• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / اللغة .. والقلم / الوعي اللغوي


علامة باركود

دفاع عن النحو والفصحى (4)

دفاع عن النحو والفصحى (4)
د. إبراهيم عوض


تاريخ الإضافة: 25/3/2015 ميلادي - 4/6/1436 هجري

الزيارات: 5119

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

دفاع عن النحو والفصحى (4)

 

.. أمَّا هجوم الكاتب على العربية الفصحى لكونها "لغة منمَّقة مقعَّدة" فيقوم على وهم عجيب لا يصح أن يسكن عقل مَن كان لديه مُسكةٌ من فهم ومنطق، ألا وهو أن اللهجات العامية تخلو من التقعيد، إنه ما من لهجة عامية في أي بلد من بلاد الله إلا ولها قواعدها ونظامها اللغوي في الكلمة والجملة والصورة، وما إلى ذلك، وإن ظن بعض السطحيين أن الأمر بخلافه، وكي أقرب المسألة للقارئ وأختصر الطريق أذكر أني قرأت بعض الكتب التي ألَّفها نفر من المستشرقين لهذه اللهجة العامية أو تلك من لهجات العرب، فوجدتهم يفيضون في شرح نحوها وصرفها، ويذكرون قواعد ذلك لا تقلُّ، إن لم تزد، في تفصيلاتها عن قواعد العربية الفصحى، وقد سبق أن لمستُ هذه النقطة لمسًا خفيفًا في أحد الهوامش التي مرت غير بعيد، ومن هؤلاء مَن ألف في قواعد العامية المصرية كتابًا ضخمًا لا يقل حجمًا عن كتاب ابن عقيل، بل ربما كان أضخم منه[1].

 

ولا شك أن ذلك الهجوم الذي شنه زكريا أوزون على الفصحى في كتابه الذي بين أيدينا ودعوته إلى نبذها لهو أعظمُ دليل على فساد زعمه المبطل الصفيق الوجه بأننا قد تركناها في الواقع فعلًا؛ إذ لو كنا قد تركناها كما يقول، فلماذا يُعنِّي نفسَه ويقذف بها في الصعب والوعر كل هذا القذف من أجل إقناعنا بنبذها؟ هل المنبوذ يحتاج إلى نبذ، بل هل يمكن نبذه؟ إن هذا مثل تضييع الوقت والجهد والتفكير والمال في محاولة قتل المقتول! كلاهما حماقة وقلة عقل! وبغضِّ النظر عن هذا التناقض المضحك، فإننا لا ندري إلى أي أساس يستند السيد أوزون في دعواه الرَّعْناء بأننا قد تركنا استعمال الفصحى في واقع الأمر[2]، إن الواقع الصحيح أننا لم نَنْبِذِ الفصحى قط، بل الملاحظ أن اللهجات العامية قد أصبحت، بفضل انتشار التعليم، أقرب إلى الفصحى منها طوال قرون التخلف الفكري التي سبقت النهضة الحديثة، كما أن الفصحى تغادي الآن أسماع العوام وتراوحها في الخُطَب السياسية، وفي نشرات الأخبار، وبرامج التحليل السياسي والاقتصادي والعسكري والأدبي، والأحاديث التي يلقيها الكتَّاب والمفكرون، والنصوص الأدبية التي تختار للقراءة في المذياع والمرناء، وكذلك في المسرحيات والتمثيليات والأفلام والأغاني والأناشيد الناطقة بها، وما أكثرها... إلخ. أي إن الفصحى لم تعُدْ وقفًا على حلقات الدرس والندوات وخُطَب الجمعة مثلاً، بل أضحَتْ تغزو البيوت وتقتحم على العامة آذانهم وعقولهم اقتحامًا، كما أن التأليف العلمي، وكذلك التأليف الأدبي أيضًا (اللهم إلا بعض الأغاني والمسرحيات) لا يصطعنان إلا الفصحى، كل ذلك في سيل منهمر تَهْضِبُ به المطابع يوميًّا في هيئة كتب وصحف، ومجلات ونشرات، وإعلانات وإرشادات، مما لم تكن العصور القديمة تعرف شيئًا منه.

 

ليس ذلك فحسب، بل إن مِن علماء الدين الإيرانيين والباكستانيين والهنود والأفارقة مَن يؤلفون ويتحدثون العربية الفصحى كأحسن ما يكون؛ أي: إن الفصحى ليست باقية في البلاد العربية فقط، بل ما زالت مستعملة في بعض النطاقات العلمية خارجها أيضًا، ومن المعروف أن ثمة دولاً إسلامية تتخذها لغة ثانية لها، وتدرسها في معاهدها العلمية على هذا الاعتبار، كما أن في كثير من الجامعات المختلفة حول العالم أقسامًا لدراسة العربية وتراثها الأدبي والفكري، كما هو الحال مثلًا في إيران، وإندونيسيا، وبروناي، وأوزبكستان، وكينيا، ونيجيريا، واليابان، وبريطانيا، وفرنسا، والولايات المتحدة... إلخ... إلخ.

 

بل إنها تدرس في المرحلة الثانوية في بعض البلاد الأوربية بوصفها لغة أجنبية ثانية، كما ندرس نحن في مصر الألمانية والإسبانية والإيطالية مثلًا إلى جانب الإنجليزية، التي تأتي عندنا عادة في المرتبة الأولى بين اللغات الأجنبية، فهل من المعقول أن يجهل هذا كلَّه السيد أوزون؟ فلم إذًا يتصدى لما لا يحسن؟! ألا رحم الله امرأً عرف قدر نفسه!

 

بل إن القراء من العامة، مَثَلهم مثل الخواص، لا يعرفون إلا القراءة بالفصحى، وإذا ما وقع في أيديهم نص لأغنية عامية مثلاً صعب عليهم قراءته، قليلاً أو كثيرًا؛ ذلك أننا لم نتعود القراءة بالعامية، بل لم نفكر بعدُ في وضع قواعد إملائية لها، كما هو الحال في الفصحى، وكلٌّ يكتبها في العادة كما يتفق له، اللهم إلا في الكلمات التي لا يوجد فرق في النطق بينها وبين الفصحى، مثل: "أرض"، و"وجع"، و"حضر"، و"قام"، و"على"، و"من"، وأشباهها.

 

في ضوء هذا يمكننا أن نفهم رد توفيق الحكيم على الغربيين الذين يحاولون الإيهام بعمق الهوة بين الفصحى والعامية عندنا زاعمين أن لغة الضاد في طريقها إلى الزوال؛ إذ يقول: إن "الواقع الذي ألاحظه اليوم - ولاحظه كثيرون - هو بعكس هذا الزعم؛ فالعامية هي المقضيُّ عليها بالزوال، والفارق بينها وبين الفصحى يضيق يومًا بعد يوم، ويكفي أن نستمع إلى فلاحنا أو عاملنا في مجلس الأمة أو مجالس الإدارة ليتضح لنا أن لغة الكلام العادي قد ارتفعت إلى المستوى الفصيح"[3].

 

من هذا يتضح للقارئ أشد الوضوح أن كل ما قاله زكريا أوزون لا يعدو أن يكون هراءً لا رأس له ولا ذَنَبَ! على أنْ ليس معنى هذا أنني أزعم أن القدرة على استعمال الفصحى عند كلِّ مَن يستعملونها هي في المستوى المنشود، ولذلك أسبابه وعوامله، التي يأتي على رأسها ضعفُ الشعور بالعزة القومية من جراء الوقوع تحت نير الاستعمار عشرات السنين[4]، فضلًا عن أن قرون التخلف الفكري والأدبي التي بسطت ظلامها الحالك على الأمة العربية - قد باعدت بينها وبين الثقافة الراقية وآدابها ووعائها اللغوي المتمثل في الفصحى، ثم لا ننسَ أننا الآن لا نهتم بتجويد شيء أو إتقانه، يستوي في ذلك الصناعة والزراعة والتعليم، فنحن لسنا ضعفاءَ فقط في الكتابة بالفصحى والنطق بها، بل نحن ضعفاء في كل العلوم والمجالات، وحتى في ميدان اللعب والرياضة، بل حتى في مجال جمع القمامة من الشوارع! وفي ظل هذه الأوضاع المتردية لا يتوقع أن يشذَّ العرب في أمر لغتهم فيتقنوها في الوقت الذي لا يكادون يبرعون في أي شيء، اللهم سوى الادعاءات الفارغة والتشدق بالإنجازات الوهمية، وهذا هو السبب في أن كثيرًا من الكتَّاب والأدباء يخطئون كثيرًا إذا كتبوا أو قرؤوا مما لم يكن للعرب به عهد في عصور عزهم وقوتهم، بدليل أن كل المؤلفات التي تركوها خلفهم تخلو من هذه الظاهرة المؤسفة التي نشكو منها في العصر الحديث.

 

ورغم ذلك كله، فإن هذا العصر الحديث نفسه قد حظي بأسماءٍ لامعة في عالم الأساليب الأدبية تُسامِتُ أعظم الأسماء في الأدب العربي القديم، نستطيع أن نذكر فيها بكل فخر واعتزاز: الشدياق، وشوقي، وحافظ، وسليمان البستاني، والرصافي، والمنفلوطي، وشكيب أرسلان، وجبران، والرافعي، ومي زيادة، والبشير الإبراهيمي، والفاضل بن عاشور، ومحمد الغزالي، وفريد أبو حديد، ومحمود تيمور، وشفيق جبري، والعقاد، والمازني، وطه حسين، والزيات، ومحمد كرد علي، وخليل مطران، والجواهري، وأبو القاسم الشابي، وباكثير، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور، ومحمد مزالي، وناصر الدين الأسد، وعادل زعيتر، ومحمد عزة دروزة، وسيد قطب، وبنت الشاطئ، ومحمود شاكر، وإبراهيم طوقان، وصالح جودت، ونازك الملائكة، وعبدالكريم غلاب، وعبدالرحمن الشرقاوي، وسعد الله ونوس، ومحمود المسعدي، وجواد علي، وغازي القصيبي... إلخ... إلخ، وهي مفارقة، ولا شك، عجيبة، لكنها حقيقية رغم ذلك!

 

كذلك مر بنا قول زكريا أوزون: إنه لا فرق بين أن نقول: "قتل أحمدَ زيدٌ" أو قتل أحمدُ زيدًا"؛ إذ العبرة عنده بموضع الفاعل والمفعول في الجملة؛ حيث يأتي الفاعل أولاً، ثم المفعول بعده، وهذا كلام قد قاله من قبله د. إبراهيم أنيس، فهو إذًا لم يأتِ بشيء من عنده، وإن لم يُشِر إلى الدكتور أنيس من قريب أو من بعيد، قال الأستاذ الدكتور في كتابه "من أسرار اللغة"، وهو الكتاب الذي عقد فيه فصلاً طويلاً حاول فيه عبَثًا أن يثبت أن العرب بوجه عام كانت تقف على أواخر الكلمات بالسكون، وأن الإعراب شيءٌ طرأ على لغتنا أواخر القرن الأول للإسلام أو أوائل الثاني، وأنه ليس له في حقيقة الأمر رغم هذا أي مدلول[5]: "نكتفي... ببيان قصير عن موضع الفاعل من الجملة وموضع المفعول منها؛ كي نبرهن على أن الفاعل لا يعرف بضم آخره، ولا المفعول بنصب آخره، بل يعرف كل منهما في غالب الأحيان بمكانه من الجملة، الذي حددته أساليب اللغة، وما روي عنها من آثار أدبية قديمة، فإذا انحرف أحدهما عن موضعه تتبعناه في موضعه الجديد في سهولة ويُسر، ودون لَبْس أو إيهام؛ لأن الجملة حينئذ تشتمل على ما يرمز إليه ويدل عليه؛ وذلك لأن التركيب مع هذا الانحراف قد تتغير معالمه، أو لأن ظروف الكلام توحي به وترشدنا إليه"[6]، ثم يمضي قائلاً: إن الفاعل في الكلام العربي يَلي الفعل ويسبق المفعول، ولا يتأخر الفاعل إلا في أسلوب القصر، مثل: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]، أو حين يطول الكلام مع الفاعل وتوابعه، مثل: ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾ [الإسراء: 23]، أو حين يشتمل الفاعلُ على ضمير يعود على المفعول، مثل: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾ [البقرة: 124]، أو حين تتطلب الفاصلة ذلك، مثل: ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾ [طه: 67]، أو حين يكون الفاعلُ كلمةً كريهة يحسُن تأخيرها، مثل: "الموت" أو "الضر"؛ كما في قوله تعالى: ﴿ جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ﴾ [الأنعام: 61]، ﴿ فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ﴾ [الزمر: 49][7].

 

وللدكتور أنيس شهرة واسعة، وعلى كلامه الذي اقتبسناه أو لخصناه - فيما مضى - مَسْحةٌ توهم بأنه يتبع المنهج العلمي؛ لذا فلا بد من وقفة هنا نناقش فيها ما جاء بذلك الكلام من أفكار: فأول كل شيء أنه يقول: إن الفاعل يأتي دائمًا قبل المفعول إلا في الحالات التي أوردها وما يشبهها، ولكنه لم يعتمد إلا على القرآن الكريم، ولم يقُلْ أحد: إن القرآن يستغرق كل إمكانات اللغة، وهذا إن صحت ملاحظة الأستاذ الدكتور، إن هناك الشِّعر، وهناك الأمثال، وهناك ما أُثِر عن العرب من خُطَب سياسية واجتماعية ودينية، فهل مسح سيادته هذا كله وتأكد لديه أن ما قاله صحيح؟ الحق أنه للأسف الشديد لم يفعل شيئًا من ذلك! ورغم هذا كله فسنتناول حججه لكي نرى مدى صلابتها: فبالنسبة للقصر نتساءل: ولماذا لم يجرِ العرب في هذا الأسلوب على طريقتهم التي مرَدوا عليها من تقديم الفاعل على المفعول، مع التصرف بطريقة أو بأخرى، على نحو يفيد ما يريدونه من قصر رغم ذلك؛ كأن يقولوا مثلاً في: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ﴾ [آل عمران: 7]: "والله وحده هو الذي يعلم تأويله"؟!

 

أما فيما يخص طول الفاعل، فأي ضَير في أن يقال: "إما يبلُغَن عندك أحدهما أو كلاهما الكِبَر" بدلاً من تقديم "الكبر" (المفعول) على ﴿ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا ﴾؟ الواقع أنه ما من ضَير، أي ضير في ذلك! وهذا هو القرآن قد تكرر إتيانه بالفاعل قبل المفعول رغم طول الأول بسبب توابعه أو متعلقاته وقِصر الثاني، بل لقد تأخر الفاعل فيه لغير سبب من الأسباب التي ذكرها الدكتور برغم طول المفعول، وهذه أمثلة على الذي نقول: ﴿ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ ﴾ [آل عمران: 180]، ﴿ لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [النساء: 172][8]، ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾ [المائدة: 2][9]، ﴿ وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾ [الأنعام: 137][10]، ﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ﴾ [الأعراف: 19]، ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ ﴾ [الأنفال: 50]، ﴿ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ ﴾ [هود: 67]، ﴿ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ﴾ [سبأ: 31]، ﴿ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الجاثية: 10][11]، أما اشتمال الفاعل على ضميرٍ يعود على المفعول - كما في قوله تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ ﴾ [البقرة: 124] - فقد كان من الممكن أن يُحوَّر التركيبُ كيلا تنكسر القاعدة التي توهمها الأستاذ الدكتور، فيصبح الكلام على النحو التالي: "وإذ ابتلى ربُّ إبراهيم إياه"، وتلغى جميع الضمائر المتصلة التي يستلزمها تقدم المفعول على الفاعل.

 

وبالمناسبة، فإن الضمائر واختلافها ما بين ضمائر خاصة بالفاعل وأخرى خاصة بالمفعول لهي عقبة كَأْداءَ في طريق النظرية التي تخيلها د. أنيس تخيلًا، وحاول أن يفرضها على لسان الضاد بقوة الاعتساف، ومن خلال سلسلة من الأوهام العجيبة؛ إذ لو كانت الحركات التي في أواخر الأسماء لا تدل على أي معنى - كما يدعي - فلماذا اختلفَتْ ضمائر الفاعلين عن ضمائر المفعولين وهي مما لا يمكن القول معه بأن العرب إنما كانت تقف على كل كلمة بالسكون إلا أن يضطرها الحرص على سلاسة النطق لا غير إلى تحريك آخرها؛ تفاديًا لالتقاء الساكنين دون أن يكون في هذا التحريك ما يدل على معنى؛ كالفاعلية أو المفعولية أو ما إلى ذلك؟ ثم إن الأمر لا يقتصر على تقدم المفعول على الفاعل في هذه الحالات القليلة التي ذكرها سيادته؛ إذ كثيرًا ما يتقدم المفعول حتى على الفعل، وفي القرآن شواهدُ كثيرة على هذا، ودعنا من الشعر الآن والنصوص النثرية الأخرى، وكذلك عندنا المبتدأ والخبر اللذان قد يتبادلان موضعيهما، بل كثيرًا ما يأتي الخبر قبل "كان" وأخواتها، ولا تنسَ الحال والمفعول المطلق مثلاً وتقدُّمَها على الفاعل وحده، أو عليه والفعل معًا، ولا يضبط الأمرَ في هذا كله إلا القولُ بالإعراب؛ لأن هذه الحرية التي لا نجدها إلا في تركيب الجملة العربية تتطلب ذلك تطلُّبًا.

 

ونأتي إلى الآيات التي يقول الأستاذ الدكتور: إن المفعول فيها تقدم على الفاعل؛ لأن في الفاعل ما يكره المبادأة به، وجوابنا على ذلك هو الشواهد القرآنية التالية، التي أتى فيها ذكر "الموت" قبل "الحياة" (التي كان ينبغي، حسب نظرية الدكتور، أن تكون لها الأولوية عليه): ﴿ إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ﴾ [المؤمنون: 37]، ﴿ وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا ﴾ [الجاثية: 24]، ﴿ وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا ﴾ [النجم: 43، 44]، ﴿ قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ ﴾ [غافر: 11]، ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ [الملك: 2]، ومثلها الآيات التي سبق فيها "الضر" "النفع" رغم كراهية النفوس للمعنى الأول وحبها للثاني، وهي: ﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ ﴾ [البقرة: 102]، ﴿ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا ﴾ [الفرقان: 3]، ﴿ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا ﴾ [الفتح: 11]، ﴿ قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا ﴾ [الجن: 21]، ﴿ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ ﴾ [الأعراف: 95].

 

هذا في وجه التشابه بين الكتابين، إلا أن د. أنيس يعلن أنه لا يبغي - من وراء قوله بأن الإعراب لم يكن موجودًا في العربية، ثم طرأ عليها بعد ذلك في أواخر القرن الأول للهجرة أو أوائل الثاني بفعل علماء النحو[12] - أن يلغيَ الإعراب، بخلاف السيد أوزون، الذي لم يشكك في أن الإعراب كان موجودًا، لكنه يؤكد في ذات الوقت أنه اختفى بعد ذلك من لغتنا، مع استمرائه هذا الوضع (الموهوم بطبيعة الحال كما لا نحتاج أن نقول) ودعوته إلى الثبات عليه، بل إلى استبدال العامية بالفصحى، والعجيب أنه، في سبيل دفاعه عن فكرته هذه، يؤكد "أن اللهجات العامية العربية ليست وليدة اليوم، بل هي موجودة منذ العصر الجاهلي"، يريد أن يقول: إن وجودها الآن أمر طبيعي، ونحن معه في هذا لا نشاح فيه، إلا أنه لا يلزم عنه أن نترك الفصحى لأي من عامياتها، فهذا شيء، وذاك شيء آخر، ولا ينبغي الخلط بين الأمرين، وفي كل اللغات نجد المستوى الفصيح الذي يرتفع إليه الأدباء والكتَّاب حينما يؤلفون ويحاضرون، كما نجد مستويات أدنى من ذلك خاصة بالاستعمالات والأغراض اليومية العارضة، بل ثمة مستويات أخرى أدنى وأدنى في بعض البيئات والدوائر المغرقة في العامية... وهكذا، وهذه المستويات يتعايش بعضها مع بعض في كل اللغات، فلماذا يتخذ البعض من هذا الوضع في لغتنا نحن بالذات ذريعةً للتفلُّت من الفصحى؟ إنهم يقولون: إن العرب عاجزون عن إتقان هذه الفصحى[13]، حسن، فالعرب في هذه المرحلة من تاريخهم - كما قلنا ونقول - عاجزون في كل المجالات؛ من سياسة واقتصاد، وحروب وإدارة وتعليم، وعاجزون عن الوقوف في وجه أمريكا وإسرائيل، وعاجزون عن إنتاج ما نحتاجه من طعام، وعاجزون عن تنظيف شوارعنا وتجميلها (اللهم إلا في الدول البترولية القادرة بغيرها، لا بأيدي أبنائها)، وعاجزون... وعاجزون... وعاجزون، فهل نستسلم لهذا العجز ونترامى على أقدام إسراميكا ونطلب منها أن تأتي لتحتل بلادنا وتتصرف فيها وفينا على النحو الذي يحلو لها؟ إذًا فأبشر يا سيد أوزون، فها هي ذي العراق قد دخلتها جيوش الاحتلال الأمريكي والبريطاني (والصِّهْيَوني أيضًا من وراء ستار على الأقل)، وبمساعدة بعض العرب، ومباركة البعض الآخر! يا سيد أوزون، إن العجز يُداوَى ببذل المزيد من الجهد، وشحذ الإرادة، وإيقاظ رُوح المقاومة، واستنفار مشاعر العزة والكرامة، والخجل من أوضاع التخلُّف المزري لا بالاستنامة إليه، والاستزادة منه، والتسليم له، وإلا فعلينا العفاء! لقد استخرجت إسرائيل اللغة العبرية من قبِرها، وأحيَتْها بعد مواتها الطويل، وأنت تريد أن تدفن لغة الضاد حية، عجيب هذا وغريب! ولكن ما الغريب العجيب فيه؟ أخشى أن يكون الأمران هما الوجهينِ المختلفين لذات العملة!



[1] وها هي ذي أسماء بعض الكتب الإنجليزية في نحو عدد من العاميات العربية مما وجدته في مكتبة جامعة قطر:

- Spoken Arabic (David Harbey).

- Colloqulal Arabic of Egybt (Russell McGulrk).

- Gulf Arabic (Clive Holes).

- A Sbort Reference Grammar of Gulf Arabic (Hamdi A. qafisheh).

- A Basic Course in Gulf Arabic (Hamdi a. Qafisbed).

- Gulf Arabic - Internediate Level (Hamdi A. Qafished).

وفي مكتبتي الخاصة بالقاهرة كتب أخرى في قواعد هذه العامية أو تلك لبعض المستشرقين الإنجليز والفرنسيين.

[2] وهو هنا ينطلق مما يدعيه بعض المستشرقين من أن الفصحى قد انهزمت في الواقع أمام العامية، فلا معنى إذًا للعناد والتمسك عبثًا باللغة المهزومة، قال ذلك مثلاً وليم ولكوكس الإنجليزي في محاضرة له بالقاهرة سنة 1893م، نشرها في مجلة "الأزهر" آنذاك.

[3] توفيق الحكيم / مسرحية "الورطة" / مكتبة الآداب / 170 (من الكلمة الموجودة في آخر الكتاب بعنوان: "لغة المسرحية").

[4] من ذلك أن الطلاب المتفوقين في المرحلة الجامعية لا يُقبِلون عادة على التخصص في لغتهم القومية وآدابها، وأضرب لذلك مثالين: أولهما حين دخلت جامعة القاهرة في أكتوبر 1966م، ثم بدا لي بعد أيام أن أحول أوراقي من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية (كلية القمة لطلاب القسم الأدبي) إلى قسم اللغة العربية من كلية الآداب، وقد قُوبل هذا التصرف بالدهشة الشديدة، حتى من موظفي كلية الآداب نفسها، كما اشتهرت بين طلاب المدينة الجامعية (حيث كانت أسكن) بأنني الطالبُ الذي تهور وأقدم على التحويل من كلية السياسة والاقتصاد إلى دراسة اللغة العربية، والثاني: ما نسمعه من كثير من طلاب أقسام اللغة العربية مِن تألُّمهم للنظرة التي ينظر بها إليهم الطلاب الآخرون؛ إذ يسمونهم بـ: "المشايخ"، يقصِدون أنهم جامدون متخلفون عن العصر وحركته واهتماماته!

[5] انظر: الكتاب المذكور / ط 6 / مكتبة الأنجلو المصرية / 1978م/ 198 وما بعدها، و237 وما بعدها.

[6] المرجع السابق / 243.

[7] السابق / 243 - 247.

[8] ولم يمنع طول الفاعل مع تابعه أن يسبق الفاعل وحده المفعول، ثم يأتي تابعه بعد ذلك.

[9] ولم يمنع طول الفاعل ومتعلقاته أن يسبق ﴿ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾، وهو في مقام المفعول الثاني.

[10] أما مشكلة عود الضمير في الفاعل ﴿ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾ على ﴿ الْمُشْرِكِينَ ﴾، التي تأتي في التركيب المعتاد بعده، فيمكن التغلب عليها بصياغة الكلام هكذا: "وكذلك زين شركاء المشركين لكثير منهم قتل أولادهم".

[11] والتركيب هنا كالتركيب في الآية 172 من "النساء".

[12] أي إنه أمر اصطناعي فُرِض فرضًا على العرب ولغتهم وآدابهم وتآليفهم؛ شعرًا ونثرًا، بل على القرآن ذاته، بما يفيد أن المسلمين قد أدخلوا على القرآن ما ليس فيه، وهو كلامٌ لا ينقضي منه العجب والدهش؛ إذ معناه أنهم لم يخرجوا عن أن يكونوا واحدًا من فريقين: فهم إما أناس أزالوا القرآن عن وجهه الأصلي، وإما أناس رأَوْا ذلك ووافقوا عليه أو (في أحسن تقدير) لم يرضَوْه، ولكنهم أطبقوا أفواههم فلم ينبِسُوا ببِنت شَفةٍ اعتراضًا على ذلك، وهذا كله هو المستحيل بعينه؛ فالمسلمون كانوا يقدِّسون القرآن - وما زالوا - تقديسًا عجيبًا لم تقدسه أمَّة من الأمم كتابها، وكثيرًا ما ثارت بينهم الخلافات إذا سمعوا مَن ينطق بهذه اللفظة منه أو غيرها على نحوٍ يخالف نُطقهم، وكتب الأحاديث والتفسير والتاريخ والفِرق شاهدةٌ على هذا، فكيف يمكن أن يُقدِمَ أي منهم، بالغًا ما بلغ تهوُّره أو علمه أو جاهه (سمِّه ما شئت)، على إدخال الإعراب في القرآن بعد أن لم يكن فيه؟ إن هذا لهو التَّغشُمرُ بعينه من د. أنيس، وإن لم يقل ذلك صراحة، إلا أنه المؤدى المنطقي لنظريته العجيبة، ثم ما الدافع الذي حدَا بمخترعي الإعراب هؤلاء إلى الإقدام على ما أقدموا عليه؟ وهل يمكن أن تتطور اللغات هذا التطور الحاسم الذي لم يكن هناك (حسبما ورد في كتاب الأستاذ الدكتور) مثال سابق ينسج على منواله بتلك البساطة التي يريد ليقنعنا بها؟ وفوق ذلك فإن نظريته ليست أكثر من ضربٍ على غيرِ هدًى في صحراءَ مضلَّةٍ، مع الاستناد إلى افتراضات أكثر إضلالًا، والإصرار العنيد على تحميل أمشاج النصوص القليلة التي يعثر عليها هنا وها هنا ما لا تحتمل، ليخرج علينا في النهاية بنظريةٍ ما أنزل الله بها من سلطان، متَّهمًا النَّحْويين العربَ القدماء أنهم لم يفهموا لغتهم التي كانوا يسبَحون فيها سبحًا، وفهِمها هو بعد أربعة عشر قرنًا وهو في موضعه من الشاطئ بعيدًا عن البحر والسَّبح فيه.

[13] نفس الزعم الذي ردده المستشرقون، الذين جهَدوا كل الجهد في إغراء العرب برمي الفصحى وراءهم ظِهريًّا، والإقبال على العامية بدلًا منها؛ انظر مثلاً المقدمة التي كتبها سلدان ولمور الإنجليزي لكتابه: "The spojen Arabic of Egypt".





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة