• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

حج إلى السماء

علي أحمد العبدالقادر


تاريخ الإضافة: 3/3/2009 ميلادي - 6/3/1430 هجري

الزيارات: 5772

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

كنت أبحث عنه ليعد لي كوبا من الشاي، رأيته يمر من أمام مكتبي مسرعا فناديته، إلا أنه لم يعرني سوى التجاهل.. لأول مرة منذ التقيته يفعلها!!

خرجت من مكتبي في إثره وشياطين البشر قاطبة تأزّني، ناديته من جديد بصوت أعلى ونبرة أشد، لكنه كان مصرًّا على تجاهلي!! أخذت أتمتم: يبدو أنني لينٌ معه أكثر مما يجب، صحيح أنني مسالم بطبعي، إلا أنني لا أرضى أن أتحول إلى "مسخرة"!!

دلف إلى المطبخ ودلفت خلفه، هممت أن أجعل منه عبرة لبقية عمال الشركة، أمسكته من كتفه الأيسر وأدرته نحوي بقوة، ولكنني تجمدت فجأة؛ رأيت عيناه تسكبان شيئًا يشبه الدمع!! هل هو حقًا دمع؟ لا أدري ما الذي جعلني أشك!! ربما لأنني تفاجأت بأن هذا الكائن - المسمى مجازًا إنسان - يحس ويشعر؛ بل ويمتلك حق البكاء!!

سألته بشيء من المجاملة المشوبة بالاستغراب: ناصر "إيش في مشكل أنت"؟

شهق شهقات متتالية، وارتمى على كتفي مجهشًا في  البكاء!!

لوهلة.. نفرت منه وأحسست بالتقزز، كدت أبعده عني، ثم إن بقية من حياء جعلتني أأثر التريُّث.
- لم يحدث أن سمحت لهندي بالاقتراب مني إلى هذا الحد!!- أخذت أتأمله وهو يبكي، صوت نشيجه.. أنفاسه الحارة.. ومنظر الدموع المنهمرة على وجنتيه.. كل ذلك كان حقيقي!!

أجلسته بهدوء على أقرب كرسي، وملأت له كوبًا من الماء، وجلست أنا الآخر لأفهم.

كان المشهد بالنسبة لي مذهلاً، لم يسبق لي أن رأيت رجلاً يبكي بنهمه وحرقته!! ثم ما الذي يدعوه لذلك؟ وأي أمر قد ألمَّ به؟

كنت أظنه ومَن على شاكلته من العمال والمستخدمين قد فقدوا أحاسيسهم بعد أن تشرَّبت نفوسهم الهوان، وأدمنوا تجاهل الناس لهم، وأصبحت أدمة مشاعرهم بسمك جدار، خدشها صعب، إن لم يكن مستحيلاً.

أخذت أرمقه وقد بدأت كفاه تعملان في وجهه عمل المنديل، ولحيته القصيرة قد تخضَّبت عن آخرها بالدموع. رأيت في عينيه انكسارًا يذيب الحجر الأصم، للمرة الأولى أستشعر إنسانيته!! أحسست بالخجل من نفسي المتعجرفة، وأخذت أسبني وألعنني.. أنا المنتن عديم الإنسانية..

مددت يدي نحو ذقن،ه ورفعت رأسه لمحاذاتي وسألته: "ناصر إيش في مشكل؟ كلم أنا.. أنا سمسم أخو".

عندما رأى إلحاحي المتكرر بدأ يحدثني بلسان متلعثم وبعبارات مبعثرة وأفكار مشتتة.. حدثني عن الإنسان حين يكون في أعتى انكساراته، حين يغادره الأمل تاركًا إياه ينزف عند نقطة الصفر.. حدثني عن ذهب زوجته وأخته ووالدته الذي باعه ليكمل بثمنه قيمة "الفيزا" التي حضر بها إلى المملكة.

حدثني عن كفيله الذي يملك شركة استيراد وتصدير وهمية، يستقدم من خلالها العمال ليتاجر بهم، ويحولهم إلى أبقار تعمل في مزارع الغير؛ فتدرُّ له في نهاية كل شهر آلاف الريالات، وكيف أن السيد (الكفيل) يتفنَّن في رفع الأتعاب التي يتقاضاها نظير إنجاز معاملاتهم الرسمية.

حدثني عن الثمانمائة ريال التي يتقاضاها في الشركة - التي جمعتني وإياه - وكيف أن مصير تسعة أنفس معلَّق بها، حدثني عن ابنته التي يكتوي قلبه عند سماع صوتها ولا يستطيع أن يراها إلا من خلال الصور، وعن أخيه الذي قضى نحبه في اعتداءات همجية من قبل الهندوس، وكيف أنه ورثّه ثلاثة أطفال وأمهم، ولا معيل لهم بعد الله سواه.

حدثني عن سنواته الست التي قضاها في المملكة، وكيف أنه أبى خلالها أن يتمتع ولو بإجازة واحدة؛ رغبةً منه في توفير مصاريف السفر لمهر أخته.

حدثني عن الفيضانات التي اجتاحت – ما تعارفوا على أنه - منزلهم، وكيف أنهم أعادوا بناءه من مخلفات وأنقاض المنازل الأخرى.

حدثني عن والده المريض؛ الذي اضطروا بعد أن التهم السكر أطراف قدميه إلى بترهما ليبقوه حيًّا؛ فأصبح عاجزًا يتمثَّل له الموت صباح مساء في كل ما حوله...

ثم إنه أراد أن يكمل، إلا أن عبرته غلبته فسكت...

أزيز صدره ينبئ بحجم الألم الذي يسكنه، ويشي بأن ما خفي كان أشد وأنكى.. آلام البوح كآلام المخاض.. قاسية لا تُحتَمل، ونفسه التي تخلّق الشقاء في رحمها تستجدي عطف من يجيد الإنصات؛ عله يريحها من هذه الآلام، وأنا بطبعي بليد وسلبي جدًّا في التعاطي مع هذه اللحظات.. أحتاج لوقت طويل للتفاعل مع الحدث، ووقت أطول لأترجم التفاعل إلى فعل.

تساءلت في نفسي: كيف يطيق جسده الضامر هذا الحِمل؟ بل كيف ينوء قلبه بهذه الأهوال؟

حاولت أن أتخيل نفسي في موضعه، لكنني سرعان ما طردتُ هذه الفكرة من رأسي، متعوذًا بالله، ومستشعرًا في نفسي طعم الأمان، بعد أن تيقَّنت بأنَّ كلَّ شيء كما هو، وأني لازلت أنا.

التفت إلي - بعد أن كان يطيل النظر إلى الأرض - قائلاً:
"أنا كل شهر شيل ثلاثين ريال عشان جيب فلوس حق حج.. ستة سنة يبغى سوي حج ما يقدر.. الحي أنا في ألفين ريال، أنا روح كفيل يبغى جيب ورقة حق جوازات عشان حج.. هو كلام جيب خمسمية ريال.. بعدين لا حول ولا قوة إلا بالله أنا يعطي هو، اتنين أسبوع أنا انتظار ورقة ما في سوي.. أنا قبل شوية اتصال سكرتاري حق هو مكتب، هو كلام هزا كفيل في سفر.. هو روح مصر سوي إجازة عيد .. وهزا ورقة حق أنا ما في سوي"... ثم عاد ينشج من جديد.

تذكرت بأن اليوم هو السابع من ذي الحجة، وتصاريح الحج قد توقف إصدارها منذ أيام، وهذا المسكين مازال ينتظر!!

لم يعد بوسعي تحمل المزيد، قلبي المترف غير معدّ لاستقبال هذا الكم الهائل من المعاناة، قررت الهرب والانسحاب إلى عالمي الأناني، أنقذني رنين هاتفي الجوال؛ فاعتذرت منه، وخرجت على عجل، وأنا أستشعر مدى ضألتي أمام قامته.. أنا الذي أعيش هنا ولم أفكر يومًا في الحج!!

إجازة عيد الأضحى أنستني ناصر، اليوم هو يوم عودة الموظفين للعمل، دخلت الشركة منتشيًا، سلَّمت على هذا وذاك، لمحتُ من بينهم ناصر، قامته اليوم تطاولت على غير العادة، ومنظره يوحي بالثبات كأنه مستعد لشيءٍ ما، حاولت أن أنسحب دون أن يراني، ولكنه لمحني واقترب للسلام علي، خطواته على غير عادته.. تبدو واثقة، شفتاه تعلوهما ابتسامة، بعكس انكسار ذلك اليوم؛ تعجبت من أمره.. ربما قضى في العيد إجازة سعيدة!!

بعد صلاة الظهر، وأثناء خروجنا من المسجد المجاور لمقر الشركة، احتضنت ناصر سيارة مسرعة، ما لبثت أن أفلتته مزعًا مبعثرة..

الكل كان يحوم حول جسده الممزق، وأنا كنت من بعيد أراقب تلك الأنوار التي تحف روحه بالتجليل والتعظيم، تشيعها نحو الأفق، ومن هناك وبعد أن   دخلت روحه في النسك، أخذت ترمل صوب السماء، وقد اضطبعت رداءًا من نور.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
4- مغدقة في الحزن
هادي السيد 03-04-2010 08:39 AM

جميلة قصتك وإنسانية

وفقك الله

3- أشكرك
زياد الحكمي - المملكة 12-04-2009 08:36 AM

شكرا لكاتب هذه القصة؛ لأنه يعالج مشكلة مجتمعية يتطرق لها البعض بقوالب جامدة

بينما التطرق لها بشكل أدبي محترف يجعل المتلقي يستوعبها ويتقبلها.

شكرا لك مرة أخرى

2- الحزن حين يتجسد في موقف
رامي - السعودية 16-03-2009 03:19 PM
الأخ الفاضل/ علي العبد القادر

قصة موجعة بحق، كان الله في عون المستضعفين وكل منهم على شاكلة ناصر

نص رائع والحوار الثنائي بين بطل القصة وبين إنسانيته رائع أيضا.

دمت موفقا

وأتمنى أن أقرأ نصوص أخرى لك.
1- وفقكم الله
ابن الاسلام - مصر 03-03-2009 02:43 PM
قصة متميزة ونتمنى لك المزيد من النجاح
1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة