• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

الخبيث (قصة قصيرة)

الخبيث (قصة قصيرة)
د. مصطفى عطية جمعة


تاريخ الإضافة: 29/12/2015 ميلادي - 17/3/1437 هجري

الزيارات: 9772

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الخبيث

 

• ... كان الحكيم (الطبيب) يخرج العظم من ظهرها مفتتا.

أرهفت سمعي لجدتي وهي تهمس لجارتها أم محمود التي استفسرت:

• أي مرض هذا الذي أصاب الست زكية؟

• المرض الخبيث، يكفينا ربنا الشّر.

• اللهم آمين.

 

كانتا جالستين في شمس الضحى، فوق سطح بيت جدي، وقد أحكمتا تغطية سيقانهما هربا من برودة " أمشير " [1]، انشغلت جدتي بتفكيك " بمية " مجففة منذ الصيف الماضي، وقد شبّكت ثمراتها بخيط، وعلّقتها في ركن بالمطبخ.

 

يحيرني مشهد العظام المفتتة، يلح السؤال في أعماقي، همهمت، ثم استجمعت شجاعتي وسألتها:

• لماذا سموه الخبيث يا خالتي؟

 

لن تتضايق جدتي من إلحاحي، وستجيب عما يدهشني، تطلعت إلى عيني، وتكفلت أم محمود بالرد:

• من غضب الله يا بني.

• لو عصيت الله، أيصيبني الخبيث؟

احتضنتني الجدة بخوف، قائلة:

• سلّمك الله يا حبيبي.

 

أعود لتساؤلي، والعظام المفتتة تتخاتل أما عيني كالطحين:

• وماذا حدث للست زكية؟ كيف استقام ظهرها؟

ترد جدتي: خرج السر الإلهي بعد أيام.

 

(1)

كان دائم المرور على خالي وقت المغربية؛ إنه " ممدوح "، ذو الجسم المشابه لجسم أحمد رمزي، يأتي ويرفع صوته ذو النبرة الرفيعة مناديا خالي، ولأنني كنت ألعب في الدهليز الخارجي لبيت جدي، أسرعت بتحريك باب البيت الخشبي الكبير الذي يدور حول محور خشبي، وأسمع اهتزاز المطرقة الحديدية المدلاة، ثقيلة هي عندما حملني أخي الأكبر وحاولت استخدام مقبضتها. خرجت مجيبا:

• أهلا يا أستاذ ممدوح، خالي موجود.

• نادِ عليه.

 

أدخل، فأجد خالي قد انتهى من ارتداء ملابسه: قميصاً لبنيًّا وبنطالاً أزرق وراح يلمع شعره بزيت أخضر اللون، أقول له:

• الأستاذ ممدوح..

 

يقاطعني، وهو يلبس حذاءه:

• سمعته، سأخرج له.

 

اليوم الجمعة، موعد خروجهما، نظرت لملابسي؛ ألبس فانلة برتقالية على شورت أسود، سأتشبث بهما، سيذهبان للسينما، ويتعشيان. تعلقت بيد خالي، رفض " ستنام هنا "، صرخت وضربت الأرض بقدمي، ارتفع صوت جدتي وجدي " خذه معك، هذا عيّل ".

 

تعلقت بيد " ممدوح "، وأنا أسير معهما في شارع البحر، منشغلا بأكل " كوز ذرة " مشوي، وهما غارقان في حديث باسم تصلني منه كلمات متناثرة. دقائق وكنت غارقا في ظلام السينما، ظللت واقفا فقد دخلت مجانا لصغر سني، أتأمل الشاشة فضية اللون، وأشاهد الفيلم الأجنبي: معارك بالأيدي، طلقات الرصاص متتابعة، أجساد تتطاير، تمتلئ الشاشة بطائرة هليكوبتر.

 

شعرت به يحملني في العودة، " ممدوح "، كان حانيا، ورفض أن يوقظني خالي عند اقترابنا من البيت.

• • •


هزيلاً كان، حينما مرّ على خالي، وآثر أن يجلسا في غرفة الجلوس ذات الكنبات الأربع. ضعيف صوته، شاحب الوجه، تعرقت يداه، وقميصه فضفاض على صدره.

• ماذا حدث للأستاذ ممدوح؟

• مريض، ربنا يشفيه.

 

أجابني خالي بهمسة حزينة، بعدما أوصله إلى باب البيت، حاولت أن أستفسر أكثر؛ منعتني جدتي، التي سألته فأجابها:

• المسكين يتحرك رغم المرض، مشتاق للشوارع، قبل أن يسافر.

• يسافر أين؟

• إلى القصر العيني.

• • •

غاب خالي أسبوعين؛ مرافقا لممدوح في القاهرة، فهو وحيد على إخوته البنات، وحين عاد خالي، كانت ملامحه ضائعة وسط شعر لحيته الذي نما دون تهذيب. لم أستطع التقاط إلا جملا مبعثرة، لم أجد فيها " عملية جراحية "، وإنما " دواء كيماوي "... وأنهم أعادوه إلى البلد.

• • •


ذهبت مع جدتي إلى بيته، لم يظهر من جسده إلا وجه بارز العظم، ورأس متساقط الشعر، تراكمت عليه أغطية عدة؛ ألحفة وبطاطين وملاءات. وقفت مرتكناً، وجلست جدتي وهي تتمتم بالشفاء، وترتشف كوب الشاي الذي أعدته أخت ممدوح، أتطلع إلى نافذة الغرفة؛ لا تنفذ أشعة الشمس إلى أعماق البيت، ربما لأن بيتهم في آخر حارة مسدودة، وحوله بيوت عالية البناء. الصمت جاثم في العيون، وأم ممدوح ملاصقة لابنها، تتمتم بما تحفظه من آيات القرآن، وهي تتحسس الرأس الأقرع.

 

استندت جدتي على كتفي في عودتنا، كانت ملاءتها السوداء تغطي كتفيّ، شعرت بوهنها، سألتها:

• ما مرضه؟

 

شعرت بحيرتها، ألححت بتكرار السؤال، همست:

• الخبيث..، ربنا يعافينا منه يا بني.

شهقت، لم أر عظاماً مفتتة، والجسد سليم، فقط الجلد كاسٍ العظم.

• • •


كان مشهده عزيزاً على سكان الحي، أمه في صدر الحارة تخربش طوب حائط بيتها، علّها تدلف وتلمس الجسد العظمي الذي يُغسَّل في الغرفة " الجوانية" فيما تراصت كراسٍ؛ تملأ فناء الحارة.

تعلقت الأم بالنعش، تشبثت بها ابنتاها، تقدم النعش حاويا العظام الجلدية، خفيفاً تتناقله الأكتاف بيسر.

 

(2)

كانت ممددة على السرير النحاسي ذي القوائم الحديدية، جدتي، أتأمل جسدها النحيل القصير، وقد اكتسى بصفرة داكنة، وغامت عيناها. شعرها الأبيض متناثر على مخدة بهت لونها.

• ماذا بك يا جدتي؟

ظلت عيناها في اللاشيء، قبضت على كفها، الأصابع المعروقة تذوب في كفي الصغير. أنظر لأمي التي أخفت وجها باكيا، السؤال في فراغ الغرفة بسقفها الخشبي العالي الذي يبثُّ رطوبة تكتم الألسنة.

• • •


هذه المرة الأولى التي أرى فيها المستشفى العام (الأميري)، بناء أبيض كبير أتيه في معالمه. أبقوني في الحديقة، انطلقت على النجيل، مساحات خضراء تتوسطها أحواض زهور جافة، غرقت في الحشائش الطويلة، أتقلب على الأرض، انتبهت إلى همس أمي أن أبقى هنا؛ التساؤل في أعماقي. سأظل وحيدا على النجيل ونباتات بلا زهرات، وأخرى شوكية الملمس؛ أدمت أناملي. أسترجع همسات أمي وخالتي:

• .. العملية نجحت، والطبيب أخرج الورم من بطنها.

 

سأصعد لجدتي، سمعت أمي تهمس لخالي أنها بالدور الثالث، أرتقي السلالم، تملأ أنفي رائحة الكحول، يتداخل لون الجدران مع بياض الأسرّة وملابس الممرضات. أصل للدور الثالث، أغرق وسط ردهاته، أتنقل بين العنابر الكبيرة، تجوس عيني الأسّرة، تتشابه الوجوه، تتداخل، تصبح مزيجا من البياض والاصفرار مشبعا برائحة الدواء.

 

في عنبر أوسط، رأيتها، في السرير الأول، حولها أمي وخالتي وخالي، وجهها شديد الاصفرار، غابت شفتاها فاستحال فمها خطا باهتا، شال أسود يلف صدرها، طالعتني بعينين ذات حدقتين باهتتا السواد. ارتكنت بجوارها، وكلمات أمي المعنفة تلاحقني، تحسستني بيدها، عروق ذراعها على خدي، ألتصق فيها، وأتحسس جسدها.. ثمة ضمادات عند بطنها، شعرت ببرودة في أعماقي.

• • •


في الدهليز الداخلي لبيت جدي، الكفوف تحمل جسدها ملفوفا بقماش؛ لم أميز لونه وأنا غارق وسط الأرجل، فيما لهجت الحلوق بالأدعية، والنعش ذي البروز الرأسي في مقدمته يتحرك خارج البيت.

• • •


أبكي مستحضرا جسدها بضماداته: جدتي كانت طيبة؟!

رد جدي في جلسته جانب الشباك ذي الضلفات الطويلة:

• .. المرض يا بني بلاء أو ابتلاء.

• • •


وحيداً كنت على سطح البيت، الشمس متسلطة على رأسي، قلبي منقبض، أسرع بالنزول عبر السلم الخشبي، أتوقف عند الغرفة السفلية " الخزانة "، صناديق مبعثرة، وأخشاب وحدايد..، في ركن الغرفة، كومة من طين رطب؛ آثار أصابع عليه، عبثت به، تبدو ملابس مطمورة، أزيح الطين، إنها ملابس جدتي، أقلبها، مصطبغة بدماء جافة. رائحة جدتي تشعل أعماقي ناراً.



[1] اسم لأحد الشهور حسب تقويم السنة القبطية المصرية القديمة .





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة