• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

موت المدخن (قصة قصيرة)

إبراهيم الفتاحي


تاريخ الإضافة: 18/8/2009 ميلادي - 27/8/1430 هجري

الزيارات: 35846

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

غارتْ عيناه، واختفى بريقُهما، وشحبتْ نظرتهما، فتصلَّبتْ شرايينُه، وانهدت رئتاه وهما تحاولان تلقف الأنفاس كمن يَصَّعَّد في السماء، وانحنتْ أصابع قدميه إيذانًا بعجزهما عن السير، ورفع جسده وهو ممدد على فراشه المتواضع.

كان كل همِّ الحسين أن يقاوم هذا الألم؛ حتى لا يزيد من ألم زوجته وأمِّه، وكان كل تفكيره منصبًّا على قدرة الأدوية التي تكومتْ عند رأسه، فكأن الصيدلية تحولتْ فجأة إلى غرفته، ناهيك عن الأعشاب التي انتقتها أمه العجوز من عند العطار؛ ظنًّا منها أنها ستدفع المنيَّةَ عن ابنها ولو بعد حين، فكلما أشار عليها أحد "دادا الفهيم"[1] - الكثيرين في بلدتنا - بعشبة طبية، أو وصْفة سحْرية، أو طبخة خرافية، إلا وسارعت إليها؛ لعلها تنقذ ابنها، على الأقل حتى تسبقه إلى القبر، فلا أحد يعلم أن أكبر ألمٍ في الوجود هو أن يحمل الوالد نعشَ ولده، وتهيئ الوالدة أكفان من حبلت به في بطنها زمنًا غير يسير.

قلب عينيه الذابلتين ذات اليمين وذات اليسار، ثم تسمرت نظرته على أخشاب السقف وقصبه، وقد مَثُل أمام بصره دخانُ أول سيجارة تغازل شفتيه منذ ثلاثة وعشرين عامًا، وتراقصتْ في ذهنه ابتسامتُه التي كانت ترافق انقشاع عود الثقاب على حافة العلبة، وأيقن أن السبع[2] الذي كان يرنو إليه بشموخ في العلبة، تحذيرٌ لم يأبه له، فقد كان يهمس في أذنه قائلاً: "إن السيجارة تطارد حياتك كما أطارد فريستي، ولسوف تمزِّق أوصالها كما أفعل بتلك الفريسة لا ريب"، تغاضى عن همس السبع وتجاهَلَه شامخًا بدل أن يتواضع، وقهقه رفقة أصحابه وهو يقرأ: "إنكم باستعمال المواد المغربية ستساهمون في اقتصاد البلاد"، عبارة لطالما أضحكتْه وسخر منها قائلاً: "أيُّ اقتصاد هذا الذي يبني أمله على عود الثقاب؟!".

يلعن الحسين تلك اللحظةَ، وتلك السيجارةَ بألم كبير، وندم كأنه المجرمون يوم القيامة وهم يستعطفون ربَّ العالمين أن يمنحهم فرصة أخرى ثم لا يكونوا مفسدين، فمدَّ يده التي علتْها صفرةٌ فاقعة، وبرزتْ عروقها كجذع شجرة اقتلعتْها الرياح، مدَّها إلى ابنته الصغيرة ذات الأربع السنوات وهو يقول بصوت تخنقه العَبرة: "خديجة، أين كنت؟"، أجابته: "كنت ألعب، فأنتَ لا تريد أن تقوم لتشتري لي الشكولاتة"، أجابها: "أنا مريض ولا أقوى على النهوض"، فأمسكتْ يده وقالت:" السجائر التي تدخنها هي التي تحرقك في أصابعك حتى مرضتَ".

هزَّ قولُ خديجة جنانَ الحسين وهو يقول: "محقة أنت يا ابنتي، ولكن لن أدخنه مرة أخرى إن شُفيت"، قال هذا الكلام وهو يدري أن سكرات الموت بدأتْ ترفرف حوله؛ فكثيرٌ من الأعضاء أضربت عن العمل، واستباحت الأمراض جسدَه.

وقعتْ يد الحسين من على رأس طفلته التي تجلس عند رأسه بهدوء، مدَّد رجليه بقوة، ثم طواها، ثم عاد ومددها، فصرخت الطفلة: "أمي، أمي، أبي يتمدد!".

تسابقت الأم والزوجة وهما تصرخان، فسمع العم حامد الصراخ من الجوار، فأسرع نحو بيت الحسين، دفع الباب ودخل الغرفة، فرمقت عيناه الحسينَ وقد نزحت روحه من رجليه إلى بطنه، وها هي ذي جنودُ ملَك الموت تطاردها نحو الصدر، فجلس العم حامد عند رأسه مرددًا: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، فردد الحسين: "لا إله إلا الله محمد رس..."، فثقل لسانُه، ووقع رأسُه يسار جسده، معلنًا جبروت السيجارة التي عجلت بهذا الرحيل، ومعلنًا غدر الماركيز[3] وعلبة الثقاب.


ــــــــــــــــــــ
[1] دادا الفهيم: لفظ يستعمله المغاربة لنعت المتعالم الذي يفهم في كل المواضيع، ويجيب عن كل الأسئلة، وهو لفظ قدحي.
[2] السبع: هو أشهر أنواع عود الثقاب بالمغرب وأقدمها، تحمل علبته صورة أسد الأطلس المغربي، وخلف العلبة كتبت عبارة: إنكم باستعمال المواد المغربية تساهمون في اقتصاد البلاد.
[3] الماركيز: نوع من السجائر الصفراء الرديئة، وأكثرها استهلاكًا في المغرب، أكثر مدخنيها من الطبقة الفقيرة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1447هـ / 2025م لموقع الألوكة