• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

الخروج وذاكرة أمي

مصطفى محمد ياسين


تاريخ الإضافة: 1/11/2008 ميلادي - 3/11/1429 هجري

الزيارات: 7450

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر
الخروج وذاكرة أمي
لا تَزَال أُمِّي بعد تِلكَ العُقُود تقصُّ علينا شيئًا مِن شبابها في القرية[1]، التي شهدت تكوينها؛ كأنها تحكِي عَنْ شيء شاهدته في التِّلْفاز بالأمسِ.
نَمْتَحِن ذاكرتها ونَسْتَفِزُّها؛ لتعيدَ مَقَالاتِها التي ردَّدَتها دائمًا بِكُلِّ فَخْر وأسًى:

- دجاجاتها، والبيضة بثلاثة قروش.
- البقرة التي رَمَتْنِي بِقَرْنَيْهَا عنِ المصطبة.
- أكواز الصبر التي كانت تقطفها منَ "الرُّكْبَة" بآلتها الخاصة.
- القمح البلدي مِن سنابله الذهبية ذات الرُّموش السَّوداء.

جِئْتُ إليها يومًا؛ أُحَدِّثها عن شجرة صَبْر، رأيتُها بزُهُورها البنفسجيَّة، فانْتَفضَتْ، وتنَبَّهَتْ لي؛ كأنِّي أسْخَر منها ومِن ذاكرتها، قالتْ: "آه، زهرة الصَّبْر صَفْرَاء، إنها ليستْ زرقاء، اسْكُتْ، اسكتْ".

وأيْقَنْتُ أن ذَاكِرَتها في العقد الثامن منَ العمر لا تَزَال حَيَّة.

"حتَّى الأيام الأخيرة، وقبل الطَّلْعَة كان أبوكَ يجلب القمح ويُودعُه المَطْمُورة[2]، أتى المهاجرون منَ القرى المُجَاوِرة وكَثُروا؛ سَكَن بعضهم في القرية، وبعضهم في الكُهُوف المجاورة، وأبوك ينقل ويخزن، وتُسارِع جدتكَ إلى استنفارنا للخروج، ونساق جميعنا منَ الدار، ونترك البوابة مفتوحة على مِصراعيها، (والهشة)[3] الكبيرة عند البوابة مليئة بالماء؛ إنَّها سبيلٌ تركناها يا بني؛ لقدِ اقْتُلِعْنا كما تُقْلَع الشجرة من الأرض، التي أحبَّتها مُنذ هي بذرة صغيرة تقبِّل ترابها؛ هل يمر أحدٌ بالطريق التي كانت عامِرَة بالقادمين إلى السُّوق والمغادِرينَ، ويعمدون إلى الماء ويُطفئون ظمأهم؟".

لا أدري، يا أمي.

"وبعنا بقراتِنا في سوق الخليل - المدينة - ثُمَّ انحدرنا إلى أريحا؛ حيثُ الماءُ والدفء والخيام، كنَّا - يا بُني - في (علية)[4]، وعليها السُّور العالي الكبير، باب الحوش يَدخلُ منه الجمل مُحمَّلاً".

قالت أمِّي: "كنت ماهرة في تلقيط الصبر، جعلت علبة في رأس عصا طويلة، أَصِلُ بها إلى أحسن كوز[5] وأقطفه؛ أضعه في القُبَّعة، وعندما أملؤها أضعُها على رأسي، وأعود إلى البيت.

عندي مكنسة (نتش) نظيفة؛ أنظِّفُ بها أكواز الصبر، وأقشرها، وأوزِّعها في قُبَّعات[6] صغيرة لعَمِّك، وجدتك، وسيدك".

 كما تُكرر أمِّي دجاجاتها؛ كانت تطعمها قمحًا، وكان بيضها كثيرًا، ويسرقون منه، ويبقى ما تبيعه؛ كان فيه بركة، كان غاليًا؛ جَمَعت منه ثروة، واشترت إسْوَرة فضَّة، وملابس، وحريرَ خياطة، وتَمْرًا يجيء من جهة غزَّة، وحلاوة، وزبيبًا، عمرها ما قالت لوالدي أنْ يعطيَها تعريفة.

عندما أُرْسلُ لها حباتٍ من التين؛ تنفتحُ نفسها للحديث عن التِّين، الذي كانت تلقطه مع الصباح الباكر على النَّدى وبعدُ (مشطب)[7] مثل العسل، لم يبقَ لنا ذلك البيت الحجر الجميل، ولا البلدة الرَّائعة، التي كونت ذاكرة أمِّي وشبابها وزواجها من أبي، والسمن والزبدة واللبن، الذي كان يملأ (السعن)[8] الكبير؛ أصبحت محفورة في الذَّاكرة؛ كما حفرت الحروف "الهيلوجروفية" على حَجَر رشيد؛ لقد صارت قريتُنا أثَرًا بعدَ عين، لقد هَدَمَها الصهاينة كلَّها، ولم يَبْقَ من معالمها إلاَّ بعض (ركب الصبر)[9]؛ مثلُ تلك التي كانت أمي تحسن التقاط أكوازها.

مع نسائم الخريف، وعند حُلُول ذكرى الخروج، تستَشْعر أمُّ مصطفى بُرودة تسري في أوصالها؛ فتناديني، وأجيب: نعم، يا أمَّ مُصطفى.
- "(شوية) قمح بلدي". 

وأفهم ما ترمي إليه، وما تريده بالتمام، ولا أجرؤ أنْ أناقِشَها حتَّى لا تغضب، وأحضِرُ لها نِصْف كيلو من القمح، وتأخذ أمي عصاها، وتقوم وتمشي مُعتمدة عليَّ حتَّى نَصِلَ سقف الغُرفة المجاورة، تُمسكُ حفنة من القمح، وتنثرها على السطح، وتتساقط عصافير الدوري، ثم ترمي، وتَتَكاثر العصافير تلتقط الحبَّ بِنَهَمٍ وشَوْق، وتنظر في وجهي، تتفحصه؛ "ترى يا بُنيَّ، هل هناك من يطعم دجاجاتي؟ يا ترى، هل عندهن ماء في المقر[10]؟ عُمرُهن ما جُعْنَ، ولا عطشن"، وتأخذ في البكاء، وأمسح دموعَها، وتسألُني: "مَتَى - يا بُنَيَّ - نعود إلى بلدتنا؟ وأعود بها إلى مجلسها".

وأجِدُ دُموعي تنحدر ساخنة ساخطة؛ لقد مَضَى ستُّون عامًا على أحلام أمِّي بالعودة، ولا زالت تنتظر، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.


[1]  القرية: موضوعُ القِصَّة تسمَّى "الدوايمة"، وهي منْ أعمال مدينة خليل الرَّحمن؛ احتُلَّت في 29/10/1948، يومَ الجُمُعة، وقَتَل الصَّهاينة في مَسْجدها أكثرَ من مائة مُصلٍّ، وفي القرية وأطرافها أكثَرَ من ثلاثمائة، وفيها ارتُكِبت أكبرُ مَجزرة في فلسطين، ثم سُوِّيت معالِمُها بالأرض. 
[2]  المطمورة: حُفرة في الأرض لتخزين القمح. 
[3]  الهشة: إناء كبير من الفخار لتبريد الماء وحفظه. 
[4]   العلية: البيت من دورين. 
[5]   كوز: واحدة ثمار الصبار. 
[6]   قبعات: مفردها قبَّعة، إناء من القشِّ حفظ بالجلد ليدوم. 
[7]   مشطب: كثير الشقوق. 
[8]   السعن: وعاء من جلد لصغار الماعز، وكبيره (قربة). 
[9]   رُكب الصبر: أشجار الصبَّار، نبت أثماره شوكيَّة كثيرة الحبوب. 
[10]   المقر: حفرة صغيرة في حجر تشرب منه الطيور.




 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة