم الحرام الذي تمتَّع به، فتمرُّ على عينه كلُّ صُوَرِ الفساد والضلال التي عاشَهَا، في الوقت الذي صار بصره اليوم حديدًا، فيرى ملك الموت المتأهِّب لينشط روحه، كما ينشط الحسك من الصوف، ويرى مقعده في النار، وتجهُّم الملائكة من الريح القذرة المنبَعِثة من روحه الكافرة الشرِّيرة، والتفصيل في هذا الموقف عند الشاعر له مَذاقٌ آخر، حين يختلط بالعواطف الجيَّاشة، والأحاسيس الرقيقة، والنفس اللماحة.

 

كما أن مشاعر النصر عند المؤمن وهو يُقدِم على التخلُّص من هذه النفوس الخبيثة، وما يَعتَلِج في صدره من أحاسيس تَرتَبِط بأوامر الله - عزَّ وجلَّ - وتنفيذها طلبًا لرضاه، وتمسُّكًا بشريعته، وما ينتظره من العِزَّة التي وعَدَه الله ورسوله، والفرحة تملأ قلوب المسلمين الذين يَنتَظِرون عودته، مُظَفَّرًا غانمًا سالمًا، يرفع راية الإسلام خفَّاقة عالية، تظلُّ بها الدنيا، وتنشر العدل والسماحة في الأرجاء.

 

كذلك الصورة الأخرى، صورة علو الكفر، وما تحمله من بغي وظلم وعدوان، وفِتَن لا يعلمها إلا الله، وسيطرة وقهر للعِبَاد، وارتفاع رايَة الكفر بما تحمله من الفساد والبُعْدِ عن شريعة الله، وانتشار الضلال، وسيطرة المادة، وغياب الأخلاق، وانتشار التعاليم الصِّهْيَوْنِيَّة الكافرة الباغية، مُقابِل انكسار شوكة المسلمين، ومشاعر الحزن والأسى على تَشَتُّتهم، وتفرُّق كلمتهم، وبُعْدِهم عن شريعة الله، وارتكابهم المعاصي، وما أذاقَهُم الله من الذلِّ على يد عدوِّهم بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير.

 

هذا ويتبع هذه الصُّوَرَ الميدانية صُوَرُ الأيامى، واليتامى، والثكالى، والنائِحين والنائِحات، والفجيعة بالأخبار المتوالِيَة من أرض المعركة، على الضعفاء الذين فقَدُوا أملهم ومُعِيلَهم، وحامِيَهم، والهدايا التي طالَمَا انتَظَروها، فجاءَهُم الموت، وفجيعته ومصيبته، فكانت السقطة أقوى، والطامَّة أكبر على نفوسهم.

 

ويتبع صورة علو الكافر حفلات الفساد، ومشارب الفتنة والضلال، واحتفالات الكبر والغوايَة، وإظهار القوَّة الظالمة التي تتحدَّى الله - تعالى الله عمَّا يصفون - ويظلم عباده، ويعلن عصيانه، ويتعدَّى على شريعته، ويدعو للكفر بها، ويحاربها، ويتَّهم أتباعها بكلِّ التُّهَم الباطلة المُضِلَّة، وما يتبعها من مُعانَاة المسلمين في كلِّ مكان يُسَيْطِر فيه الكفر، خاصَّة وأنه قد مدَّ مخالبه هذه الأيام حيث يشاء، فسبحان الله الذي يُمهِل ولا يُهمِل!

 

هذه هي الحلقة التي تكاد تكون مفقودة في المقارنة بين المفهوم الوثني للملحمة والمفهوم الإسلامي لها، فهناك الخيال والصور البعيدة عن الواقع، والتي اضطر كاتِبُوها لإدخال الآلهة في مَعارِكهم؛ ليجعلوها أكثر إثارة، ويَنتَزِعوا المشاعر من عُقُلها في الصدور، لينثروها حارَّة حارِقَة على الوجنات، مُلتَهِبة؛ لأنهم تحدَّثوا عن خصوصِيَّة الموقف الإنساني في اللحظات الحاسِمَة من الحياة، وهذا أمرٌ لا يُعجِز شعراءنا، بل حين يَقِفُون عنده سيبرزون؛ لأنهم سيعتَمِدون حقائق الأمور، بعيدًا عن الخيالات الكاذبة، وسيُصَوِّرون الحق كما أخبرهم به رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - نقلاً عن الله - سبحانه وتعالى - فإنه لا ينطق عن الهوى.

 

وهنا سؤال مهمٍّ: أيُّهم سيكون أكثر تأثيرًا على النفس؛ مَن اعتَمَد في وصفه على خيال كاذب، أم مَن اعتَمَد على خبر يقين؟! فسبحان الذي سخَّر لدينه وشريعته مَن ينصرها ويُقِيمها عبر التاريخ، وهو الذي لا يُغَيِّر ما بقومٍ حتى يُغَيِّروا ما بأنفسهم، ولا يُصِيب قومًا بمصيبة إلا بما كسبت أيديهم، ويعفو عن كثير.

 

هذا، والله أعلم، وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على خير الخلق، وعلى آله وصحبه ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- كتاب قيم
عامر - السعودية 02-05-2010 05:10 PM

الملحمة قيمة ونافعة وفيها من الفوائد الكثير

بوركتم على الدراسة الممتعة
وأرى أنها تصلح مقدمة للكتاب إن أردتم التحقيق والتعليق على الكتاب
ويصلح كتاباً مستقلاً بمزيد من الشرح والبيان أتمنى لكم التوفيق والسداد في كتاباتكم أمتعتمونا بهذه الدراسة متعكم الله برضاه.

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة