• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

جميل بثينة

أ. محمود توفيق حسين


تاريخ الإضافة: 25/8/2011 ميلادي - 25/9/1432 هجري

الزيارات: 9339

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

جميل بثينة


تجلس الآنسة (ندى) الصيدلانيَّة النحيفة على طرَف سرير أمِّها الممددة في المستشفى، والأمُّ أغلقت عينَيْها على الدُّموع، ونامَتْ قليلاً في حُزنٍ محتشمٍ بشَعرها الملفوف وقد اختلط فيه بقايا الحنَّاء وبعض البَياض، في قميص المرضى السماوي الذي أضفى عليها شيئًا من بَراءةٍ حزينةٍ مُترهِّلةٍ، تُربِّتُ ابنتُها على يدها التي انغَرسَتْ بها إبرة المحلول، تربِّت تربيتًا حانيًا ومؤنِّبًا في آنٍ واحدٍ، تُؤنِّبها على حُبِّها لهذا الزوج الذي رأَتْه الصيدلانيَّة خاويًا أنانيًّا منذ جاء في طُفولتها منذ سبعة عشر عامًا.

 

الزوج العصبي مشى من هنا منذ قليل، دخل مُتوتِّرًا بقامته الطويلة وبذلته الصيفيَّة الرماديَّة، التي تُفضِّل الزوجة أنْ تَراه فيها؛ لأنها تعطيه سنًّا قريبًا من سنِّه الحقيقيِّ الذي لا يبدو عليه أبدًا، جاء من قسم الماليَّة ومعه نسخ من الفواتير العلاجيَّة يقبض عليها بضيقٍ، وقَف عندها وأمامه الطبيب من الناحية الثانية، يخبره الطبيب بالحاجة لعمل مزرعة وتحاليل إضافيَّة، ينظُر إلى زوجته المريضة مستفزًّا والطبيب يُراقِب ضغطها، هربت بعينها عن عينه، متأسِّفةً من مرضها وتكاليف علاجها بالمستشفى التي انطرحت فيها منذ شهر، حتى عضَّت شفتها من الحرج، وما أنْ خرج الطبيب حتى صاح في زوجته: "يا ست موتي وخلِّصينا، قبل ما تخلَّصي على كلِّ اللي حيلتنا"، ففزعت، كأنه رجَّها بكلماته القاسية ونظرات عينيه المتفجِّرتين بغضبٍ حيوانيٍّ أحمق غير مسبوقٍ؛ أمَّا ما كان في عينَيْها فهو شيءٌ آخَر فوق الصدمة والحسرة لم يره؛ لأنَّه انصرف مسرعًا.

 

مسكينةٌ يا أمي، هذه آخرة عِشْرتك معه، خلَع ذهبك وخبَّأه حتى عنِّي، وبكلِّ تأكيدٍ سيخطب به بعد موتك، وأي أموال ادَّخرها هذا المتبجِّح وراحت في علاجك؟ أليست من ميراثك عن والدك ثم المرحوم أبي؟ ألم يُضيِّع ذلك الموظف الحكومي البائس الشاطح من أجل أنْ يُحسِّن دخْله بعضَ ما ورثتِه في بطارية الأرانب وورشة أعمال (الأركيت) وغيرها وغيرها؟!

 

لن يُصدِّقنا أحدٌ إذا ما شكونا منه، فهو في نظَر الأهل والجيران ظريفٌ لَبِقٌ مهذَّب، لا تخرج العيبة من فمه؛ وأنا وأنت فقط نعرف حدَّته وخفَّته ومزاجه الهوائي عندما يغضَبُ ويندفع في وجهك بكلِّ حماقةٍ، كابنٍ عاقٍّ مُدلَّلٍ أكثر منه زوج قاسٍ، ليعود لك بعد ذلك بابتسامته الرخاميَّة البلهاء، يذكِّرك باسمه واسمك المتطابقين مع اسم الشاعر العربي ومحبوبته، هو (جميل) وأنت يا أمَّاه النائمة (بثينة)، ليُؤكِّد لك بابتسامته العريضة الرخاميَّة أنَّه قدَرُك وأنتِ قدَرُه.

 

لا شيءَ بينكما غير هذه الصُّدفة غير السعيدة التي اكتشفها عندما كنتما زميلي عملٍ، وكنتِ على ذمَّة أبي، هذا الشيء الهش الذي حاولتِ أنْ تُحافِظي عليه من بعد ذلك، عندما صِرتِ على ذمَّة جميل، جميل الذي تزوَّجتِه بعد يومٍ من انتهاء عِدَّتكِ، وكلَّما شعر أنك ستُفِيقين وتتخلَّصين من أسْر هذا الحبِّ الوهميِّ، نفخ في فم هذه العلاقة التي تكادُ تموتُ كلَّ مرَّة خنقًا بقبلة الحياة، الحياة الزوجيَّة الفاشلة، بهذا النفَس السمِج البَغِيض: "أنا جميل وأنت بثينة".

 

إنَّه أنانيٌّ يحاول أنْ يحرمك من أنْ تكفِّي عن حبِّه، ويخاف أنْ ينتصر عليه والدي الذي مات وهو معيد بكلية الصيدلة، ينتصر عليه بعد موته، إنْ قارنتِ بينهما وأنت تبكين تحت مخدَّتك، وجاءَتِ المقارنة في صالح أبي الناجح الرَّصين الوَقُور الذي لم يجرحْكِ أبدًا ولم يعرفْ مِقدار راتبك، وجميل ينفخ وينفخ وأنت ككلِّ مرةٍ تبتسمين بصُعوبةٍ بعد حُزنِك العميق وخيبة أملك، بعينٍ تعاتب، وحاجبين يهتزَّان من الحبِّ، وفرحة عودته والدلال الأربعيني الرَّصِين، وككلِّ مرَّة تصدِّقين أنَّ جميل بثينة سيتوقَّف عن إهانة بثينة وتحطيمها ليرتدَّ إلى طبيعته الشاعريَّة التي لم تكن أبدًا.

 

ولأنَّك تُحبِّينه لم تعرفي - وأنت المتعلِّمة المثقَّفة - أنَّ زوجك ليس بشاعر ولا حتى قارئ شعر، لم تعرفي تلك الحقيقة إلاَّ منِّي أنا ابنتك، عندما صارحتك بها وأنا في الثانويَّة، أنَّه ليس هناك إلاَّ بضعة أبيات لا غير بهرَكِ بها، ولا يعرف غيرها، وأغلب ظنِّي أنها ليست من تأليفه، فانهزمتِ قليلاً وانزعجتِ، ثمَّ تهرَّبتِ وأنكرتِ.

 

ما زال جميلك بعقلِ شابٍّ في الخامسة والعشرين، يريد أنْ يجرِّب ويندهش وينطلق، منهمك في مشاريع (شباب الخرِّيجين)، ولم يترقَّ إلى وكيل قسمٍ بعد كلِّ هذا العمر، بينما صِرتِ أنت مديرة إدارة، وصار يبدو أصغر منكِ سنًّا كثيرًا، وأنا نجحتُ كما نجحتِ، ولو نسيتُ فلن أنسى أنَّه اغتاظَ عندما تَمَّ قبولي في كليَّة الصيدلة التي كان أبي يدرِّس فيها، ولن أنسى أنَّه اغتاظ أكثر عندما التحق أخي - ابنه - بالثانويَّة الزراعيَّة، وسينتهي به الأمر في السنة القادمة وبواسطةٍ منكِ كموظف بسيط غير مثبَّت بوزارة الزراعة؛ الفرق شاسعٌ بين بنت أبيها وابن أبيه، وأنا انتصرتُ لأبي.

 

زوجُك فاشلٌ في كلِّ شيء، إلاَّ أنَّه نجح في شيءٍ واحدٍ فقط، احتفظ بشبابه، وحتى بتسريحة شعره التي في صورة الزفاف، ولا شعرة واحدة ابيضَّتْ ولا واحدة وقعتْ! وأنا وأنتِ نستمع بصبرٍ لمشاريعه الصغيرة، ونعده خيرًا، ثم نغلق علينا الباب، لنخطِّط لشِراء مقبرةٍ مناسبة في مدينة (6 أكتوبر) لها أربع عيون.

 

يتقلَّب وجهُ الأمِّ وتنطق اسمَها بشفتين جافَّتين، وهي تنظُر في ساعِدِها وإبرة المحلول وعُروقها الخضراء: "بثينة.. بثينة.. بثينة".

 

أفاقت أمي! أفاقت، حمدًا لله على السلامة، آهٍ لو يمكنني أنْ أُكلِّمك بصَراحةٍ؛ حتى تتخلَّصي من الهزيمة وخيبتك الثقيلة، لا تعرفين كيفيَّة الخَلاص، أنا أقول لك عندما يعود مَرَّةً ثانيةً اشتميه يا أمي، اطلبي منه الطلاق إنْ رجع إليك ببسمته العريضة البلهاء، استغني عنه للأبد، واستغني عن ذهبك الذي خلعه من يديك الممدَّدتين على السرير، وأنا وحدي أتكفَّل بعِلاجك، اطرديه من حياتنا الناجحة الفاشلة!

 

بعد أنْ سكت الكلام في رأس الفتاة، وأخذت تمسَحُ دُموع أمِّها التي انحدرَتْ، تقولُ الأم بصوتٍ واهنٍ وقد ارتسَم بين حاجبيها خَطَّيْ إعياء: لا عليك؛ الآن قد انتهى كلُّ شيء، لن يستطيع هذه المرَّة أن يصلح خطأه.

 

لا تثقلي على نفسك بالكلام.

 

تقول الأم وعلى وجهها رجاء هادئ: أريد أنْ أعرف.

 

ماذا؟

هل يمكنني أنْ أكون لأبيك في الآخرة؟

 

هزَّت الفتاة رأسها موافقة، وقالت في نفسها: "إنْ لم يعد بك حاجة للشِّعر".

 

وأكمَلتِ الأم وهي تنظُر لنواحي السقف: برغم أنَّه نصيبي الذي اعتدت عليه ولصق بي، وهو تقريبًا الشيء الوحيد الذي أملكه وحدي، إلاَّ أنِّي الآن أطلب منك أنْ تساعديني في التخلُّص منه قبل أنْ أموت، لم يجلب عليَّ البؤس إلاَّ هو، خلِّصيني منه.

 

انقبض وجه الفتاة وارتفع حاجباها وبلعت ريقها، "نعم، خلصيني منه، لأجل خاطر أمِّك"، فهزَّت الآنسة ندى رأسها شامتةً مسرورةً: "اسألي المحامي أوَّلا عن..."، وأغمضت الأم عينيها على دمعٍ ساخنٍ قبل أنْ تكمل كلامَها، واضطربت فوق الدمع أجفانها المجهدة، وراحت في النوم.

 

والفتاة التي أتَتْ مرهقةً من نوبة السَّهر بالصيدليَّة ذهب بها الإجهاد ورائحة السوائل المعقَّمة، وهُدوء الغُرفة والكبت والإخفاق، وذِكريات الطُّفولة، والسُّطور المبهمة من صفحة الماضي، وهذا النَّدم الرماديُّ الذي يشعُّ في فضاء الغُرفة من روح أمِّها النائمة، ذهبت كلها بها بعيدًا، إلى البيت، تطفئ أنواره، تذهب إلى المطبخ بمعطف الصيادلة، بخطواتٍ ثابتةٍ على الأرضيَّة (الباركيه)، تتعلَّق بها داخل المطبخ طفلةٌ لحوحة، تستنجدُ بها، هذه الطفلة هي ذاتها منذ سبعة عشرة عامًا، ندى الطفلة تستنجدُ بندى الصيدلانيَّة، تخبرها أنَّ أباها الشاب في سريره لا يردُّ عليها، سقط رأسه وهو يُشاهِد التلفزيون، وندى الصيدلانيَّة تستمعُ لها في هُدوء وهي تعدُّ كوبًا كبيرًا من عصير الفراولة الذي يحبُّه زوج أمِّها، تمسح على شعر الطفلة، تترُكها تبكي وحدَها على بلاط المطبخ البارد، (بابا، بابا، يا حبيبي يا بابا)، تذهب إلى جميل بالكوب باتِّجاه الشُّرفة، وفي أذنيها الموسيقا التصويريَّة المميزة لحلقات (إستيف أوستن)، التي مات الأب وهو يشاهد إحداها، تدخُل إليه، وهو كما هو؛ يُتابِع بعينيه النهمتين المستترتين بالنظارة الشمسيَّة الداكنة شابَّةً ترتدي ملابس صارخة، يكلِّم ندى بدون أنْ يرفع عينه عن الشابة "بافكَّر في مشروع لصناعة ورق البردي، أأجَّر لي حتة أرض زراعيَّة على النيل قُرب القناطر، وازرعها (بردي)، واعمل ورشةً صغيرة فيها، ومكبسين، وبرميلين محاليل، وبعدين (شبلونة) عشان التصميمات الفرعونيَّة.. الورقة تكلفتها قولي جنيه، وتتباع قولي عشرة دولارات؛ يعني: أرباح أكتر من خمسين ضعف".

 

الأم قادمة من هناك عائدة من العمل يعلوها العرق والضجر، تحمل في يدها كيس الخضار الممتلئ وتظهر منه أذنان طويلتان، نفختْ مُغتاظة من عيني زوجها التي ما زالت تُودِّع الشابَّة الصارخة الملابس حتى الشارع الجانبي، رمت الخضار من يدها وفرَّ منها أرنب، أحدُ العشرين الذين تبقُّوا من بطاريَّة الأرانب البائسة، "الغلطة يا ندى في مشروع الأرانب أنها لا تتحمَّل العين"، الفتاة تهزُّ رأسَها موافقةً، تُقدِّم الكوب وقلبها يخفق بشدَّة، يغلبها البرد والدُّوار والعرق، الكوب يهتزُّ في يديها المرتجفتين، يتناول الكوب بيدٍ لا مبالية، يَبتَسِمُ ابتسامتَه العريضة الجشعة، "بيقولوا البردي مطلوب جدًّا في أوروبا، تشاركيني؟، الأمُّ تمرق من بين العربات، تُنادِيها وهي تجري ناحيةَ الشرفة من ضجيج الشارع الحيوي، وندى لا تسمعها، جميل لا يراها، "هاغرَّقها بردي، أوروبا هاتغرق بردي"، تصلُ إلى تحت الشرفة مقطوعة الأنفاس، تشيرُ بيدها نافية: "لا يا ندى، لا.. أتخلَّص من اسم بثينة.. من اسم بثينة".

 

تفيقُ الفتاة، وتفيقُ الأم، يتبادلان نظراتٍ حَيْرَى قَلِقةً محرجةً، تدلُّ على أنهما نزَلا من ناحيتين مختلفتين في دهاليزَ رماديَّةٍ، إلى حلمٍ مشتركٍ، صعَدَا منه إلى غرفة العناية المركَّزة ومعهما شيءٌ من ضَجِيج الشارع، ولم تزدِ الأم على أنْ قالت: أبوك مات ميتةً طبيعيَّةً.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
2- جميلة ومؤثرة وواقعية
حامد - السعودية 29-08-2011 03:22 PM

جميلة ومؤثرة وواقعية

1- لكن وآه من لكن
ابو الحمد - مصر 27-08-2011 11:53 PM

الكاتب له ذوق خاص في كتابة القصة ، وهو ممتع ومفيد.
القصة تهاجم في ثناياها العلاقات التي تنشأ بين زملاء العمل نتيجة للاختلاط ، يسمونها ( الراحة ) أو ( الاستلطاف ) وتؤدي لوقوع امرأة في محذور شرعي وهو التعلق بغير زوجها .
هذا جيد ولكن كان على الكاتب أن يوضح هذا أكثر على لسان ندى الابنة حتى تكتمل الفائدة من القصة ، لإن بعض القراء لن يصلوا بسهولة لما يريد إلا أذا صرح به أكثر.

هذه القضية انتشر بها البلاء في بلاد المسلمين ومن الجيد أن ينتبه لها الكاتب ، ولكن عليه أن يستثمر قلمه الموهوب لصالح القضية ولكنه انحاز للصنعة وفن القصة على حساب الملف الخطير

لكنه في المجمل متمكن وأنيق

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة