• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / المرأة الأديبة / كاتبات الألوكة


علامة باركود

أمام قبرها

سعيدة بشار


تاريخ الإضافة: 28/5/2014 ميلادي - 28/7/1435 هجري

الزيارات: 5011

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

أمام قبرها

(خاطرة)


في هذه المقبرة المسيَّجة قبرُ أمي، وإلى جانبِها قبر صديقتِها المقرَّبة، وعلى بُعد خطوات منهما قبرُ أبي وقبر أمِّه، وقريبًا منهم قبر صغيرتي "سارة"، وفي مقبرةٍ أخرى قبر جدَّتي وجدِّي وخالي، و"ياسين" و"وليد" لا نعرف لهما قبرًا.

 

زهور وحشائش تملأُ المكان بشكلٍ لافتٍ، يبدو أن الحارس لم يُهذَّبْها منذ فترة، أصبحت المسالكُ بين القبور صعبة، هذا قبر أمي، نقطة ختامي، ما كنت أعرف أن الحياة ستُجافيني هكذا بعد فقدي إياها، أنظر إليه، أودُّ لو أني أستطيعُ أن أحكي لها كلَّ ما يُؤلِمني، لكني لا أجرؤ على ذلك، كيف لي أن أوجعها في قبرها؟

 

أنتقي لها الأخبارَ المفرحة حتى وإن كانت تافهة، عساها تفرح بذلك وتطمئن، عند قدمَيْها مكان يكفي لقبرٍ آخر، أودُّ لو يكون لي، كم أرجو أن يكون قبري عند قدمَيْها بعدما عجزتُ أن أقضي حياتي عند قدمَيْها.

 

أخبرتهم أن يحجزوا لي ذاك المكان، لكنهم لم يهتمُّوا، أشاحوا بوجوههم عني في ضيق، ليس في هذا الطلب ما يستدعي الحزن، كلنا ميِّتون على أية حال، قد تكون هذه وصية أتمنى أن يُحقِّقوها لي يومًا، بل هي كذلك.

 

أكتشف اليوم أنها وحدَها كانت تستحقُّ أن أقضي حياتي عند قدمَيْها، لا الدراسة تستحق ولا العمل، ما وجدتُ سعادتي فيهما، وجدت مزيدًا من التعب والحزن والبُعد، ما وجدتُ فيهما ما يستحقُّ كل تلك التضحيات.

 

حقول القمح تظهر من هذا المكان، كانت أمي تُقشِّر لي حبوب القمح والشعير حينما كنت صغيرة، وتضعها في فمي، ثُمَّ أمضغُها بسرعة لأفتح لها فمي من جديد، وكأننا كنا في سباق، تُسرع هي في التقشير، وأسرع أنا في المضغ، كانت تنزع أيضًا أشواك السمك قبل أن تطعمَني إياه، وكانت تنزع الشحم عن اللحم قبل أن تعطيَه لي، وكانت تتخيَّر لي الفاكهة الأطيب، كانت تزيد لي نصيبها، وحينما تلاحظ شَغَفي بشيء ما تقتطعُ لي من أنصبة إخوتي الذكور، كانت تُفضِّلني عليهم، وكانوا لا يُعارِضون ذلك، كنت أصغرهم ووحيدتَهم، فلم يكن ذلك يُزعِجهم، لكنهم كانوا لا يدعونني أشاهد أفلام الرعب ليلاً وكنتُ أعشقها، فكنت - ودون علمهم - أُشاهِدُها من بين فتحات نافذة الغرفة، وحينما أشعر أنهم قد شكُّوا في أمري أُسرِع لأدسَّ نفسي في الفراش إلى جانب أمي، كانوا أحيانًا يأتون إلى غرفتنا ويسألون أمي عني، فتُجيبهم أني قد نمتُ منذ فترة طويلة، ثم تكشف عني الغطاءَ بعد أن ينصرفوا وتبتسم لي، وكنتُ أضحك، كان يعجبني أن أحتال على إخوتي.

 

كانت تمنع أي أحدٍ من ضربي، رغم أخطائي الكثيرة، كسرتُ أشياء جميلة في البيت دون قصد، وأخرى مع سبق الإصرار والترصُّد، كنتُ أُعِيد في البيت أي كلامٍ أسمعه في الشارع دون أن أفهمه، وكنت أحب العبثَ بالممتلكات الصغيرة لإخوتي، لم يكن أمامي عالَمٌ آخر أستكشفه غير عالَمِهم، تعلَّمت كيف أعبث بأشيائهم، ثم أردُّها إلى مكانها وكأنها لم تُمسَّ، وإن شكُّوا في شيءٍ كانت أمي تجد الأعذار المناسبة دائمًا.

 

بدأت مساحةُ المقبرة تكبرُ من حولي ومساحة الحياة تتقلَّص شيئًا فشيئًا، ما عاد ذلك يزعجني.

 

عرَفتُ من إحدى الأمهات أن ابنها قد ضربها، وأبناؤها الآخرون أيضًا فعَلوا ذلك وأمام زوجاتِهم، ماتت تلك الأم منذ سنوات!

 

هناك أمهاتٌ غيرها يَجُبْنَ الشوارعَ يلتقطن ما رماه التجَّار من خضر وفواكه في الأسواق!

هناك مَن رميت إلى دُورِ الجحود!

هناك مَن أُبقي عليهن ليخدمن الزوجات الشابات!

 

هل يعقل أن ذلك يحدث؟!

حكايات كثيرة تُسوِّد صفحات الجرائد يَنْدَى لها الجبين، أمي ما كانت تستطيع أن تصدِّق تلك القصص، كانت تبقى شاخصةً بعد سماعها لأيٍّ منها وتظل لأيام تردِّدها، ما كنتُ أحبُّ أن يرويَها لها أحد، لكن كان لها مصادرها الخاصة، ففي كلِّ صباحِ جمعةٍ عند الحادية عشرة بالضبط، كانت هناك حصَّة فتاوى على الراديو باللغة الأمازيغية، لم تكن تفوِّتُها، لم تكن قادرة على فتح الراديو أحيانًا بسبب المرض، لكنها كانت تطلب قبل الموعد ضبط القناة، وبعد كل حصة تروي لنا ما سمِعَتْه، كان يُرهِبُها حجم الكوارث التي يُتحدَّث عنها، لكنه الواقع الذي لم يتوقف من تلك الأيام عن الانحدار أكثر فأكثر.

 

في حياتي امرأتان: أمي وأمُّها، وحدهما أحبَّاني بصدق، وحدَهن الأمهات يُحبِبْن أبناءهن بصدق رغم عيوبِهم، وحدهن يغفِرن لهم أخطاءهم الكثيرة بصدق، ووحدهن يَدْعِين الله لهم بصدق، إلهي ما أقسى رحيلَهن! وما أقسى رحيلَها!

 

كيف لابنٍ أو ابنة - مهما بلغ - أن يرفع صوته في وجه أمه أو يدَه؟!

 

كيف يرمي بها إلى دار المسنين دون تأنيب ضمير؟

 

كيف يُفضِّل امرأة جاءته بعد عمر على التي وهبتْه عمرَها بأكمله؟!

 

ما أسوأ ما وصلنا إليه!

 

أمَا علموا أن الجنة عند قدمَيْها؟

 

والحياة لا شيء أمام الجنة؟ فكلاهما عند قدمَيْها وبعد رضاها، فكيف يزهد فيهما؟!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة