• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

على أوراق الخريف ( قصة )

محمد هيثم زين العابدين جمعة


تاريخ الإضافة: 1/5/2014 ميلادي - 1/7/1435 هجري

الزيارات: 13452

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

على أوراق الخريف


يمرُّ تحت أشجار الجوز في يوم خريفيٍّ بارد مُتدثِّرًا بمعطفه، يلفُّ حول عنقه لفحةً طوَّقته كأنها يدا طفلة تعلَّقَت بعنق أبيها من الخلف بكل ما تحمله من الحنان، جلَس على مقعد خشبي يُشبه بمظهرِه الجامد ملامح وجهه البائس، يجلس على المقعد كشيء رُمي رميًا عليه، قليلاً ثم يعدل من وضعيته بحركة متثاقلة مملوءة باليأس، يَزفر بعدها زفرات يُبرِّد فيها حرارة صدره ثم يدفن رأسه بين ذراعيه.. هنيهة.. ثم تهبُّ نسمة خفيفة، يُنبِّهه صوت ورقة خشنة تجر نفسها بتثاقل لتستقرَّ بين قدميه.. آه.. حتى ورق الشجر يَسير ببطء، بتثاقُل بطيء يقتلها الهم والكآبة لتُغادر ركنها على أغصان شجر الجوز، يُمعن النظر فيها وهي تستقرُّ بين قدميه المُجهدتَين، تستقر مجعَّدة مصفرَّة تخشَّب عودها فلم يبقَ لها إلا أن تتكسَّر لتذروها الرياح، قليلاً ثم يفيق إلى صورة أثارت انتباهه؛ أوراق غادرتها حياتها.. يَبِسَت.. تكسَّر بعضُها.. تجمَّعت وتكوَّمت فوق بعضها.. بمنظر لا يَخلو مِن صورة هموم مُتراكِمة.

••••


أنامل فارقتها حيويتها ورونقها، تقبض على ورقة من كومة الأوراق، يُقرِّبها إلى وجهه، يتأملها ويسرِّح نظره فيها، ثم شريط الذكريات يتتالى عارضًا مراحل من حياته الماضية، يُمعن النظر فيها، ساعاتُ لهوٍ وعبث كانت تمرُّ بحياته، يعيشُها، يُنفق فيها كل ما أوتي من جهد ومال وصحة ليؤوب إلى بيته محطَّمًا مُنهكًا آيسًا من الحياة، وأسرته أيسَت منه، يتراكَض عليه ولداه لكنه في شغل عنهما، طفل وطفلة كالملَكَين جمالاً ورونقًا، لكن عالم الشياطين كان قد استحوذ عليه بالكلية، ينظر ليجد زوجة كان همُّها سعادة أسرتها وكبْت ما تُعانيه من هموم بسبب وضع زوج كاد يَخرج من دائرة الحياة، تغيب عيناه في دوامة رمادية، تَنسرح ورقة اللهو والعبث لتنساح مع نسمات الرياح.

••••


يحمل ورقة أخرى.. ينظر.. وإذا به يجد نفسه عاري الروح في ثناياها، يرفعها إليه يتفقَّدها وإذا بها تحمل أسوأ زمن في حياته حين راهن على الفوز بقلب غادةٍ غَنِجَة أسقطت قلبه في حبائلها فهام بها، وغشي عقله غفلة ما يكاد يَصحو منها عاقل؛ هام بها عاشها كما يَعيش في حياته، عاشها هواءً يَستنشِقه، قوتًا يَحيا به، نسي نفسه، نسي أهله، أولاده، نسي أنه حي حتى شغل وقته وحياته بها، انطلق خلفها يُغدق عليها من ماله ووقته وعطفه الآسن المحموم العفن، حتى إنه نسي أن له بيتًا وأسرة؛ ولدَين هما ملكاه اللذان يعيش بهما سعادةً كأن جنة الخلد جُعلت في بيته، حتى إنه لم يعده أنه ابتلي بمرض أحدهما.

••••


ريحانة حياته وجنَّته ودنياه وآخرته، عاطفة الحب الصافي البريء تَمشي على قدمين.. صُدم كثيرًا كثيرًا كثيرًا، صوت تهشُّم وتكسُّر خفيف مَمزوج بحفيف مَخنوق، يُحيل ورقة بؤسه هشيمًا ذهبت مع الريح التي تلفُّه يمينًا لتدور من حوله يسارًا، تُسرع حينًا فتصفرُّ بين أغصان الجوز العالية الجرداء.

••••


يَضيق صدره بذكريات فقدِه ريحانته، يغصُّ ويَكبت بكاء يستحيل شهيقًا يكاد يقتله على ما فرَّط، على ما فعل، إنه حائر، يقوم عن المقعد ليُتابع سيره الوئيد خطوات، وإذا بورقة تصفَع خدَّه... ركبت موجة هواء لتقف عنده، ويا ليتها لم تَقِف؛ فقد فضحت ضعفه وسوءه، ولم يعرف لهمِّه مخرَجًا ولا لمُصيبته تفريجًا، طرق أكثر من باب من الأبواب التي توهم طارقها بفرجٍ لتَكشِفَ له عند فتحها أنه ما ازداد لا كربًا وضيقًا وبُعدًا عن الراحة، تشنَّجَت حنجرته دون أن يدري بحاله ليَصحو من ألمه واجدًا نفسه في دوامة من السوء والفحش، انغمَسَ فيهما إلى حدٍّ أوشَكَ أن يُضيِّع معها أسرته أكثر ممَّا أضاع وأضاع، يَشعر بحمل رهيب يَكاد يُحطِّم عظام صدرِه ويُفجِّر قلبه، وقف في ساحة الحديقة تحت طبقة مِن الغيوم الرمادية المسودة محاطًا بعويل من رياح أخذَت تشتدُّ.. كبَت وكبَت.. وكبت صرخةَ حرقة وألمٍ ما وجد لها إلا أن تخرج، صوت مزَّق صمت الحديقة وسكونها الكئيب، كما حطَّم كيانه مع نفسه البالية تركه يُشبه أي شيء في الوجود إلا أن يُسمَّى... إنسانًا.

••••


دوَّامة هنا، دوامة هناك.. كلٌّ يتلاعب بأوراق الجوز اليابس، ينظر ليجد بقايا أيامه المُبعثرة بين هذه الأوراق، يحدِّق النظر في بضع ورقات أمامه يُريد أن يرى ما تبقَّى له من ذكريات تقول: إنه كان يومًا ما "إنسانًا" يَنحني ليأخذ إحداها، لكن نسمة تهبُّ لتأخذ من أمامه ما تجمَّع من أوراقٍ مُفوِّتة عليه فرصة أن يتذكَّر نفسه متى كان إنسانًا آخر مرة؟ تطير الأوراق، يجمد على حاله لكنه يُشيِّعها بنظر شاحب كليل يائس لقد أدرك أن رياح الدهر قد أخذَت أوراق عمره يومًا بعد يوم، سنة بعد سنة، أدرك ذلك ولكن يشعُر بوخزٍ في صدرِه... شيء ما يَخترقه، لقد أوشك أن يُدنيه إلى قبره، اسودَّت الدنيا، اكفهرَّ وجه الحياة يُمسك بتلابيب نفسه، يفكُّ ذراعي تلك التي تعلَّقت برقبته من قبل، أراد أن يُري قلبه حياةً جديدة لكن هيهات!

 

يفرك صدره يحثُّه على التنفُّس، يُغمِض عينيه يَشعر أن روحه تنسلُّ من جسده رويدًا رويدًا، يئنُّ أنينه الأخير، يبحث عن خلاص لعله الموت أن يجد فيه خَلاصه.

 

مِن بعيد نسَمات الهواء تحمل إلى الأرجاء صوتًا نديًّا ممزوجًا بصفير هبوب الرياح وخربشات أوراق الجوز اليابسة، يُنصِت بقلب مُنكسر: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ﴾ [طه: 124] يَنهار باكيًا بدموع جعلته يشعر ولأول مرة أنه إنسان.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة