• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

أحافير التحول (قصة)

أحافير التحول (قصة)
د. أسعد بن أحمد السعود


تاريخ الإضافة: 6/1/2015 ميلادي - 15/3/1436 هجري

الزيارات: 3923

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أحافير التحول


مسح قطرات العرق المتساقطة من على جبينه المتجعّد، ثم مرَّر يديه على لحيته البيضاء المنسدلة على صدره - وكأنها شلّال ماء رقْراق يتدافع مع بعضه البعض، ويتساقط من على جرف عال!

 

تنهَّد قليلاً، وأخذ نفَسًا عميقًا، ثم جرَّ هيكل جسمه المتداعي إلى ركنه في زاويته الحجرية تحت قبة المُتوضَّأ، شعر بإنهاك قوي يعم بدنَه، وبالرغم من قطعه المسافةَ بين بيته القديم والمسجد بهذا التواتر المنتظم منذ سنين مضت، فإنه اليوم أحس بتعب غريب يسيطر عليه، ولم يكد يصِلُ إلى ركنه حتى ظنَّ أنه قد استنفد كل طاقته.

 

جلس تحت القبة في وسط الجهة الجنوبية من صحن المسجد يستظل بها من أشعة الشمس يتلمس بعض البرودة من صنابير مياه الوضوء التي فارقها كثير من أصحابها منذ زمن، أسند ظهره على أحد أعمدتها الحجرية، وراح يحدق بعينيه الغائرتين، وبأعمدة وأقواس وجدران الفناء الرحب الواسع!

 

لقد ألف أحجارها حجرة حجرة منذ سنين غائرة من عمر مدينته، حيث انتقلت أخبار وأحداث بنائها عن جدّه وأبيه وما جاءت به كتب الأثر، وهذا المسجد وكل البيوت من المدينة القديمة ودكاكينها لا يرى فرقًا في شكل ولون حجارتها، وكأن الذي بناها جميعَها واحد، وبيد واحدة، وبوقت واحد.

 

لم يتجرأ صاحبه المؤذن بسؤاله عن سر جلوسه تحت قبة المُتوضَّأ كلَّ السنين الماضية.

فكل يوم وقبل صلاة الظهر يجرُّ شيخنا ثقلَ بدنه إلى هذا المكان، لم يفته يومٌ إلا وهو في مجلسه هذا، أيام البرد القارس وفي المطر كان لابد وأن يحضره ولو لوقت قصير.

 

يجلس شابكًا يديه على ركبتيه ويذهب بذاكرته باسترجاع ما يحفظ من آيات القرآن، أو يستطرق بالتفكير في أولاده بالبيت الذي أصبح خاليًا، وقد اشتد به الهم ولازمه أكثر في السنتين الأخيرتين، ويعود بشريط ذكريات حياته حين كان رجلاً قويًّا، وعندما رُزق بآخر أولاده، حينها نذر نفسه لهذا المكان ولإمامة المصلين، وللتدريس فيه مدة لا يستطيع أن يحصيها إلا باقترانها بعمر آخر أولاده الخمسة والعشرين عامًا، ولا يقض مجلسه سوى صوت المؤذن في تكبيرات الله أكبر حي على الصلاة، ويردد قول رسول الله: ((أرحنا بها يا بلال...))، ويعقب في قرارة نفسه (في هذه الأيام أصبحت خطرًا، والله المستعان!).

 

في أيام الصيف يستطيب له الجلوس أكثر مع صاحبه المؤذن وبعضًا ممن بقي، ويعرفون هذا المجلس المؤقت.

ألقى المؤذن السلام على غير عادته، ومضى يمشي حافيًا على الأحجار المرصوفة بأرض الفناء بالرغم من حرارتها باتجاه البوابة الصغيرة المؤدية إلى غرفة الضريح من جهة صحن المسجد الغربية بزاويتها الشمالية، ارتسمت علامات الاستفهام بمخيلته عن سبب امتناع صاحبه من الجلوس معه، ونادرًا ما يشاهده يدخل ذلك المكان! خمَّن أن أمرًا ما سوف يعلمه ولو بعد قليل.

 

أخرج ساعته القديمة من جيب صدريته المربوطة بسلسلة فضية ليتأكد من الوقت، نظر إليها متفحِّصًا، وقرَّبَها من عينيه، تأكَّد من الوقت أنه لا زال مبكرًا على موعد الأذان، شعر بنقرات على أصابع قدميه الممدودتين أمامه، كانت هناك بعض الحمامات قد اقتربت منه كثيرًا، ابتسم الشيخ مغتبطًا لهذه الطمأنينة التي عقدت بينه وبينها ولم يساوره شكٌّ، فقد أَلِفَ كلٌّ منهما الآخر منذ سنين كثيرة، فطن إلى حالها وأضمر سرًّا أودعه بين ضلوعه، فأحسَّ بقشَعْريرة لذيذة تسري بجسده فآثر عدم الحركة، وجمد في مكانه حاول تحريك إحدى يديه فلم يفلح، فآثر السكون أكثر، ازداد تنفسُّه، وزادت ضربات قلبه خفقانًا.

 

لم يشعر بهذه الحالة من قبل، ولكنها أصبحت تزداد ثقلاً يومًا بعد يوم تذكر زوجته الطيبة أيام مرضها، لقد كانت أول مَن فارقه من أسرته، وتذكَّر أبناءه وبناته البعيدين عنه، لقد هجروا المدينة إلى حيث الأمانُ من القتل أو الاعتقال، هم خارج الوطن أو داخله فلم يعد يعرف أين هم؟!

 

تمنى لو ينادي على آخر أولاده ليحضنَه أو يوصيه بالحرص والعناية بنفسه؛ فقد كان ينتظر موعد زواجه إلا أن انشغاله واهتمامه بالأحداث الدامية اضطره لتأجيله إلى حيث لا يعلم.

 

استغرب لخلو الفناء من أحد.. والمتوضَّأ بجانبه لا زال خاليًا ولم يرتدْه أحد من المصلين أبدًا، هدوء وسكون عجيبان، أحسَّ بهما يخيِّمان على كل أرجاء المسجد الرحبة، لقد غاب عنه كل شيء فبقي وحيدًا، حاول النهوض معتقدًا أن الناس قد دخلوا المسجد للصلاة إلا أن ثقل جسمه قد منعه من الحركة، وعادت قطرات العرق تتوالد من جبينه ثانية وبغزارة، استلَّ ساعته ثانية فلم يحتمل ثقلها، وأحس بارتعاش أكثر في يده، تأكد أن وقت الصلاة لم يفته، اقتربت الحمامات أكثر وتجمعت حوله بأعداد كبيرة، وراحت تصدر هديلَها بأصوات متناغمة كأنها تبوح بأمر يخصُّها، اهتزت شعرات لحيته البيضاء من نسمة مرت بها، ولم يشأ سحب رجليه فقد كانتا ثقيلتين، التصق أكثر بالعمود الحجري خلف ظهره وثبّت نفسه وأوقف حركات جفنيه الذابلين، فتح فاه فاغرًا عن ابتسامة غريبة، ولم يعد يشعر بما يحدث حوله في المسجد، فقد غطَّى هديل الحمام الخائف على كل مسامعه ثم اختفى وعلت بدلاً منها صيحات وتكبيرات موجات الناس المندفعة نحو قلب الصحن واختلطت صيحاتهم مع أصوات التكبيرات من مكبرات مئذنة المسجد، وأخذت تتشكل حلقة غفيرة من الناس يحمل بعضهم في وسطهم جثةً مضرجة بالدماء محمولة على أكتافهم وأياديهم، علت الأصوات أكثر وأكثر وجموع وحشود المشيعين تتزاحم بقوة، وصوت التكبيرات من مكبرات الصوت في المئذنة تزداد حدة بازدياد حدة الانفجارات والطلقات وسحب الدخان الكثيفة! علت على كل شيء، لم يطل الهجوم والاحتدام لأكثر من دقائق، تفرق جمع المشيعين بقوة مفرطة غريبة! والجنود يطاردونهم من رواق إلى رواق، ومن ركن إلى ركن داخل المسجد وخارجه، وسقط من سقط ولاذَ مَن لاذ بنفسه وجسده بإصابته وقد خلفوا بعضًا منهم جثثًا، اختفت الهتافات، وخبت التكبيرات، فتح شيخنا عينيه، بعدما استجمع من قوة وحياة باقية فيه، تغلغل فيه اليقين بما حفظ من آيات الله أن الأجل دنا منه أكثر وأن التحول وطد من وجوده، واستشرى في الجنود فتذكرهم في صورهم الأولى، وعادت إلى مخيلته أنه كان يشاركهم منذ مئات السنين في وضع الحجرات الأولى من أساسات هذا الصرح العظيم، كانوا يوم ذاك فاتحين دعاةً بناةً لبيوت الله، وها هي أحافيرهم اليوم تدكُّ وتهدم ما بناه أولئك، فقد تحولوا لغزاة مطاردين قاتلين لعبَّاده وحراسه، انجلى المشهد عن صورة حزينة مؤلمة، خرج المؤذن من مكانه الذي كان فيه، اقترب يجر هيكله جرًّا ثقيلاً، تعثر بجثة شاب تسبح في بركه دم يغلي، كان المؤذن أول مَن جرؤ على الخروج بعدما اختفى الجنود، كان يبحث عن صاحبه الشيخ الإمام ليفشي له سرَّ دخوله قبة ضريح الفاتح واضع حجر أساس هذا المسجد، لقد انتهكوا حرمة كل شيء، وداسوا بأحذيتهم على كل شيء، لم يستثنوا أي شيء، جاءه ليشكو إليه! ويريه ما حل بالمسجد وبالناس والأموات وبوجهه وجسمه المتهاوي، والدماء تقطر منه كيف ألقوه أرضًا، وداسوا عليه بحوافرهم!

 

اقترب المؤذن أكثر فتملّكته الدهشة في بادئ الأمر! وما زال الشيخ بوضعيته وجلسته التي رآه فيها قبل الظهر، لم يظهر عليه أي اصابة، فرح قليلاً بالرغم من الآلام الشديدة التي يعاني منها، ناداه باسمه ليبعث فيه الأمان، فلم يَلقَ ردًّا، نظر إلى حجره وهو يشبك بيديه على حمامة آثرت الاختباء هروبًا من الدخان السام الكثيف، اقترب منه أكثر تلمس يديه، لاقى صعوبة وصلابة وقساوة في فك تشابك أصابعه المطوِّقة للحمامة، نقل يده ضاغطًا بها على كتف الشيخ ثم إلى الجنب فلم يلقَ أيَّ ردة فعل، وكان جفناه مفتوحين، وحدقتا عينيه شاخصتين لا تتحركان، قرَّب أذنه من أنف الشيخ علَّه يحس بنفس ما، لكن شيئًا من هذا لم يحدث، أصبح يقينه واقعًا والخوف يمتلكه لأول مره، وأخذ يرتعد بأن الشيخ أصبح جزءًا من هذا العمود، وكأنه غدا كتلةً قد تحوّل إلى قطعة من حجر هذا المكان العتيق.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة