• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

يوم تخلفت عن الهزيمة

د. حمزة عماد الدين موسى


تاريخ الإضافة: 27/11/2010 ميلادي - 20/12/1431 هجري

الزيارات: 6377

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

ما زالت ذكرى هذا اليوم مَحْفورة في ذاكرتي، تؤرِّق مضجعي، وتستبيح منامي؛ لتستعيد أحداثها في أحلامي، موقِظَة إيَّاي أرتعد وأرتَجِف، فما حدث كأنَّه حَفْر في صخر، يأبى أن يُفارق ذاكرتي وذكرياتي!


هذا اليوم، لا بل تلك اللحظات التي أعدتُ فيها اكتشاف هُويَّتي، ما زالت تبثُّ تلك الذكريات الأليمة، والمشاهد القاسية، والموقف الصَّعب، يوم أُجبِرت على أن أشهد مصرع بطل مغوار، وإعدامَ مُقاتل صنديد على أيدٍ خسيسة لِجُبناء أوغاد، يوم أُجبِرتُ على أن أشهد مصرعهم وأتيقَّن من موتهم، وأَحفر قبورهم وأَقْبُرهم بيديَّ، ما زالت نظراتُهم الثابتة الواثقة التي كانت ترنو وتتحدَّى الموت بسُخرية، والابتسامات التي أنارت وجوهَهم عندما نالوا مصرعهم، وأتذكَّر كم كنت أرتَجِف عندما أتَخيَّل نفسي مكانَهم، فدَوْري قد يَحلُّ معهم بعد أن أقبرهم، وأهيل عليهم التراب في مثواهم الأخير الْمجهول.


وهكذا كان، فما أَنِ استوى رفاقي في منازلِهم الأخيرة التي لن يعرفهم فيها أحد، حتى أمرَنِي قائد الجنود الأوغاد المكلَّفين بمتابعة وتنفيذ الإعدام أن أَحْفر قبرًا آخَر، فانتابتني الرِّعْدة من هول الموقف، ورجفةُ الموت والخوف من لقائه، إنَّه قبري أنا!


انْهَرت، فنهرني أحدهم، وضربَنِي آخَر بكعب سلاحه، فلا بد أن أحفر قبري بيدي، ما زلت أرتعد كلما تذكرت أنِّي هربت من أتون المعركة، وفرَرْتُ من جحيم القتال، وولَّيْتُ من نار الحرب، لست بطلاً صنديدًا، لست بطلاً صنديدًا؛ فأنا جبنتُ وهربت متذرِّعًا بالانسحاب، بل إنِّي سلَّمْت نفسي وسلاحي بلا مقاومة تُذْكَر، ودون أيِّ اعتراض؛ أملاً في معاملة عادلة كأسير حرب.


دارت في مُخيلتي صورُ استهزائي بزملائي قبلاً الذين ما انفكُّو يعدُّون عُدَّة الحرب، ويستعدُّون للقتال، ويتأهَّبون للمعركة، فأقول لهم: "بئس ما تفعلون، فسَنُهزم ونُسلِّم أنفسنا، وسيردُّوننا كأَسْرَى حرب بعد سنوات لأهلينا"، كأنِّي لم أر مصيري هذا المصير الأسود، كم كنت استهزئ بمن يقول "لا عهد ولا أمان لهؤلاء"، مردِّدًا قول الإعلام العميل المضلِّل: "كلٌّ يتَّبِع القوانين الدولية، والمواثيق الأخلاقية، وأعرافَ الحروب"، رافضًا، رادًّا كلَّ استشهادات رفاقي بالأحداث والوقائع والأدلة بقولي: "حالات استثنائيَّة فرديَّة".


آه، كم كنتُ مغيَّبًا غَبِيًّا!


كان الجنود الملتفُّون حولي، المتحفِّزون بأسلحتهم ونظراتهم المصوَّبة إلَيَّ وأنا أحفر، يرمقونني بشيء من الاستغراب حينًا، والخوف حينًا آخَر، فكان الرُّعب يَقْفز من عيونِهم كلَّما حانَتْ منِّي التفاتة، أو بدرَتْ منِّي حركة مفاجِئة، فيزدادوا تأهُّبًا وتَحفُّزًا، وانتباهًا وتوترًا، تمكَّنت أن أُتَرجم بعض هَمْهماتِهم، إنهم يعتقدون أنِّي قتَلْتُ بعضَ رفاقهم، مُشارِكًا رفاقي الذين قبرتُ منذ قليل في قتلهم.


آه، لكَمْ رغبت حينها في أن أَصِيح بِهم: "أيُّها الجنود الكرام، لستُ مثلهم، فأنا انسحَبْت، فلم أَثْبت لكم وأقاومكم، فأنا لم أقتل منكم رجلاً، أو أَرفع في وجوهكم سلاحًا، فأنا أجْبَن من أن أُواجهكم، وأضعَفُ من أن أصمد أمامَكم".


توقَّفت برهة أمسح عنِّي عرقًا ممزوجًا بالدموع، مَخلوطًا بالقهر واليأس، وحانت مني التفاتة لأجد يدًا مُرْتَجفة تُناولني ماء... مشيرًا إلَيَّ أن أُواصل الحفر، فخطر لي أن أَمُدَّ يدي لأقتله، وأستولي على سلاحه فأَقتل مَن أقتل، وأُحاول الْهرب، لُمْت نفسي على هذا التفكير؛ فكيف أغدر بِمَن يمدُّ لي شربة ماء؟! بل كيف سأهرب منهم؟ إنهم يفوقونني عددًا.


فسألتُه بصوت مبحوحِ العبَرات: لِمَ ترتجف؟ فأنا لن أَغْدر بك وكلُّ هؤلاء الجنود بأسلحتهم المتحفِّزة لي حولي".


فقال: "لقد أَوْقف ثلاثتكم زحفَنا لساعات، قاتِلين العشرات منَّا، مدمِّرين آلاتنا، مُعَطِّلين تقدُّمَنا".


يا إلهي! صعقتُ وذهلت، انبهرت ثم انْهَرت، أفعَل هذان الاثنان كلَّ هذا؟! لست أهلاً لأنْ أُدْفَن معهما، تساءلْتُ في نفسي مدفوعًا بِحُبِّ الحياة والرُّعب من الموت: "مِن حقِّهم أن يقتلوهما، فقد عاقَا زحْفَهم، وشَتَّتا شَملَهم، وجَنْدلا جنودهم، وقَتَلا ضُبَّاطهم، ولكني لم أفعل شيئًا لأستحِقَّ نفس المصير"، فحاولت التودُّد للجندي الذي ناولَنِي الماء: "أليس لي أن أُعامَل كأسير حرْب؟".


فقال: "لا نستطيع أن نترك فيكم أبطالاً تعيش هي وذِكْراها في نفوس شعوبكم الهمجيَّة الغوغاء؛ لِتَصحوا يومًا ما".


يا إلهي! إنَّهم يَستهدفون الأبطال الحقيقيِّين، الحمد لله أنِّي لست بطلاً، فتنفَّستُ الصُّعَداء، لأنَّه يتبقَّى فقط أن أعترف لهم، وسيصدِّقونني؛ فأنا لا أَحْمِل جرحًا من قتال، أو نَزْفًا من المعركة، فاستجمعْتُ ما تبقَّى من شجاعتي وصِحْت بِهم: "إني لست مثلَهم، فلم أقتل منكم أحدًا، إنَّما انسحبْتُ وسلَّمت سلاحي ونفسي طواعية بلا مقاومة، اتركوني أعيش، خذوني أسيرًا، أتوسَّل إليكم ".


في لحظة مصحوبة بنظرات الاندهاش والتعجُّب، الممزوجَيْن بالرُّعب تبعَتْها نظرات الاحتقار والاستهانة لشخصي، وتتخلَّلها هَمْهمات وإشارات رعب إلى قَبْر صاحبَيَّ: "هل فعَل هذان كلَّ هذا؟!".


استوقفَتْنِي عباراتُهم، لا عجب أنَّهم يَحتقرونني الآن، وينظرون إلَيَّ باستهانة وشماتة، لا يهمُّ، المهم أنَّهم سيتركونني لأعيش، هزَّتْني نظرات احتقارهم لأستعيد ما قلتُ منذ لحظات، لقد نفيتُ عن نفسي صفات البطولة والمقاومة، والشجاعة والقتال، ما أحقرَنِي من جبان خسيس، حقير مهزوم! آه، لكَمْ شعرتُ بالخِزْي عندما تخيَّلت مثواي الأخير بين أبطال لم أكن يومًا مثلهم.


جلدَتْنِي صيحات الجلاَّدين، وساطَتْنِي كلماتُهم موقظة إيَّاي مِن تأنيبِي لنفسي على ما قلت: "احْفر؛ لِنَنته منك، ولِنَدفن ذِكْرى هزيمتنا إمَّا صمود رفيقَيْك"، وتعالَتْ صيحة آخَر: "لِهَذا لم تكن تَنْزف مثلهم، فأنت لم تَشْهد المعركة".


قتلَنِي الاحتقارُ لنفسي على ما اقترفْتُ في حقِّها، وما فعلتُ في حقِّ زملائي، وما بدَر منِّي من إنكارٍ للمقاوَمة؛ لأعيش، كنت أتَحرَّك كالميت، أحفر كالآلة، بضربات واهنة، وقد تَحوَّلَت دموعي من دموع خوف من الموت إلى دموع خزي.


"يا الله! إنَّهم يقتلونني؛ لأنني الشاهد الوحيد، لا لأنني تخلَّفْتُ وهربت، ولكنِّي شهدت عجْزَهم وهزيمتهم، وجُبْنَهم وخِسَّتَهم وحقارتهم وغَدْرَهم، يا الله! إنَّهم يستهدفون دفن الحدث وذكرى المعركة، وطمْسَ التاريخ"، هكذا صاح هاتفٌ في نَفْسي، موقظًا إيَّاي لأدرك السبب الحقيقي لإعدامي.


إنهم لا يريدون لنا أن نفيق بقصَّة بُطولة تُروَى، أو حكاية صمود تُحكى، أو بِمَلحمة ثبات تُقال، أو بذكرى معركة لنا فيها شبه انتصار.


كم هانت عليَّ نفسي، فتمنَّيت الموت قبل أن أكون في هذا الموقف، أو يَرمي بي القدر في هذا الموضع! لكَم أملت أن تنفرج الأرض لتبتلعني، أو يهزَّني أحدٌ ليوقظني من هذا الكابوس المرعب.


هذه المرَّة تغيَّر سبب مُحاولتي لأُساوم على حياتي، فإحساسي بالخزي أن أُدفَن بين بطَلَيْن، صمدوا وثبتوا، وقاوموا ورابطوا حتى استُشهِدوا، كان يُمزِّقني كآلاف السَّكاكين التي تقطِّع في بدني، والخناجر التي تَطْعن فِيَّ، فقد دار في خَلَدي كيف سأقابل الْجَبَّار بلا عمل؟ بل بخيانة وهروب؟!


فقلتُ: "ولِمَ ستقتلونني؟ فأنا لن أقول شيئًا؟"..


فردَّ قائدُهم: "لا يهمُّنا أن تقول، فأنتم سرعان ما تنسون الماضي، ولكن إن تركناك تعيش فقد تَصْحو يومًا وتفيق وتوقظ الآخرين".


لا أَذْكرُ كيف هربْتُ أو قتلتُ منهم في طريقي؛ لأعبر وأنضمَّ إلى القوَّات المنسحبة المتجمِّعة لتواجه العدو الزاحف؟ فهذه التفاصيل ضبابيَّة، كأنَّها ليست لي، بل لشخص آخَر جديد وُلِد هذه اللحظة، كلُّ ما أتذكَّر عن هذه اللَّحظة أنِّي فقط اشتعلْتُ بِبُركان من حُمَم غضب منفجِرة متدفِّقة فوَّارة، لعلِّي فُقْت من غيبوبتي، وانتبهتُ من غفلتي، وهَببت من غفوتي، وصحت من رقادي، واستيقظت من سُباتِي، والآن اسمحوا لي أن أسألكم:

"هل ستفيقون يومًا مثلي عندما تَحْفرون قبوركم بأيديكم؟"


أوراق ملفوفة، مُهمَلة منسيَّة، مدوَّنة في صحوات الْهزائم المتتالية الْمتتابعة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
3- القبر ينتظر
turkey - eg 08-12-2010 02:35 PM

من منا لا ينتظره قبره . لا مفر منه ولكن غفلة ثم غفلة ثم غفلة . المغيبون يا صديقى هم من يتوهمون الموت وهما كما قال ربنا فى كتابه الحكيم {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} فتمضى بهم الأيام والقبر يناديهم وهم فى غفلة يسعون للحياة ولمكاسب لا حد لها من قيم أو أخلاق أو دين . إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته .

بداية موفقة مع أنى لا أعقد أنها بداية ولكن تجربة ناضجة لابد أنها سبقتها تجارب فإلى الأمام دائما

2- قصة معبرة
د.احمد حنفي - مصر 01-12-2010 09:50 PM

قصة تعبر عن الواقع بطريقة جميلة ولكن النهاية لم تكن مثالية فقد كان من الأجدى أن يلقى هذا المتخاذل مصير الموت (وهو المصير الاقرب للحقيقة) ففي الواقع هذا الجبان دائما يلقى حتفه مثل زملائه ويبقى الخزي والعار يلاحقه في الدنيا بعد وفاته غير الجزاء الذي يلقاه في الآخرة
وأخيرا القصة أسلوبها ماتع مشوق مليئة بالصور اللتي تجعلك كأنك تشاهد مقطعا من فيلم سينمائي.

1- السؤال الخطير ...والأمل البعيد
سلوى عبد المعبود قدرة - مصر 01-12-2010 04:16 AM

بدايات أدبية ليست كالبدايات التى تبدأ حبوا ثم تثبت بعد تعثر وتلعثم ..............
بدايات أسعدتنى لانها شخصت بدقة مرضا عضالا ينهش النفس قبل الجسد -ولاعجب فأنت طبيب -ولكن العجب أنك حللت الشخصية العربية على جبهة القتال تحليلا نفسيا عميقا وجادا وحقيقيا
يبدو نضج الكلمات جليا وعمق الفكرة واضحا يحفز الذهن للاستغراق فى الواقع المخيف الذى نحياه ربما يصل بعضنا الى الإجابة عن السؤال الخطير: هل ستفيقون مثلى وأنتم تحفرون قبوركم ؟؟

شكرا على هذه الكلمات القوية

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة