• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

الفارس المتخفي ( قصة )

د. نزار نبيل أبو منشار


تاريخ الإضافة: 2/7/2014 ميلادي - 4/9/1435 هجري

الزيارات: 3751

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

الفارس المتخفي


تعرَّفت عليه في سجن غنَّت أسلاكُه لحن القرون البائدة، وجدرانه عفا عليها الزمن، والخيام فيه استطاب طعمَها العتُّ والأَرَضَة، وتوسَّعت فيها مستعمرات الفئران، وتناكحت العناكب فيها حتى أثبت كلُّ واحد من سلالاتِها المتعدِّدة مسكنه الذي تطلبُ أشعة الشمس منه الإذنَ إذا أرادت الدخول إلى الخيمة البالية التي جَمَعتنا بين قوائمها الثمانية.

 

وفي غَسَق ليلٍ خبا فيه نور القمر، ولم تترك آلياتُ العدو فيه زهرةً تهدينا عبير الاستقبال، ولو على بُعْد ميل، أُنزِلتُ معصوبَ العينين، مُكبَّل اليدين، وأُخِذَتْ بحقي الإجراءات الإجرامية الروتينية؛ لأُقاد وحولي فوهات البنادق الرشاشة مصوَّبة، ليس بيني وبين الرصاص النائم فيها إلا حركة إصبع، وأُرمَى في أحد الأقفاص العفنة، أقاسي مُرَّ الجفا والحرمان والنوى.

 

وفي حلكة الليل، إذا بنوره يسطع آتيًا من جانب إحدى الخيام، يتمشَّى بحركاته المميزة، وطلعتِه المعروفة صوبي، يُرحِّب بي ويستقبلني بوجهه الباشِّ، وابتسامته الوادعة، وأراه بتواضعِه ومعروفه الذي بدا من أول لحظة، يساعدني ويرشدني إلى سريري، بعد أن تعرَّت الساحة من روادها وغطَّاهم النوم، إلا بعض الحيارى ممن شدَّهم الوجد وأرَّقهم البعاد.

 

بحلول الصباح تفتَّحت عيناي كزهرتينِ برِّيتينِ داعبهما قطر الندى، لأراه قد جفا مضجعه قبل أن يقوم الجميع، وتأهَّب لتحضيرِ الطعام لهم ليجدوه جاهزًا إذا استفزَّهم الصباح، فنظرت إليه، وأعجبت بصنيعه الرائع، وما إن شعَر بمراقبتي إياه، حتى بادرني بابتسامة تحمرُّ منها وجنتا الشمس الذهبية، فشعرت باطمئنان سابغ، وأمانٍ يحتل قطرات الدم في عروقي.

 

فإذا بزغت الشمس وتمطَّت في كَبِد السماء، انزَوَى عن المجموع ليجمع الحجارة الصغيرة من بين الأسلاك الشائكة، ينتقي ما صبغته الدنيا بأثر الحمرة أو الصفرة أو التموج، يجلس في موضع رَصَدهُ وانتقاهُ ووجده صالحًا ليجعل منه محكًّا لحجارته التي يصطفيها من بينِ نظرائِها مما لم ينالوا رضاه.

 

كان صمتُه الذي زيَّن هامته يُمثِّل هِمَّةً نورانية تُعربِدُ في أوصاله، ويحكي قصة فنٍّ مُكتنزٍ في صدره، وكانت حجارته الصمَّاء تستحيل بين يديه لوحات تبدعها آفاقُ خياله، وتصوغ فنَّها منهجية إبداعية رائدة تألَّق سناها في أروقة دماغه الوضَّاء.

 

بداية معرفتي به كانت من حرفتِه التي أجادها حتى صارت قِبْلةً لكل محتاج إليها، يقصده تلاميذ له، ولو فاقوه سنًّا أو سنانًا، فقد كان مشهورًا بالتحف التي تحفِرُها أنامله، يرسم في كَبِد الحصى دمعًا وقلوبًا، وماسًا وسفينًا، ويُشكِّل الحصاة التي تصغُرُ عن حجم الكفِّ رايةً مزروعة في وجه أرضٍ أقفرت، ويُتبِعُ ما نحت بطلاءٍ يزيد البهاءَ بهاءً، ويُضفي على الرسم الخافت رُوحًا ناطقة تحاكيها أنوار البدر في ظلام الليل البهيم.

 

أعجبني من صبرِه على النحتِ، كان يجلسُ في موقعه الخاصِّ ساعاتٍ طويلةً، يعود إلى الخيمة بعدَها كلَّ يومٍ بلوحةٍ فنيةٍ تُضاهِي ما أبدَعه مَن سبقوه من أهل الإبداع الفني الزاهر، فتقدَّمتُ إليه وإيجابياته تدفعني إلى بناء أواصرِ التلاقي مع هذا الشخص المبدع.

 

كان تصوُّري المسبق عنه أنه إنسان خدوم، فيه إيجابيات متعددة، ولمحتُ من خلال معرفتي السطحية به بعضَ بوارقِ الخير التي جذبتني نحوه، ولكني قررتُ أن ألِجَ ميادين شخصيتِه لأتعرَّف إليه عن قرب، وهذا ما كان.

♦ عِمْتَ مساءً يا محمد.

 

♦ عممت بالنور والسناء، تفضل واجلس.

 

♦ رأيتُك تنقش على الأحجار رسومات وأسماء، من أين تعلمت ذلك؟

 

♦ السجن مدرسة يا أخي، هنا تحتكُّ مع البشر بطبائعِها، وتختبر الصالح منها والطالح، وبعد مخالطة الناس واكتشاف كُنْهِهم ستلجأ إلى الخيار الذي انتهجْتُه أنا.

 

♦ وما هو ذاك الخيار يا محمد؟

♦ إنه خيار التعامل مع الجامد الذي لا يَعي، تأمن بذلك مكرَ النفس، وخُبثَ النيَّة، وخداع الكلام، وزور التصنُّع في المصادقة التي دافعها المصلحة للذَّات.

 

♦ ولكن مَن يخالط الناس ويصبر على أذاهم خيرٌ ممَّن يتجنَّبهم وينعَتُهم بشتى صنوف النعوت، مهما كانوا، وشمعة تُنار وسط ديجور الليل خيرٌ من شَتْم الليل؛ فالنور يُجدي والشتائم غلٌّ.

 

• ضحِك محمد ضحكة لا زلت أذكرها، إنها ضحكة الحكيم الذي نطَق أمامه صغيرٌ بحكمةٍ قد فاتَتْه، ورأيته ينفض رأسَه إيجابًا، ثم ضحِك أخرى وقام لبعض شأنه، ثم مضى وتركني على محجةِ الاستغراب لا أنطِقُ ولا أنبِسُ ببنتِ شَفَةٍ.

 

ساورتني الشكوكُ بمرمى حديثه الذي سكبه في أذني قبل أن يُحوِّل نظرَه عني، وازدادت الرغبةُ لديَّ في التعلم منه حتى وإن كنت أكبرُه بأربع سنوات.

 

كان السجن يغصُّ بآباء رِغال، وكانت الحكمة تقتضي ألا يخوض أحد مع غيره حوارًا يتعلق بالقضية التي اعتُقِل من أجلها، وهذا عين الصواب؛ لئلا يسرق أحد هؤلاء المدنَّسين برجس التخاذل والوضاعة كلمةً من هنا وهناك، فيكون فيها لأحدنا أو لكلَيْنا نسيءٌ في السجن وبأسه.

 

وبعد أن غَفَت عيناي ما بين نومها وسِنَتِها شهرًا، نُودِي على محمد ليجهز نفسه للنزول إلى المحكمة العسكرية التي يَحكم فيها ذئاب بقناعٍ بشري، تعلو صدورَهم نياشينُ الخسَّة، وتلمَعُ على أكتافهم شارات الرُّتَب العليا، ليقف المعتقل أمامها تُفَصَّلُ له تهمةٌ على مزاج الجالس تحتَ شارةِ العدل الدولي، دون جريرة أو ذَنْب، إنما لأنه ممتلئ إيمانًا بحقه وأرضه، ووطنه ودِينه، ولمعت بين عينَيْه شرارة الانتماء والانعطاف لهذا التراب المقدَّس.

 

وتطلع الشمس تشاركُنا الترقُّب لمصير هذا الفارس، وما رضِيَتْ أن تودِّعنا حتى عاد إلينا يحمل بين يده صكًّا يشتري فيه الصهاينة سنة ونصفًا من حياته بعوضٍ هو المأساة المتجذرة في سجونها التي ما أقيمت إلا لقمع الإرادة.

 

اقتربت منه كي أواسيَه في مصابِه، فإذا بثغره يفيض عليَّ وعلى مَن حولي بابتسامة ساخرة، كانت عيونه تلومنا، أَمِثْلِي يحتاج إلى مَن يُعلِّمه الصبر!

 

أنا من أُعلِّم الصخر في أعالي الجبال كيف يثبُتُ إذا حَزَبَه أمرٌ، يا هؤلاء، تفرَّقوا، إليكم عنِّي، فوالله الذي لا إله غيره، لو وزن يقيني وصبري لصار يفُوق عجائب الدنيا بأَسرها، ولغَنَّتْهُ أطيار الكنار مع تفتُّق الفجر في كل صباح.

 

ويسير محمد يشق طريقَه بيننا بكلِّ ثقة وتوازنٍ، يتوضَّأ ويحني قامتَه لمن لا يغفل ولا يعزب عنه شيء في السموات والأرض، يتبتَّل إليه بخشوعه ودموعه المنسابة رضًا بقدر الله وقضائه، لا سخطًا من هؤلاء وأذنابهم، فلا قرارَ يعلو على حُكم الله.

 

كان في كل تحرُّكاته يرشح بالفضل، ويستنير من بين يديه العمل، وهذا أمر لا ينكر في المخلِصين العاملين ذوي الهمة التي تصدع السحاب، وحين كنت أرى الجميعَ قد حنى رأسه للفِراق وللحنين، كنت أشعر أنه يمد يديه إلى السَّحاب المتناثر في السماء يعصره بكفِّه المعطاءة، فتسيل منه قطراتُ الصبر ليتجرَّعها فمُه التائقُ لها.

 

دنوتُ منه أكثر، وتوطَّدت العلاقة بيننا، واتخذت من حُكمه الذي ابتُلي به مادة للنقاش، فعرفتُ التهمة التي لُفِّقت له، وكيف أنه بريء منها براءةَ الذئبِ من دمِ ابن يعقوب عليهما السلام.

 

ولا زال عقلي يحفِرُ في خلجاته تلك الكلماتِ التي تبادلناها معًا في ذلك الليل الداجي، حينما أطفأنا سراجَ الخيمة، ونام ساكنوها، وغطَّتِ الأجفانُ في نوم عميق، وبقِينا وحدنا نتجاذبُ أطرافَ الحديث الشَّجيِّ.

 

عز الله وجلَّ، وتقدَّست أسماؤُه، تختلف كثيرٌ من المعايير والضوابط لحُكمك على إنسان حين تراه ولا تحتكُّ به، فإذا تعاملتَ معه عن قُرب ولم يعُدْ بينك وبينه بابٌ موصَد، توسَّعَتْ دائرة حُكمِك، وأضفت إلى معطياتك أمورًا مستحدَثة.

 

لقد أعجبَتْني مُسامرتُه، ومع أني كتمتُه هذا الأمر فإني أشعُرُ أن قدراتِه الذهنيةَ قد عرفت ذلك من خلال النقاشات التي دارت بيننا، والتي لولا عَتَمُ الليل، ونومُ العيون حولنا، لَمَا وجدتُ لترجمة انفعالي معها غيرَ القهقهة المرسَلة.

 

حياته إلياذة ساحرة، ورُوحه المرحة تحفظ العديد من الذِّكريات التي ستُدوَّن في أسفار الذهن إلى ساعة الاحتضار، في كلِّ فصل منها تجد الحلاوة والمرارة يتزاوَجان، وتلقَى محطات من الغَيرة التي تنفذ من أحشائه على أرضه وقضيَّته ودِينه، وتُحسُّ بمنطقِه البسيط ولهجتِه التي تسارعت كلماتها في نسَق الإخراج، ليتشكل من هذا المزيج إنسانٌ يدِبُّ على الأرض، يترك خلفه أثرًا عظيمًا يقرؤه حتى أمِّيُّو البشر.

 

حدَّثني عن دراستِه الجامعية، وكيف كان يتهرَّب من عيون الحكومة بصداقاته الحذِرة، وكيف كان يتخذُ من لقاءاته في وضَح النهار مع متبرِّجات الإناث ستارًا، ويعلِّل ذلك بمصطلحاته المضحِكة وكلماته التي تنسجها سَليقتُه وبساطته، ويتخفى في مواطن العمل العام، لتجده نحلةً لا تحُلُّ إلا على الطيِّب من الأشياء، ولا يدخُل جوفَها إلا طيبٌ، ولا تُفرِز إلا طيِّبًا.

 

رأيتُ في عينيه أثناء محادثتي معه أطيارًا مهاجرةً تبحث عن خارطة تعود بها إلى وطنها، وتقرأ في وجه السحاب أسماءَ المواقع، وكانت لحيتُه التي بالكاد تُرى بالعين الباصرة مخضَّبة بحنَّاء الانتماء، وكانت قسماتُ وجهه تنضحُ مع كلِّ كلمة تعبيرًا يدلُّ على انفعاله وصِدقِه فيما يطرح.

 

وتحت قاعدة ثابتة يعرفها كلُّ مَن ذاق نصل السجن تقول: "أحبِبْ مَن شئتَ فإنك مفارقُه"، حكمت عليه الدولة المتغطرسة بأن يُنفى إلى سجنٍ آخرَ.

 

كنت أنظر إليه وهو يحزم أمتعته من طَرْفٍ خَفِيٍّ، كان حريصًا على التراث الذي استهلك منه جُلَّ وقته، فجمع القلائد والأشكالَ الهندسية التي أبدعها بأنامله الفنية، كنت أرى فيه منظرَ ظَبْيٍ ساقَتْه مجموعة من الضِّباع بعيدًا عن قَطيعه الذي ترعرع فيه، لقد أحببت مجالسته، واعتدتُ على حديثه الشائق، ولكنه قدر الله، تخضعُ له رقابنا، وتنحني أمامه بصَمْت الصخر حتى تنال أجرَ الطاعة، وتُشرق فينا منارات الهداية والرشاد.

 

ودَّعناه والدمعُ النقي يتوحَّد على الأرض البتول العذراء، لأرى في وداعي له اجتثاثًا لبعض أجزاءِ جسدي مني، وأناجي، وكم في ذلك من أملٍ!

 

وتشاء إرادة الرحمن أن تحكم عليَّ إدارةُ البغي النازي بمثلِ ما حكمَتْ على محمد، وعلى النسق المتدرج تسوقني حافلةُ النقل إلى سجن آخرَ لأنزل فيه غريبًا، وما إن خَطَتْ قدماي خطواتٍ معدودة حتى سمعت بصوت يقرع مسامعي، فوقفتُ مكاني، وتسمَّرت أعضائي في مكانها، إنه صوتٌ أعرفُه.. إنه صوت محمد! وما إن يممتُ شطر الصوت أتلمس مصدره، حتى وجدته قد انغمس في الأسلاك يريدُ الخروج منها للترحيبِ بي وبمقدَمي.

 

وأُدخلت على القسم الذي هو فيه، لتتكرر صورة الاستقبال الحافل منه لي، ولنرتمي في أحضان بعضنا البعض، تعصف حولنا أعاصير الشوق والتحنان، وبعد مرحلة خضناها معًا، وذكريات عطرة جمعتنا ببعضنا البعض، في السجن الأول، والمعتقل الثاني، أيقنَّا أن الدنيا ستجمعنا بمشيئةِ الله خارج هذا الألم المستشري، وخارج هذا الظلم الذي نخر عظامنا.

 

وعلى أملٍ باللقاء حيث لا سجَّان ولا أسلاك ولا صَلف، تفارقنا من السجن والشوق يحدونا للقاءٍ من جديد، لنتنسَّم هواءَ الحرية المعتَّق بشهد الحنين.

 

وإن تعجَبْ، فكل العجب في مصادقةِ رجل جمعَتْك به سُوَيعة من نهار، لتراه يملِك لبَّك، ويقتحم عليك خَلَواتك، ويُجبِرك على نقش اسمه في رواياتك ومذكراتك، وهل تجد أصفى من الصداقة الحرَّة في دنيا المحرومين؟!

 

وهل تجد أروعَ من قلبينِ اجتمعا حبًّا في الله وتفرَّقا عليه؟!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة