• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

حالة طابور ( قصة قصيرة )

د. أسعد بن أحمد السعود


تاريخ الإضافة: 24/11/2014 ميلادي - 1/2/1436 هجري

الزيارات: 4497

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

حالة طابور

(قصة قصيرة)


ظلام دامس، ورطوبة تأخذ بالأنفاس المكتظة الخانقة، ركام من البشر أشبه ما يكون بركام الأحجار في خربة ضيقة، يتزاحم فيها كل شيء، وسط جيفة نتنة، لا ملاذ ولا منفذ للهرب من استنشاق الرائحة المنبعثة من أجساد الهاربين من الدمار في العالم العلوي من المدينة، والهروب الوحيد الذي كنت أمارسه هو التكور على بعضي في انحشار آمن أجده بين خائفين من الدمار المستمر في كل أرجاء المدينة.

 

وأغطُّ في غفوة أجهل زمنها، ولا أستيقظ إلا على صوت انفجار قذيفة غادرة قريبة، ينتشلني من حلم في نهر - أحسب أنني كنت أغتسل به؛ لإزالة الرائحة الخانقة المتزايدة أكثر وأكثر من حولي.

 

كانت يوميات الوقت مختفية وراء ظلام الملجأ الدائم، ولست أدري كم لبثت منذ أن احتميت بهذه الخربة الآمنة لأول مرة، لكن تاريخ الزمن انقضَّ علينا في غفلة من أمننا، وأخذ يكشِّر عن أنيابه شيئًا فشيئًا، في المرة الأولى سمعنا بآذاننا، حيث كانت رؤية بعضنا بعضًا لا سجل لها هنا أبدًا، وازداد هلعنا وارتعادنا!

 

وفي المرة الثانية تأكَّد لنا بالإضافة إلى تَكْرار ما قد تسرَّب إلى آذاننا بأن زادت توتُّرات الانفجارات البعيدة والقريبة، وفي المرة الثالثة حيث كانت سببًا لهروبنا النهائي من هذه الخربة البشرية العفنة إلى العالم العلوي المدمر والحرائق المستَعِرة، والجثث المقطعة في كل الأرجاء.

 

لم يكن لي بدٌّ إلا الولوجَ في كُوَّة بأحد الجدران المدمَّرة، وكانت فيها غفوتي الثانية، ولم أحس بالوقت يمرُّ على ذاكرتي وأنا أتجول في حديقة مليئة بالورود والزهور الباهتة والفاقدة للرائحة، شعرت بأن قدمي تغطسان في وحْل ساخن ألهب جسدي كله، تعلَّقت يداي بالهواء علّي أتشبَّثُ بشيء ينقذني مما أنا فيه، سرَتْ حالة من الضيق في صدري، واشرأبَّتْ عيناي، وأحسستُ أنني أعود إلى الخربة البشرية، وعادت إلى مسامعي حكايات الملجأ تقرعُها كقرع الطبول، انتفضتُ متمرِّدًا من وضعي! ومستنكرةً أذناي ما سمعت، وإذا بي أسمع أنين جسد بشري يتملْمَلُ من تحتي ويطلب الإغاثة، وإذا بالوقت يقف في فوهة الكوة، ويرسل إليَّ خيوط ضوء نهار هادئ.

♦ أين ذهبت الأصوات، كل الأصوات؟!
♦ أين أصوات الانفجارات؟!
♦ أين أصوات الطائرات؟!
♦ أين أصوات الخائفين؟!
♦ أين أصوات المدافعين؟!
♦ وبدأت أستذكر اليوميات، ولم تكن هناك يوميات! كانت كلها في بقعة مظلمة واحدة.

 

زحفت نحو مصدر الضوء ببطء شديد؛ حتى لا أثير أي انتباه، وكأني لازلتُ أعيشُ في الهروب الأول، لم تتلقَّ عيناي أيَّ صورة من تلك الصور القديمة التي انطبقت عليها في الظلمة، انفرجت أساريري قليلاً، وهمَمْت بالرجوع للوراء لأستعيد التكوير على بعضي، لكن الحاجز وراء ظهري منعني من تحقيق ذلك، واستغربت! وبدأت ذاكرتي بالاستيقاظ من غفوتها، فأكدتْ لي: أنني لم أخترقْ أيَّ حاجز من قبل، وما كدت ألتفِتُ إلى الوراء حتى رأيت الكتلة البشرية ذاتَها تلاحقني، وتدفعني، وتشجعني للخروج مما نحن فيه.

 

وعاد التهلُّلُ المفقود إلى وجهي منذ زمن طويل، وخرجت مصارعًا الجوعَ والعطش، والانحطاط هاربًا من العفونة النتنة، التفَتُّ في كل الاتجاهات، وتحقَّقْتُ من الهدوء المطبق على كل أرجاء المدينة المدمرة، ثم أخذت قامتي بالاستقامة، سررت كثيرًا بساقيَّ اللتين رحَّبتا بي، وطلبتا مني السيرَ عليها بكل تفانٍ، فتقبَّلْتُ الدعوة شاكرًا، وكأنِّي بهما تردّان الجميل.

 

مضيت أتعثر بكل شيء بين الأنقاض، وصلت إلى أعداد غفيرة لا نهاية لهم من البشر، يقفون وراء بعضهم البعض كالعقد، حاولت تجنبَهم والابتعاد عنهم وقد ضجرتُ من مجاورتهم، فإذا بأحدهم ينقضُّ عليَّ، ويأمرني بالوقوف وراءه، فاستغربت فعلتَه، وسألته، فأجاب بعصبية شديدة:

لا تنقض الطابور! حالة لا بد منها!


وما أسرع رضوخي واستسلامي حينما تلقيْتُ هذه الكلمات، وكأنها عادت بأصوات الانفجارات والحرائق والدمار، ولكن هذه المرة في عالمي أنا، فإلى أين تمضي هذه السلسلة من أجساد البشر المنهكة المهترئة، سمعت الجوابَ قادمًا إلى مسامعي من ورائي، وكان صوت امرأة متهالكة تعجب للأمر، وهي تغرز شيئًا قاسيًا في ظهري العاري، ولا عجب إذا رأيت الركام يمتد من خلفي كما هو من أمامي، تناولت بيدَيَّ المرتجفتين بعضًا مما جاءت به (قدور) الوجوه الغريبة التي أراها لأول مرة، وكان شيئًا لا يَسُدُّ الرَّمَقَ؛ إذ لا يتوفر ما يكفي لإطعام كل هذا الطابور الذي لا نهاية له، حاولت استرجاع ذاكرتي بالزمن، لكنَّ قدمَيَّ رحَّبتا بحالتي الجديدة، وجادتا هما الأخريان بما عندهما، وانطويتُ مع الظلمة للمرة الثالثة، واختلطت كل الأحلام مع بعضها البعض، وغابت الذاكرة في دهليز طويل، فزعت من سرعة انزلاقي به، تمنيت اختراق أي حاجز حتى أتشبَّثُ به، والغريب أن بقعة الضوء كانت هي الحاجز الذي أيقظني من حلمي الرهيب للمرة الأخيرة.

 

تهاتفت على أذني جملةٌ صحيحة كاملة قدمت من فمي وسألت:

أين ذهب الطابور؟


لم أتلقَّ جوابًا؛ إذ لا زالت الوجوه الغريبة منتشرة من حولي، ولكن بشكل آخر ومختلف.

 

أعدت مرة ثانية على مسامعي نفسَ الكلمات، وبدلاً من أن أتلقَّى الجواب على أذني، تلقت عيناي صورة ذات المرأة التي كانت تقف ورائي بالطابور، تتقدم إلي ببشاشة حزينة مكسورة، ناولتني صحيفة مطوية وملفوفة، لم أكن واثقًا من قدرة يدي على فضِّها، وتلقيْتُ المساعدة للمرة الثانية منها، فوجدت نفسي ألتَهِمُ ما جاء مكتوبًا في الصحيفة بشراهة عجيبة.

 

عادت أصوات الانفجارات، ودَوِيُّ المدافع، وأزيز الطائرات تنقض على شِعاب دواخلي، وانخرطَتْ ذاكرتي متطوعة بالرجوع إلى ظلمة الملجأ، وعفونة خربته، رَغِبْتُ بالتكور للمرة الأخيرة على بعضي؛ لأبحث عن مكان آمن، لكن صورة المرأة عاجلتني، وكأنها أدركت ما أصابني، قالت بصوت بان عليه كل التدمير والهروب والانهزام:

♦ إن المدينة سقطت بفعل هذا الطابور!
♦ عاجلتها قائلاً وكأني شُفيتُ من حالتي الراهنة، وأنا أتَلفَّتُ من حولي في كل الاتجاهات.
♦ هل تظنين أننا سنعود إلى خربة الملجأ وظلمته؟
♦ أجابت بمرارة عقدت حاجبيها السوداوين المتعفِّرين بالأتربة الملونة، وهي تبتعد عني متعثِّرة.
♦ إذًا تقيأنا ما أدخل الطابور في أجوافنا.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة