• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

في عيادة الطبيب ( قصه قصيرة )

في عيادة الطبيب ( قصه قصيرة )
عمار المشهداني


تاريخ الإضافة: 26/3/2014 ميلادي - 24/5/1435 هجري

الزيارات: 142302

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

في عيادة الطبيب

( قصه قصيرة )


بالأمس أخذتُ جدتي العجوز لإحدى العيادات الطبية في منطقتنا، حيث قدِّر لها أن تُرَد إلى أرذل العمر، ولم يبقَ لها عضو إلا واشتكى مع صاحبه المرض.

 

دخلت على الطبيب، وكان صديقًا لي، فكانت جلسة ملاطفة وتسرية عن الجدة المتعبة أكثر من كونها جلسة تشخيص لعلَّتِها أو لعِلَلِها الكثيرة.

 

وكانت هي مسترسلة في شكواها، وجادة في كلامها، والطبيب يتعمد ممازحتها، ولكنها لا تبالي كثيرًا.

 

كانت عجوزًا صارمة، وحادَّةَ المزاج، رغم أن المرض هدَّها، وهي بالتأكيد تعرف أنَّ ما مضى من عمرها أكثر بكثير مما بقي لها، ولطالما قالت لي: إنها تنتظر الموت في أية لحظة، ولا تهابه، لكنها مع هذا تحرص على التداوي، وشرحِ ما تحس به من آلام للطبيب.

 

لفَت نظري ابنُ الطبيب الذي يقف بجانبه، كان طفلاً صغيرًا، أعرف أنه في السادسة من العمر، وكان أصغر أولاده، كان طفلاً وسيمًا، مليح الشكل، كثير الحركة.

 

كان يحاولُ أن يقلِّدَ أباه الطبيب في كل ما يفعل، تارة ينفخ بجهاز الضغط، وتارة يستخدم سماعة الأذن، وتارة يمسك قلمًا ويحاول أن يكتب شيئًا، وعبَثًا يحاولُ أبوه التحكمَ به.

 

ملابسه نظيفة جدًّا وأنيقة، ولأني أجيد التسوق أعرف أنها من الماركات الغالية والنادرة، وكنت أعرف أباه بذاخًا على أبنائه.

 

طلَب منا الطبيب بعض الفحوصات المختبرية، وبعد أن أجرينا سحب عينة الدم جلَسْنا في غرفة الانتظار.

 

فجأة ظهر أمامي عامل النظافة في العيادة، وكنتُ أعرفُه جيدًا، وكان جارًا لنا في بيتنا القديم، كان شابًّا بسيطًا جدًا، نحيف الجسد، أتذكر أني توسطتُ له عند ذات الطبيب لكي يعمل منظفًا بأجر يومي في أحد المراكز الصحية القريبة، وظل على ما يبدو حاملاً للجميل.

 

سلَّم عليَّ بحرارة، ورددت السلام عليه بحرارة أيضًا، وقبَّلتُه.

 

سألته عن سبب عمله هنا، فقد كنت أعرفُ أن هناك امرأة أرملة تعمل في تنظيف هذه العيادة، فأخبرني بأن المرأة وجدت عملاً في مكان آخر، وجاؤوا به بدلاً منها.

 

تفاعلتُ معه حين وجدته فرِحًا بعمله هنا، فهو سيضيف له دخلاً آخرَ، إضافة إلى عمله الصباحي في المركز الصحي، مع أن العملين لا يدرَّان عليه ما يغطي احتياجاته وأسرته، ولكنه مع هذا كان قنوعًا برزقِه، وجادًّا في عمله، وغيرَ مُبالٍ بنظرات الناس له، والتي تتفاوت بين الرِّضا والشفقة، واللامبالاة والامتهان أيضًا.

 

كنتُ حريصًا على ألا يحسَّ هو أو من على شاكلته بأي تمييز؛ فأنا أكره امتهان الناس أو احتقارهم لأي سبب كان، وأؤمن أن اختلاف الناس في المراتب والمواهب والأعمال هو قدر على هذه الأرض، ولا يمكن أن تتصور أبدًا أن يكون الناس كلهم بحال واحد من حيث تلك الاعتبارات، وأن وراء هذا التفاوت حِكمة عظيمة تتجلَّى في كونِها تُعطي للحياة بُعدًا أكثر حيوية، من حيث إنه يمكِّن كل الناس من ملءِ الفراغاتِ المطلوبة في كل جانب من حياتنا، فكما أنه لا غنى لنا عن الطبيب والمهندس والمعلم، كذلك لا غنى لنا عن السائق وبائع الخضار والإسكافي وعامل النظافة أيضًا.

 

ولَكَمْ تُزعجني تلك النظرة الفوقية للأغنياء وأصحاب الوجاهات التي تعزز الإحساس بالفوارق الطبقية، والتي تنفِّرُ الناس من بعضهم البعض، وتزرع لدى البسطاء أحقادًا وعُقَدًا يصعُب احتواؤُها أو التقليلُ من آثارها.

 

لفَت نظري أن هذا العامل البسيط قد اصطحب ابنتَه الصغيرة التي لم تتعدَّ الخامسة من عمرها، على ما أظن سلمت عليها بعد أن قدَّمها لي، كانت طفلةً ناعمةَ البدن، بسيطة الملابس، تنتعل نعلاً بلاستيكيًّا رخيص الثمن، كانت تَتْبَع والدها كظِلِّه، تحمل معه الدلو تارة، وتحمل معه الممسحة أخرى، وتقلِّدُه في عمله وهو يقوم بتنظيف أرضية العيادة الطبية، قال لي: إنها تُصِرُّ على المجيء معه.

 

وهي على ما يبدو مستمتعةٌ مع أبيها في عمله، كاستمتاع ابنِ الطبيب وهو يقلِّدُ أباه في عيادته، لقد استفزّني منظرُ الطفلين كثيرًا!

 

رُحت أتأمل واقعهما، وأحاول أن أعقد مقارنةً بسيطة بينهما ترضيني على الأقل:

مقارنة عادت بي من حيث الزمان إلى الماضي، ومرورًا بالحاضر، ووصولاً للمستقبل المفترض.

 

ومن حيث المكان إلى ما تُسعِفُني به الذاكرة من أماكنَ رأيتها، أو شاهدتها على التلفاز، أو سمعت عنها.

 

كنت أريد أن أغُوص في عوالِم البراءة، وأفهَمُها وَفْق قوانين التعلُّم ومؤثِّرات البيئة والوراثة، ووَفْق قوانين الواقع المتحكم بنا الذي يشكل قيودًا تُكبِّل أيدينا وأرجُلَنا، وتكمِّمُ أفواهنا، وتحدِّدُ مسارات تفكيرِنا أحيانًا، لكن البراءة نفسها غَدَتِ اليوم وصفًا نرجسيًّا حالِمًا وخياليًّا، يعرِفُه البعض ويجهله آخرون، يحبه البعض ويكرَهُه آخرون، يعزِّزه البعض ويحجمه آخرون، يُحييه البعض ويُمِيته آخرون!

 

كنت أحاول أن أستجمع أفكاري في هذه اللحظة، واضعًا خلاصة لتلك الأفكار التي تزدحِمُ في رأسي ولا أشتتها بعيدًا؛ كيلا تؤرِّقَني ليلاً كالعادة، ورُحْتُ أتساءل: هل يستطيع الإنسان أن يغيِّرَ قدَرَه أو يقفز فوقه أو يتجاهله؟

 

هل الإنسان أسير قيود الوراثة والبيئة دائمًا؟

وهل هو أسير قيود الزمان والمكان أيضًا؟

وهل من حالة وسط بين ذلك كله؟

أليس من حقه أن يعيش آدميتَه بشكلٍ لائق؟

أليس من حقِّه أن توفَّر له حياة كريمة، تقلِّل الفوارق بينه وبين غيره، وليس بالضرورة أن تزيلَها نهائيًّا؟

أليس من حقه أن يعيش حياة تتكافأ فيها الفرص للجميع على حد سواء؟

 

أليس من حق البراءة أن تعاش كفترة خاليةٍ من العُقَد والمؤثِّرات السلبية التي يبقى بعضُها عالقًا بالذاكرة إلى آخرِ العُمر؟

 

أليس من حق البراءة ألا تُستغلَّ أو تهان أو تدفن من قِبَل آباء وأمهات السوء، ومن تجَّار الأجساد، ومروِّجي الفِتَن والحروب، ومنظِّري الأفكار الضالة والنظريات الباطلة؟!

 

أليس حريًّا بنا أن نقدِّمَ الأنموذج الآن - كما كنا بالأمس - ولا نتكئ على غيرنا، ولا نكتفي بالتشكي والتباكي كالنائحات المستأجرات؟

 

أصابع صغيرة تضرب على ركبتي، وبصوت ناعم قالت لي الطفلة: عمي، تعالَ، الرجلُ يناديك، تقصد موظَّف المختبر.

 

جدتي كعادتها تسخر مني: أظنك نمتَ يا "جده"!

 

قلتُ لها ساخرًا: أظنني كذلك!

 

أكملنا عند الطبيب ما جئنا من أجله، ووعدتُه بالتأكيد بالعودة مع الجدة إن قدَّر لنا الله أن نعيش بعد يومنا هذا.

 

ودَّعت صاحبي المنظِّف، وصافحته بحرارة، وسلم عليَّ بيده المبتلَّة وعلى مُحيَّاه شيءٌ من الخجل.

 

في باب العيادة ناديتُ الطفلة، وضعتُ مبلغًا من المال في يدها، وراحت تركُضُ إلى والدِها فرِحةً به، حتى كادت تسقُطُ من عجلتِها.

 

حمدتُ اللهَ تعالى في سِرِّي، وعدتُ إلى جدتي الغاضبة، كنت أخشى أن تهش عليَّ بعصاها؛ فهي لا تزال عجوزًا صارمة، ولا أدري ربما منظر المستشفيات والعيادات الطبية يعيد لها شيئًا من حيويتها الضائعة!





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة