• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

حقيبة الذكريات

سعيدة بشار


تاريخ الإضافة: 11/7/2013 ميلادي - 4/9/1434 هجري

الزيارات: 8707

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حقيبة الذكريات


تَلَمَّسْتُ الحقيبة بهدوء، وفتَحْتُها بنبض قلبي المتعب، فتحتها كمن يُعيد فتح جرحٍ لم يندمل أبدًا، فاح منها عبق الماضي، بل عبق مَن أحببت، فتحت جرحي بيدي، كما فعلتْ هي ذات يوم، وأنا من سيفتحها من أجلي؟ يا ألمي! ماذا سيضع فيها؟ وكل ذكرياتي تنتحب، وتصرخ وجعًا: ما أتفَهَ ما عشناه وما نعيشه، ما أتفهَ كلَّ ما سنعيشه! فتحتُ الحقيبة بهدوء، سأضيف إليها مزيدًا من الذِّكريات، جزءًا مني إلى جزءٍ منها، ما أشدَّ ألمها الذي لم أفهمه إلا اليوم! يا أصدق قلبٍ في الوجود! جثتْ هي كذلك ذات يومٍ على حقيبة أخرى تُلملمُ فيها بقايا ألمها، أشياء بسيطة كانت لأمها: حزام أمازيغي تقليدي، سُبحة، بعض الصور، بعض الوثائق التي تشهد على تلك الحقبة من جرح أمةٍ بأكملها وكل فرحها، لم تحتمل موتها، لم تستطع تجاوزه، وأنا لم أفهمها، قال الأطباء بعد عمرٍ طويلٍ من العذاب: إن مرضها الذي أنهكها وأرقدها الفراش نهائيًّا كان بسبب صدمةٍ نفسية لم تحتمِلْها، ولم أفهمها أنا، كانت تُرتب حقيبة أمها وحدها، كانت تجوب الغرف الفارغة وحدها، كانت تعانق الصور المتبقية وحدها، لم نفهَمْها، كانت تبكي وحدها في سكون الليل وأثناء النهار، قاومت أنياب الذئاب التي لم ترحم ضعفها، وكشَّرت عن أنيابها في وجهها تطالبها بأي أثرٍ لميراث محتمل ما أشد ألمك أمي! لم أشعر به، ظل حبيس الزمن ينتظر عمرًا آخر لينفجر فيَّ كبركانٍ نام طويلاً، ولم يستيقظ إلا على وقْع هزةٍ أخرى حركت عمقه، ما أشدَّ وقْعَ الألم المتوارث!

 

أضع في الحقيبة بعضًا من ملابسها التي أنقذتها للذكرى، مصحفها الصغير الذي كانت تقدس قربه منها، لم تكن تقرأ ولا تكتب، لكنها كانت تعلم أن بين طياته كلام الله؛ ولذلك أحبَّتْه، وضعت فيها سبحتها، مناديل رأسها، مُنبهها الأثير الذي كان يوقظها لصلاة الفجر، والذي ظل إلى جانبها حيثما ذهبت، في المستشفى أو في البيت، ظل وفيًّا لها إلى آخر لحظاتها، مات المنبِّه على الثالثة فجرًا من ليلة ميلاد الرسول - صلى الله عليه وسلم - سقط من على الطاولة لحظة فارقته وفارقتنا، وضعت فيها آخر مخدة أسندوا عليها رأسها يوم جنازتها، قوارير عطرها، سواكها، مُشطها، تحاليلها الطبية، وصفات الأطباء المتراكمة، ما كنت أعلم أن تلك الآثار المتبقية ستكون أغلى عندي من كل ما أملِكه، وتحسُدني عليه الكثيرات والكثيرون، لو يعلمن لو يعلمون كم أغبطهم على ما يزال عندهم وما عاد عندي، هل يدرك من لا تزال أمه على قيد الحياة ما معنى أن يغادره القلب الوحيد الذي أحبه بصدق رغم عيوبه ورغم تقصيره؟ القلب الوحيد الذي أحب وهو لا ينتظر مُقابلاً؟ هل يدرك من لا تزال أمه حية ما معنى أن يدخل إلى البيت ولا يجدها فيه؟ أن يسمع الناس ينادون: "أمي" وهو ما عادت لديه أم يناديها؟ هل يدرك من كانت أمه لا تزال حية ما معنى أن يحتاج إلى حضنٍ يُلملم شتاته وحزنه وفرحه فلا يجده؟ هل يدرك من لا تزال أمه حية أن بابًا من أبواب الجنة قد أُغلق دونه؟ هل تدركون معنى ذلك؟

 

ربما شعرتْ بقُربه فاستيقظت من نومها، غسلت يديها وجلست على فراشها، ربما كانت تراه، بل يقينًا كانت تراه، ولم أكن أشعر بوجوده، خشيت عليها من السقوط، لكنها طمأنتني: "تعبت من النوم، أريد أن أرتاح قليلاً، لا تقلقي سأستلقي"، وأسندت رأسها إلى مخدتها، وبعد لحظاتٍ قليلة، وقبل أن أشك بما كان يحدُث في عتمة ما قبل الفجر، رمت بغطائها على الأرض، وألقت بنفسها، وكانت أرضي تتلاشى من تحتي، أشعلت الضوء لأرى أمي ساجدةً على الأرض، هي التي لم تسجد لأكثر من عشرين عامًا بسبب المرض، وكانت في أحسن أحوالها تُصلي جالسةً أو نائمة، أيكون قد أخبرها قبل أن يقبض روحها، ولذلك سبقت بغطائها إلى الأرض قبل أن تقع عليه وتسجد؟ لا أدري ماذا حدث في تلك اللحظات بينها وبين رسول ربها، لكنها سجدت كما يُسجَد للصلاة وقالت لي: "ارفعي لي رأسي"، وكانت تلك الجملة آخر ما سمعته منها، غادرت إلى ربها كما غادرت من قبل أمها وأبوها وأخوها الوحيد وزوجها، وبقيتُ أنا من بعدها أُلملم بقايا الذكريات وشتات قلبي وذاكرتي، ولأضيف إلى الحقيبة بعضًا من بقاياها، مُضافًا إلى بعضٍ من بقاياهم في انتظار من سيضيف بعضًا من بقاياي إلى بقاياهم، لا أدري من سيكون، أو من ستكون، ولكن أيها القلب الذي سينبض لبقايانا جميعًا لا تَنْسَنا بصادق الدعاء وجميل الوفاء؛ عسى الله أن يجعل لك من يُكرم ذكراك، أيها القلب الذي سينبض لبقايانا، لا شيء في الوجود يستحق أن تتلوَّث من أجله، ولا أن تُسكن فيك غيره، فكلنا إليه سائرون، وعن هذا الوهم راحلون، فأجمل المسير والختام.

 

وإلى كل قلبٍ سينبض لهذه الكلمات، رجاءً اذكروا أمي بخالص الدعاء، ونصيبٍ من القرآن، وما استطعتم من جميل الأعمال؛ عسى الله أن يُسخِّر لكم من يذكركم بما سبقتم دون أن يعرفكم أو تسألوه، وكذلك يُتوارث الوفاء.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- رحمها الله
صفية - الجزائر 05-11-2014 12:06 AM

خاطرة مؤثرة..
لكن كلنا إليه راحلون..
رحمها الله وأسكنها فسيح جنانه..

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة