• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

شقاء

شقاء
جواد عامر


تاريخ الإضافة: 15/1/2024 ميلادي - 4/7/1445 هجري

الزيارات: 1391

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

شقاء


يرى نفسه في المرآة أشعث الرأس، أغبر، نحيف القوام، كأنه كل ما تبقى من جسده المنهك، يتوجه نحو عربته اليدوية ذات العجلتين التي يسمع صريرهما من بعيد، فكان الصبية يعلمون بمقدم العم "زروال" ليتخذ موضعه المعروف بالقرب من المدرسة، حيث سيتحلق حوله الصبية لشراء الذرة وبعض البسكويت والحلوى؛ مما كان يعرضها للبيع مقابل فلسات زهيدة.

 

كانت تلك حرفته منذ أن بُتِرت يده اليسرى في الحرب؛ لذلك كان يتحامل على عربته الصغيرة فيتكلف دفعها بيد واحدة اكتسبت من القوة شيئًا كبيرًا؛ لطول عهده بهذه المهنة، يدفعها حتى إذا أشرف على عقبة كانت تؤرق فكره كلما اقترب منها، فيوقف العربة؛ لأنه لن يستطيع دفعَها في هذا المرتفع المليء بالتعرُّجات والحفر التي تعترض سير العجلتين، فكان ينتظر قدوم أحدِهم ليمد له يد العون، فيمضي شاكرًا لمساعده عونَه ودعوات التيسير تنثال من فمه الأدرد الذي لم تتبقَّ فيه غيرُ بضعةِ أضراسٍ شاهدة على ما أصابه من الكبر والشيخوخة.

 

يمضي بخطو متئد وصدره يعلو ويهبط من أثر الدفع، فهو العم "زروال" الذي يسكن الكوخ القصديري في حي شعبي فقير رفقة ابنته المقعدة التي ترعاها بعض الجارات وتقدمن لها ما تحتاج إليه من لوازم، خاصة الجارة "للا خدوج" فهي الصديقة المقربة أكثر للأسرة، لم تكن تغادر الكوخ حتى وفاة جارتها "مي نزهة" التي كانت تدعوها أختها، فارقت الحياة في الخمسين من عمرها بعد أن ألَمَّ بها داء عضال لم تنفع معه أعشاب ولا طب.

 

كثيرًا ما كان سكان الدوار يجمعون الهبات المالية لمساعدة "للا خدوج" على الذهاب إلى المستشفى لشراء الدواء، كانت التكاليف باهظة، والمواعيد متأخرة، بدعوى أن الطبيب لا يستطيع أن يتكفَّل بمعالجة آلاف المرضى، أو أن المعدات الطبية أصابها عطب تقني.

 

مرة سمع العم "زروال" أن "سكانير معطل"؛ وهو الجندي السابق في قوات جيش التحرير الذي دافع عن حياض وطنه لسنوات طوال حتى فقد يده اليسرى نتيجة إصابته بشظية أفقدته الحركة واضطر معها الأطباء إلى البتر فانتهى من يومها مسلسل الدفاع، لم يكن ما يحصله من أجر يكفيه للإنفاق على ابنته المقعدة المصابة بشلل دماغي ولا زوجته التي تراكمت عليها الأسقام والأوجاع حتى أنشبت فيها المنية أظفارها؛ لذلك ظل ساكنًا في بيته المسقوف بالقصدير كغيره من سكان الدوار الصفيحي فلا ماء ولا كهرباء.

 

القنينات تملأ بشكل متكرر من قبل بعض شبان الدوار والقنديل أو قنينة الغاز ترتج فيها فتيلة يشعلها العم "زروال" بُعيد المغرب عندما يعود إلى البيت الصغير فيضع عربته في فناء واسع، يتركها هناك حتى يحين الصبح، فيصلي الفجر في مسجد صغير لم يكن يفارقه إلا في وقت الظهيرة والعصر؛ إذ كان يصليهما قرب عربته، فسجادته لم تكن تُفارقه على الإطلاق، لقد كان رجلًا مُحِبًّا للفرائض، وكل حديثه كان عن الحرب والجهاد وكيد الأعداء والحفاظ على الصلاة، وبين هذا الوادي وذاك كان يكسر الرتابة بحديث الصبية وملاعبة مرتاديه منهم وإهدائهم الحلوى مجانًا، فهو يعلم أن هذه الحرفة لا تدرُّ مدخولًا كبيرًا بقدر ما كانت مجلبةً لحب الصغار والكبار؛ إذ رجل مثله يقارب السبعين منهك الجسد نحيف البنية، يشق عليه هذا العناء؛ لكنه ألِف ذلك حُبًّا في العمل الذي تفانى فيه لسنوات طوال دون أن يثنيه عن ذلك بَتْرُ يُسْراه ولا قلة ذات اليد، إنه مثال للرجل المثابر الذي يأنف أن يمد يده للغير؛ إذ مثله من أصحاب العاهات كُثُر يتجوَّلون في الأزِقَّة أو يقفون في عتبات المساجد أو غيرها ويستجدون العطاء.

 

عائشة مكومة في زاوية صغيرة من الغرفة تنظر بعينيها فقط في الأرجاء، فشللها الدماغي منعها الحركة والكلام سوى بعض الإيماءات القليلة التي كان العم "زروال" بحكم الدربة والعشرة يفطن إلى رموزها ويستطيع فك شفراتها، معاناة مريرة حقًّا، فالعم "زروال" عليه أن يوفر لعائشة الغذاء والدواء وهو يعلم يقينًا أنها فاقدة لكل معنى في الحياة، ابنة العشرين عامًا لم تعش طفولةً كغيرها من الأطفال، لم تسرح في ملعب كملاعبهم، لم تلج مدرسة ولا روضة، لم تمسك قلمًا بأناملها، ولا طبشورًا تخط به على السواد حلمًا من أحلامها، هي عائشة فتاة اختلطت مراهقتها بطفولتها، ولربما ستختلط بكهولتها في فصول من الحياة متداخلة لا يكاد أحد يُميِّز بين خيوطها المتشابكة، كانت أُمُّها "مي نزهة" قبل وفاتها رغم الأسقام تتحامل على نفسها مقدمة كل ما تستطيع من رعاية لها، وتدخل البسمة إلى قلبها المرهف والمثقل بضنك الحياة، فتُخفِّف الوطأة، فتسلو عائشة معاناتها في لمسات أُمِّها ودفء صدرها، فتحس كأن الحياة حيزت لها بحذافيرها، ماتت الأم وانطفأت الومضة الباسمة، فضاقت عائشة بالفراغ، واضطربت نفسها أكثر مما كانت عليه.

 

العم "زروال" ظَلَّ حائرًا يحاول جاهدًا أن يخفف اللوعة ويطفئ الحرقة لكن هيهات أن يكون حنوه بديلًا عن حنوِّ "مي نزهة"، مهما فعل فدفء الأمومة شيء لا يُعوَّض.

 

كانت الجارة "للا خدوج" الملاذ الوحيد - بعد الله تعالى - لعائشة؛ فقد كانت قريبة منها كأُمِّها، وكانت الجارات يأخذن بيد عائشة ويقدمن لها ما استطعن؛ عَلَّها تبتهج وتتناسى الشقاء.

 

مرت الأيام والشهور وأخذت عائشة تتعوَّد الفراغَ والصمتَ الذي لم يكن يُمزِّقه سوى صوت الجارات وخاصة "للا خدوج" وهي مقبلة تدفع بابًا خشبيًّا مهترئًا لتُقدِّم الطعام لعائشة وتغير لها الحفاظة، إنها أم ثانية يشهد لها الجميعُ في الدوار بحسن الخلق، تكفيها دعوات الخير التي تنثال من الأفواه وخاصة العم "زروال" الذي يدعو لها بالخير في كل صلواته، أو صرير العجلات الذي كانت تسمعه عائشة؛ فتعرف أن والدها قد جاء، ولا بد أنه يحمل معه كعادته شيئًا مما يعجبها من البسكويت والحلوى.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة