• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

الخبز آخر المساء (قصة قصيرة)

مروان عدنان


تاريخ الإضافة: 25/11/2012 ميلادي - 11/1/1434 هجري

الزيارات: 6988

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الخبز آخر المساء


ما أن حلَّ المساء على سوق قرية "ماردين" النائية، وأزِفتْ ساعة السوق الأخيرة على الانقضاء، وبدَأت يد الظلام الخفيَّة تبتلع ما تبقَّى من وَهج الشمس الذي بدا شاحبًا - حتى أخذت شياطين الأرض محلَّها حين انزَوت شياطين العالم الآخر جانبًا، بعد أن باضَت وفرَّخت طيلة النهار.

 

شياطين العالم الآخر التي تَشهد على نفسها بـ"الشيطنة" وغَوايةِ النفوس - أرحمُ من شياطين الأرض التي تَلبَس جِلد الشفوق وثياب العطوف الرحيم، ثمَّ لا تَملِك أن تعطي مما ادَّعتْه شيئًا!

 

شياطين الأرض تَبحث عمَّن هو خاوي الجيب، كسيف الحال، مُعْوِزٌ إلى المساعدة، طيِّب القلب؛ لتَخدعهم وتشتفي بهم حين تَقتل ما تبقَّى في نفوسهم من أملٍ، ودَّت الشياطين لو أصبحَت مثلها الملائكةُ!

 

كانت أقدارُ ذلك المساء قد قسَت على بائع الخبز العجوز "أبي يحيى"، الذي بدا كالمركب المتهالك الذي يُوشك أن يَبتلعه بحر الظالمين.

 

كان يومًا بائسًا بالنسبة لأبي يحيى، بُحَّ فيه صوته وهو ينادي: "قطعتان بليرة واحدة فقط"، غير أن أبا يحيى لم يَبِع من قِطَع الخبز إلا أقلَّ من نصفها طيلة ذلك النهار المُنجمد من نهارات "ماردين"، ذلك النهار الذي كسفت فيه شمسان: شمس السماء التي تُشرق بنورها، فتكون ضوءًا ودِفئًا لمن تحتها، وشمس الرحمة التي يصحو شعاعها؛ ليفتح مساره إلى قلوب البائسين من أمثال أبي يحيى.

 

أنفاس الكهل والمطر، كلاهما كان يتصاعَد بحِدَّة، بينما كان أبو يحيى ينتظر يدًا ملائكيَّة تَسحبه من تحت المطر والظلام رأفةً بشيبته، يَنتظر مَن يُؤْويه هو وسَلة خبزه الذي بات يخشى عليه البَلل أكثر من نفسه، فالخبز في السلة بالنسبة لأبي يحيى هو مالٌ مؤجل سيَؤول إلى جيبه في النهاية إذا ما حالَفه الحظ ببيعه!

 

كان كثير التأسُّف لو أصبَح هذا الخبز طعامًا للمطر، بدلاً من أن يَسُدَّ رَمق البطون الخاوية ولو بلا مقابل، هكذا هو أبو يحيى في لحظةٍ واحدة شعَر كأنه غني يَرثي للفقراء!

 

وفي زحمة هذه الخواطر التي توارَدت على ذهنه، إذ برِق صوتٌ من عُمق الظلام: تعالَ هنا أيها الشيخ، لم يُحسن أبو يحيى تمييزَ مصدر الصوت، التفَّ حول نفسه دورةً كاملة تقاسَمت فيها الجهات الأربع وجهته المحتملة، ثمَّ أخذ يُرَأْرِئ بعينيه حتى تكرَّرت الدعوة: هنا يا عم، هنا.

 

بدا أبو يحيى - مضطرًّا - يتتبَّع مصدر الصوت، دعوةٌ كان يَشتهيها، والأجواءُ لا تَسمح لمثله إلا بقَبولها.

 

دكانٌ قديم تَفوح منه رائحة جلود الأغنام المُنفِّرة، وقَف في وسطه رجلٌ مفتولُ العضلات مشدود القامة، تبدو عليه "آثار النعمة"، وما أن رآه أبو يحيى حتى انهالَ عليه بعبارات تَنِمُّ عن شكره وامتنانه لمُروءته ورحمته بشيخٍ مُسنٍّ مثله، صدق من قال يا بُني: لو خليت قلبت! الدنيا لا تَزال بخير، بخيرٍ عميم!

 

أشكرك من قلبي لاستضافتي في دُكانك رَيثما يَنقطع المطر.

 

أَستضيفك في دُكاني؟! قالها الرجل بتهدُّجٍ وقد ارتسَمت في مُحيَّاه أمَارات الدهشة والتعجب.

 

ماذا تَخرَف أيها العجوز؟ وهل حسِبتني صاحب فندق؟!


كم بقِي معك من قِطَع الخبز؟ وكم تُساوي قيمته؟

 

فَهِم أبو يحيى مراد الرجل، إذًا هو يريد شراء الخبز فقط، لا بأس؛ شيءٌ أهون من شيء، أبيعُ الخبز وأتحمَّل المطر وحدي، بدلاً من أن يَجلدني المطر ويُتْلِف الخبزَ، قال ذلك أبو يحيى في خاطره وقد شعَر للمرة الأولى في حياته أنه مُحنَّكٌ في التجارة، ويُحسن موازنة الأرباح والخسائر!

 

معي عشرون قطعة وثمنها يساوي عشرة ليرات فقط، يا سيدي، كما كنتُ أبيع طيلة النهار.

 

ماذا تقول أيها العجوز؟ وهل ثمن الخبز تحت الشمس كثمنه تحت المطر؟! عليك أن تَكتفي بخمس ليرات لا غير!

 

كيف؟ لا يمكن هذا يا ولدي، هذا يضرُّني!

 

على العكس يا عم، أُريدك أن تكسب النصف بدلاً من أن تَفقِد الكل تحت المطر، وأظن أنَّ الأمر لا يحتاج إلى كثير تفكيرٍ، ها، ماذا قلتَ؟!


ولكنك يا سيدي، ولكني ماذا؟ ها، غني وجَشِع؟! أهذا ما تريد أن تقوله أيها الهَرم، حتى أنت؟!

 

لا أقصد هذا يا سيدي - قالها أبو يحيى بأسفٍ - وتسمَّر في مكانه لا يدري ماذا يفعل أمام هذا الرجل الذي بادَره قائلاً:

لا فائدة منك أيها العجوز، اذهَب فلن تجدَ مَن يشتري منك الخبز غير المطر! ولكنه سيَشتريه بلا مقابل! وستَذكر حينها نصيحتي، وستَندم ساعتها؛ لأنك لم تَقبل بالليرات الخمس! وأطلق الرجل قَهقهةً عالية ترَكت أثرًا عميقًا في نفس أبي يحيى عن نفوسٍ لا وجود للرحمة في قواميسها!

 

اتَّكأَ أبو يحيى على عمودٍ من الخشب وقد ذَوى كغصنٍ قصَفته الريح، تُراودُ مُخيِّلته ضحكةُ أمِّ يحيى وهي تَعجِن العجين في الصباح، وتُتَمتِم بأذكاره، ليتها فهِمت أن أمل العجين أول الصباح هو همُّ الخبز آخر المساء!

 

وفجأةً تناهَى إلى مَسمع أبي يحيى صوتٌ غلَّف الحنان نَبرَته، وقد أفسَد على أبي يحيى تأمُّله:

تعالَ هنا أيها الشيخ، هنا يا عم، هنا!

 

غير أن أبا يحيى هرَب بعيدًا عن مصدر الصوت، وداسَ طريق العودة إلى "ماردين" بـ"جزمتيه" اللتان بدَتا أثقلَ وزنًا بما حمَلتا من الطين.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- ---
عمر الخالدي - العراق 25-11-2012 04:23 PM

زادك الله من فضله أستاذ مروان؛ فقد أجدْتَ السردَ وأبدعتَ في التصوير .

جميلة .. رغم الألم ..

أترى معه حق في الهرب من مصدر الصوت؟

ألهذه الدرجة انكمش قلبه!

أوَليسَ الغريق يتعلّق بقشّة؟

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة