• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

مدينة.. وأحلام طفولة (قصة)

مدينة.. وأحلام طفولة (قصة)
د. أسعد بن أحمد السعود


تاريخ الإضافة: 4/2/2016 ميلادي - 24/4/1437 هجري

الزيارات: 4497

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

مدينة.. وأحلام طفولة

 

وقف على قبر والده، مطأطئ الرَّأس مشبك أصابع يديه بعضها مع بعض، يردِّد أدعيةً ويذرف دموعًا حارَّة حزينة، ثمَّ ما لبث أن باعَد يديه بعضها عن بعض، وأخذ يؤشِّر بها في اتِّجاه القبر، وهو يقول بنبرةٍ مَسموعة:

• هل لكَ أن تعود؟ هل لك أن تعود؟

نظر إليه الذي كان بِجانبه وأجابه بتلقائيَّة:

• نعم نعم، هلمَّ نعود! هذا يَكفي، رحمه الله وأسكنَه فسيحَ جِنانه.

 

همَّ بالحركة وخطا بضعَ خطوات مبتعدًا، لكنَّه ما لبث أن توقَّف ونظر خلفه، لا زال صوته يردِّد الجملة نفسها:

• هل لك أن تعود؟ هل لك أن تعود؟

ويشير بيديه بالإشارة نفسها، وقد تأكَّد له أنَّ الإشارة كانت باتِّجاه القبر لا غيره، تعوَّذ من الشيطان، ورجع بخطواته وأخذ يهدِّئ صاحبه على ما غمره من حزنٍ شديد، بالرغم من أنَّه لا يَعرفه إنَّما كان يعرف والدَه، فقد رافقَه ليؤنسه من خطَر الحواجز العسكريَّة، ويزور قبرًا يخصه كما ادَّعى، لكنه ظلَّ يَسمع الجملةَ ولم تَنقطع عن مسامعه.

 

قرَّر الابتعادَ قليلًا ليراقب نهايةَ ما يرى ويسمع، لكن لم ترُق له الحالة، فعاد يَسمع الجملةَ بصوتٍ أعلى، وزاد عليها أن رأى صاحبَه يشير إليه وهو يقول له مباشرة:

• هل لك أن تعود وتتركني وحدي؟ سأبقى هنا بعضَ الوقت لأنَّني في لقاء انتظرتُه طويلًا!

 

ظلَّ "كارم" يكلِّم والدَه ويبكي، كان يخلط ما بين الدعاء وبين الحديثِ، وما بين الشوق الشديد له، وبين الاستِسلامِ للموت الذي وقف حائلًا بينه وبين رؤيته، كان شهرًا لا أكثر، منَعه القدَرُ من رؤية كلٍّ منهما للآخر، رؤية الحلم الذي عاش فيه "كارم" عمرَه كلَّه مجسدًا بشهادة دكتور متخصِّص في علم الأحياء والطَّبيعة؛ ليقدِّمها للأب المتفاني، وهو الآن مدفون تحت التراب في هذا القبر.

 

همَّ بحركة خفيفة لينقل جسمَه قليلًا؛ حيث قبرُ أمِّه إلى اليمين من مكان وقوفِه، فسمع مرافقَه يذكِّره مرةً أخرى ولا زال واقفًا على بُعد من طَرف القبور:

• لا تتأخَّر، سنتعرَّض للخطر من الحاجز العسكري في طريق المقبرة!

 

لم يردَّ عليه، وإنما جثا على الأرض يكلِّم أمَّه:

• السَّلام عليكِ يا أمِّي، عشرين سنة مضَت سريعة على وعدك لي، أتذكرينَه؟ حينما بدأتُ أدرس السادس الابتدائي، وعدتِني إذا نجحتُ بنيل شهادة السادس، ستأخذيني معك في سفرك إلى بيتِ خالي البعيد، لكنَّ القدَر حال بيننا في تلك السَّنة، أصابك مرَضٌ غريب فجأة ولم يمهِلك، وفي كلِّ سنة آتي إليك هنا وأسألك ذات السؤال، ألم يحِن السَّفرُ بعدُ يا أمي؟ ها وقد سافرتُ أنا إلى بلادٍ بعيدة، وبقيتِ أنت هنا في هذا المكان الموحِش، ويومها جئتُكِ وأعلمتُك بما حصل معي واستأذنتُك، كان أبي واقفًا هنا إلى جانبي، ويَشهد على كلامي، كنتُ أكلِّمك وهو يبكي، نعم كان يَبكي بحرارة لم أرَه فيها إلَّا يوم توفِّيتِ، نعم يا أمِّي إنَّ أبي كان يَفتقدك، إنَّه يحبُّك حبًّا ربانيًّا، فاطمئنِّي إنَّه لم يتزوج بعدك أبدًا، وهذه أول مرَّة أبوح لكِ بهذا الخبر، كان يزورك كثيرًا لكنَّه كان خجلًا فلا يفضي لك بذلك، كان يَبكي أكثر ممَّا يتكلَّم، وها هو الآن بجوارك يؤانسك في وحشتك.

 

كان طيبًا حنونًا وجلدًا صابرًا في الوقت نفسه، ألا تَعرفين ذلك فيه؟ ربَّما كنتِ تخفِّفين عنه ضنكَ الفقر وقلَّة الحيلة، عندما كنتِ تعيشين معه وإلى جانبه، ولكن بعدما فارقتِه تجلَّد أكثر وصبر أكثر، وأخذ منكِ ما لم نكن نحن نَشعر به، حين نحتاجك ونفتقدُك، كنَّا صغارًا فعوَّضَنا الكثيرَ والكثير، ولكنَّه لم يستطع شراءَ بيت كما تعرفين، ألا تذكرين تلك الحادثة المشؤومة؛ حين كنتُ صغيرًا في السنة الثانية من الابتدائية، حين أجبركم مالِكُ البيت على إخلائه؟ أذكره جيدًا كان يَطردنا طردًا، وكان معه اثنان من الشرطة، وقد أخذ أحدُهما بإصبع أبي وغمسه بالحِبر، ووضعه على ورقةٍ كان يَحملها، عَنوة وبالقوة!

 

لم أدرِك يومها ما فعلوه بِنا، ولم أدرِك لماذا طرَدنا من بيتنا ذاك الذي أحببتُه حبًّا لا زال في ذاكرتي إلى هذه السَّاعة؟! ألا تتذكَّرين يا أمي اليوم الذي فقدتموني فيه، بعد أن سكنَّا في بيتٍ آخر غيره؟ لم يكن بعيدًا كثيرًا عنه ولكنَّه كان غريبًا ولم آلفْه أبدًا.

 

لقد رجعتُ إليه في غفلةٍ منكم، وطرقتُ الباب فخرجت امرأة غريبة الشَّكل، نهرَتني عندما هممتُ بالدخول، ساعدها رجلٌ وأولاد كانوا إلى جانبها، لم يؤذوني، لكنَّ الرجل أخذ يسألني عن اسمي، ويهدِّئ من روعي عندما أخذتُ أبكي بشدَّة، وأصرخ بهم، وأقول لهم:

• لماذا أخذتم بيتَنا؟ لماذا طردتمونا؟ إنَّه بيتنا، أنا أحبُّه، فيه أمِّي وأبي وإخوتي.

 

ولولا أولاد الحارة والجيران الذين يَعرفونني، لما تخيَّلتُ أنِّي سأرجع إليكم! لقد أفزعتُكِ وأفزعتُ أبي وإخوتي يومَها، أليس كذلك يا أمِّي؟ وكلَّما أتذكَّر تلك الحادثة، أكلِّم نفسي وأقول دائمًا:

• يا ليت أمِّي وأبي يَغفران لي تلك الفعلة.

 

لا أطيل عليكِ بالحديث، فقد جئتُ اليوم لوعدٍ بيني وبين أبي، والوعد لم يكن هنا، وإنَّما هناك في أحد البيوت الخرِبة، من طرف المدينة الشمالي ما بعد النَّهر، ألا تَعلمين أنَّ أغلب بيوت المدينة قد تهدَّمَت وخربت؟ أصبحَت مخيفة، ولم يَعُد فيها أحد، وأغلب الناس قد هربوا خوفًا من القتْل والحرب، لقد تنقَّلنا بعدما تُوفِّيتِ عدَّةَ مرات من بيتٍ إلى بيت، لم يَستطع أبي شراءَ بيت لنستقرَّ فيه، كان أبي يفضِّل أن ينفِق على دراستي خارج سوريا، بدل أن يَشتري بيتًا، كانت أمنيته أن أقوم أنا بذلك بعد انتِهائي من الدِّراسة، لقد لفظَتنا المدينة وأبعدَتنا شيئًا فشيئًا، حتى أصبحنا خارجَها، كانت قاسية جدًّا معنا، مثل ذاك الذي طرَدنا من أول بيتٍ، كأنَّه كان يطاردنا، أو كأنَّ أحدهما يشبه الآخر في فعله!

 

غدَت البيوت وشروط تأجيرها غالية جدًّا، حتى لم يعُد بإمكان أبي إيجاد أجْر مناسب في كلِّ حال، إلَّا هناك في أحد البيوت الخرِبة البعيدة خارجَ المدينة، ومع ذلك فقد طال الخراب والدَّمار كلَّ شيء الآن، إنَّه منظر مخيفٌ يا أمِّي، إنها ليست المدينة التي تَعرفينها وأعرفها.

 

ها قد جئتُ لأبي حتى أخبره، فكان القدَر أسرع منِّي نحوه، ولعلِّك تخبرينه أنتِ؛ فهو الآن إلى جانبك، وترفَّقي به فهو جريحٌ كما قيل لي، مات بجرحه البليغ التي سبَّبَته شظية قنبلة نزلَت على بيته الخرِب، وذاك الشَّخص الذي ذكرتُه لكِ نفَّذ وصيَّتَه، وجاء به على أعين الجيش ودفنه هنا، قال لي: إنَّه يعرف أبي وإخوتي ولا يَعرفني، وقد جازَف معي حتى أوْصَلني إليكما.

 

لا أريد أن أفجعكِ أكثر يا أمِّي، لم يتبقَّ أحد من إخوتي أبدًا فلا تَحزني، سأحمل عنكِ وعن أبي كلَّ الحزن؛ اثنان منهم ماتا، وأختاي مريم وسعاد هاجرتا مع أولادِهما وأزواجهما منذ أن بدأَت الحرب، ولا أعرف عنهم شيئًا، لا تلوميني فلم أكن موجودًا هنا، كنتُ مسافرًا بعيدًا خارج سوريا وقد وصلتُ المدينةَ بالأمس، ولولا هذا الرَّجل الذي يَبدو أنه يحبُّ أبي حبًّا خاصًّا لَما عرفتُ كلَّ هذه الأخبار، فاعذِريني، وأطلب منكِ أن تسامحيني، لقد أنذرَني ونبَّهني بأن لا أتأخَّر، أخاف أن يدرِكني الليلُ فنتعرَّض للقتل بلا سببٍ؛ كما قال.

 

لقد اختفى هو الآخر ولم أعُد أراه! فأين ذهب؟ سأودعك وأودِّع أبي، وقد لا أستطيع أن أعود إليكما قريبًا؛ فالحال صعبةٌ ومعقَّدة جدًّا، وهأنذا أسمع أصوات انفِجارات وأزيز رصاص تَقترب منَّا، وقد أُقتل ولا أجد أحدًا يَدفنني؛ كما أفادني الرَّجل، أو حتى قبرًا يؤويني!

 

فوداعًا أيها الحبيبان!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- مدينة أحلام الطفولة
فادي - السعوية 10-02-2016 12:10 PM

السلام عليكم
كم أعجبتني تلك القصة القصيرة ودغدغت مشاعري وحتى أنها أبكتني لأنها تحكي باختصار القصة العامة لما حدث لمعظم أهل سوريا مع اختلاف الحبكة ، قصة جسدها الكاتب من خلال مشاعر العائد من الغربة ليجد غربة أكبر وخراب أكثر من الخراب الذي سكن طفولته.
شكرا للكاتب على ما أمتعنا به

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة