• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

الثوب الأبيض ( قصة )

الثوب الأبيض ( قصة )
السيد راشد الوصيفي


تاريخ الإضافة: 1/12/2014 ميلادي - 8/2/1436 هجري

الزيارات: 7409

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الثوب الأبيض

 

(1)

قالوا: إن أمي ارتدَتْ في حياتها ثلاثةَ أثواب فقط، ثوبان أبيضان ناصعان جدًّا، وثوب أسود ناصع، ولكن في بعض الأحيان لم يكن ناصعًا جدًّا - حقًّا، منذ أن ولدتُ لم أرَ أمي ترتدي إلا ثوبين فقط، كان الأول أسود طوالَ حياتها، وكان الأبيض لوقت قصير، ولم أر الثوب الأبيض الآخر!

 

عاشت أمي طويلاً، كلما جلست في البيت ارتدَت ثوبًا لونه أسود، وكلما خرجت لبستْ ذاك الثوب الأسود، وتلحَّفت بملاية سوداء، وإذا كانت في الصلاة ارتدَتْ ذاك الثوب الأسود، وتلحَّفت بلحاف أبيض، عاشت أمي طويلاً، ومهما كانت طويلة فقد كانت قصيرةً جدًّا، يا إلهي، كم هي الحياة قصيرة مهما طالتْ؟! كانت أمي تهشُّ وتضحك بابتسامة حلوة، أعرِفُ مغزاها، كانت تقول: "يا بني.. سنأخد زمننا وزمن غيرنا!".

 

وكنت أقول لها: "يعني إيه يا حاجّة؟". وأفركُ منخارها بين إصبعي فركًا خفيفًا يدل على عمق الحب بيني وبينها، فتشتاطُ حبًّا، وتقول: إيدك يا ولد، فأضحك، وتضحك.

 

وتقول: متى يجيء الموت؟

فأقول لها: بعيد الشر عنك يا حبيبتي!

فتكرر مقولتها: "الحمد لله، سنأخد زمننا وزمن غيرنا".

 

كانت تقولها والله بكل صدق وإخلاص، دون خوف، أو وَجَل، أو تمثيل، أو رياء، واثقة من نفسها، متيقِّنةً بكل صدق مقابلة ربها، ليس هربًا ونزقًا من الحياة، تلك الصائمة القائمة العابدة، التي لم تترك فرضًا للصلاة، من صلاة الفجر، ولا تنام إلا إذا صلَّت العشاء.

 

كنت أرتشف الشاي - وأنا جالس بجوارها - وأفكِّر في معاني كلامها، ويسرح خيالي، ويرد عقلي الباطن: يا رب، أطل لنا في عمر أمي.. كانت هذه الكلمات في نفسي كالبركان، وكانت عيني ترمقُها من شعرها إلى أخمص قدميها - وهي تشرب الشاي فاترةً مبتسمة الثغر، غير عابئة بما قالت، وما يعتمل في نفسي وصدري لما قد قالت.

 

أقسم لكم، لم أرَ أمي إلا في الثوب الأبيض الناصع جدًّا، ذلك الذي حملتُها به على أكتافي، وعلى هاتين اليدين اللتين سيأكلهما الدود، وهي ممددة بين يدي ربها سبحانه، ووسَّدتها الترابَ في قبرها بعدما فكَكْتُ الأربطة، وكشفت عن وجه - والله كفلقِ الصبح - كأنه القمر ليلة البدر، وقد تركتُها بين يدي ربها، بعدما ودعتُها بقبلتين حارَّتين على جبينها الوضَّاء، وقبَّلْتُ يديها، وزدت في حبي، ففركتُ منخارَها بين إصبعي فركًا محبَّبًا خفيفًا، كما كنت أصنع معها في الحياة الدنيا؛ إيقانًا مني بأنه الوداع الأخير! هممت بالخروج مُلوِّحًا بكلتا يدي، وعيناي تذرفان الدمعَ على قبلة الوداع، تاركًا المكان لقدوم الملكين!

 

(2)

وخرجت من تحت أطباق الثرى، وما زال السؤال يعضني، قالوا لي: إن أمَّك لم ترتدِ في حياتها إلا ثلاثة أثواب، الأول والثاني أبيضان ناصعان جدًّا جدًّا، والآخر أسود، ولكن في بعض الأحيان يكون ناصعًا جدًّا.

 

قلت وتساءلت: الثوب الأسود عَهِدْتُه وعشتُ معه طوال عمري، والثوب الأبيض ها قد ودَّعْتُها فيه الآن، وكان حقًّا أبيضَ ناصعًا جدًّا جدًّا ورائحته زكية.

 

فسألت خالي بعدما رجعت إلى البيت، ونحن نتقبَّل العزاء من الناس الذين قد جاؤوا فرادى وجماعات لمواساتنا، ذلك السؤال، فأمال عليَّ وقد فرَّتْ دمعتان ساخنتان من عينيه، من قال لك فقد نسي ثوبًا أبيض آخر، كان لا يقل عن الثوبين الأبيضين الآخرين بحال، وكانت رائحتُه زكية، وما زلت أحتفظ به إلى الآن، وسأعطيك إياه.

 

أحسست بأن كنوز الدنيا ستأتيني، وجلست مع خالي، وقال: يا سيدُ، أمُّك رحمها الله قد ارتدَتْ ثلاثة أثواب بيضاء - وليس ثوبين أبيضين فقط - وثوبًا أسود، فقلت له: ها هو الثوب الأسود أعرفُه جيدًا، وثوب أبيض تركتُها فيه عند ربها، فما هما الثوبان الأبيضان الأخريان يا خالي؟!

 

قال: أما الثوبان الأبيضان الآخران، فهما: الثوب الأبيض الأول، ارتدته ليلةَ زفافها على أبيك رحمهما الله، وأما الثوب الأبيض الثاني، فكان يوم ذهابها للمسجد النبوي عند حجها، وأما الثوب الأبيض الثالث فالذي رأيتَه يا بني، قابلتْ به ربَّها.

 

فكففت عن السؤال، ولم أكفَّ عن الدمع المدرار!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة