• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

رأس بلا جسد (قصة واقعية)

أحمد بازز


تاريخ الإضافة: 10/6/2009 ميلادي - 16/6/1430 هجري

الزيارات: 11679

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

يتبادر إلى ذهنِك - أخي القارئ - من خلال العنوان، وكأنك واقفٌ بين حشود المتفرِّجين في السيرك على الألعاب السحرية - حيث يسحرون أعيُنَ الناس - مشدوهًا إلى المشهد الغريب الذي ينتظر الجموعُ رؤيتَه، وقد تشكَّلتِ الصورةُ قبلُ وهي ماثلةٌ أمامك على إحدى اللوحات الإشهارية - السركية: رأس هنا، وجسد هناك، الرأس المقطوع! رأسٌ يتكلم، وجسدُه يبعد عنه بأمتار، يتحرَّك؛ بل يحيِّيك بأنامله، تستغرب من كل هذا، ولكن سرعان ما يزول العجب حين تقابل اللعبة (السحرية)، وتمسك بخيوطها الخفية، بأن ثمة مرآةً توضع أمام الماكر البهلوان، وتُظهره لك وقد انتصف نصفين: الرأس هنا على مكان مرتفع، والجسد هناك مع الحِراك.

•       •       •

 

فالقصة التي تقرؤها، وتقف على أحداثها، واقعٌ معيش، وأمر عجيب، صُنْعَ الله الذي أتقن كل شيء، سأترك الرأس هذه المرة يتكلم.

نعم إخوتي، قصتي هذه أليمة وحزينة؛ لكون رأسي لم يفارقْ جسدي منذ الولادة، حتى تكون مألوفة لديَّ وعادية؛ بل كانتْ بعدما ألفتُ الركوضَ برجليَّ هاتين، رفرفتُ بهما مع الأقران، وسرتُ حيث أريد - بمشيئة الله - لعبتُ، قفزتُ، وسعدتُ بنعمةٍ لا يعرف الكثيرون قدرَها إلا بعد فقدانها.

كانت إعاقتي مبكرة، أذكر أنها كانت في سن الثانية عشرة، في قمة الطفولة، وما تزال الذكريات الأليمة يعيد شريطُ حياتي أحداثَها، في هذا الرأس المتكئ على الوسادة في كل وقت وحين، ولا يقطعه عني إلا الصلاةُ، أفني فيها نفسي، وأتضرَّع فيها إلى بارينا - جل جلاله - الذي زرع الروح في هذا الرأس، وما تبقَّى معه من أشلاء الجسد الميت.

وتفاصيل الانفصال والقطيعة بين رأسي وجسدي، أذكر أن أمِّي كانت تحكي لي عن بداية زواجها ومشاكلها التي نشأتْ مبكرًا بينها وبين أبي؛ بسبب طبيعة عمله - العمل بالليل - مما جعل أبي يهاجر تحت ضغطة المشاكل العائلية، والنقدِ المستمر، وكثرةِ الشكاوى والأنين، ذهب وأمي حاملٌ، وبعد سنة من الهجران أنجبتِ الوالدة، وتكفل الجدُّ بي وبأمي.

نعم، زُفَّتِ البشارةُ إلى الوالد في المهجر، فلبَّى نداء الكبد، ورجع ليصلح ما أفسده الهجرُ، ويعيد المياه إلى مجاريها؛ لكنه اصطدم بطلب الجد القاسي، النفقة، رفَضَ الأداء، ثم عاود الهجرة، وآلت الحالة بينهما إلى الطلاق.

تزوجتْ أمي بعد، وبقيتُ أنا تحت كفالة الجد؛ لأنه كان موسرًا.

وفي يوم من الأيام - وكالعادة - قامتْ جدتي صباحًا ببداية العمل كأية بدوية، حلبتِ الأبقارَ، وأخرجتِ الماشيةَ إلى المرعى، وكنتُ كظلِّها أتبعها حيث توجَّهتْ، وفي الطريق حيث يوجد حقل للفول، كانت تُسرَق غلَّتُه ليلاً؛ مما دفع صاحبَ الحقل للنوم وسطه حارسًا إياه من اللصوص، وفي طريق العودة إلى البيت سبقتْني جدتي بأمتار، وفي لهفة اللحوق بها، فجأة، وقف صاحب الحقل منتصِبَ القامة، فصاح في وجهي، ففزعت فزعًا شديدًا، ولم أجد من بد سوى الهروب، الهروب نحو المجهول، ولحظة وجدت نفسي في ساقية الماء المجاورة للحقل منطرحًا، فاقدَ الوعي، وكنت أقول - حسب من عاينني -: إني أحس بالألم كوخز الإبر والشوك!

جِيءَ بي إلى البيت، فتلقيتُ العلاجات الأولية، من تضميد الجراح، وتدليكٍ بالماء الساخن، وترويض، ومع مرور الأيام لم يتحسن وضعي، فسعَوا إلى علاج بديل، ولم يكن لي من بد سوى الكي، وآخر الدواء الكي، برغم ما أعلمه فيه من الكراهة، وكنت أجد تحسنًا بين الفينة والأخرى، ولكنهم خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا؛ إذ توجَّهوا بي إلى الأضرحة والمشعوذين، كلما نهيتُهم أخرسوني، فما عساه يفعل الأنين ولا الطنين؟!

بقيتُ تحت كفالة جدي، ولم أنسَ أمي؛ بل كنتُ أزورها أحيانًا في عشها الجديد، كما كانتْ تزورني أحيانًا هي الأخرى، إلى أن التحقتُ بها في يوم من الأيام، وحالتي الصحية بين المد والجزر.

لم أجِدِ الموطن الذي يرتاح فيه المريضُ؛ بل كنتُ مدفوعًا للعمل في الرعي والسقي والجني، وفي أحد المواسم الفلاحية بينما أنا أعلى الشجرة أجني الزيتون، مرغمًا، سقطتُ، فكانت الحد الفاصل بين رأسي والجسد إلى الآن.

هكذا أنهى صاحبي قصتَه، وأبدأ أنا روعتَه، لم يتوقَّف صاحبي عن العلاج بالطب البديل، إلى أن رزقه الله تحسنًا من الألم، ومن مِنح الله له أنْ كان بعد الإعاقة شديدَ الملاحظة، قويَّ الذاكرة، حكيمًا، بدأ يتابع عن كثب خاله والعاملين في المنسج عند بيت أمه، حتى تعلَّم صنعتَهم، فكانت بعد ذلك السببَ الرئيس في كسبه الحلال، أصبح أجيرًا بحرفة النسيج عند الناس مقابل أجر متواضع، ليس كعامل؛ بل كمهندس للزرابي، يرسم الخطوط، ويمزج الألوان، ويبتكر الديكور والهندسات، ولك - أيها القارئ - أن تتصور كيف يفعل رأسٌ بلا جسد كلَّ هذا؟!

أقول: لم يُبقِ له القدرُ إلا يدًا بثلاثة أصابع، تقوى على الحركة، وبها صنع العجب العجاب، يُمسك بهم الموسي، ويعقد الخيوط، وهو متكئ على الجسد الميت، يسابق الزمن ويشغل معه ثلاثًا من العاملات، ويرهقهن بالسرعة، هكذا اشتغل الرأس، وتوفيت أمه، وتكفل بإخوته نفقةً وتربية، حيث كان مسموعَ الصوت، مهابَ الكلمة، ثاقبَ البصيرة.

عمل في الحرفة أكثر من ثلاثين سنة، حتى زوَّج ثلاثةً من إخوته من كسب يده، وعاش معهم حينًا من الدهر، حتى يسر الله وتزوَّج، واستقلوا عنه، فاستقل.

المرأة التي تستحق كلَّ التقدير والاحترام، هي المرأة التي تقف شامخةً بإنسانيتها ونبلها، لتتزوج بإنسانٍ حرَكتُه في لسانه؛ ولكنه رجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى، الرجولة التي فقَدَها أغلبُ الناس اليوم أمام الشهوات والشبهات، مضتْ أعوام من زواجه بها ولم ينجبا، ففكَّر أن يربِّيَ فتاةً تعوضه حنان الأبوة، وتُشعره بنعمة الأبناء.

ما يزال يبدع في حرفة النسيج ويبتكر، ذاع صيتُه في وطنه لما أسس جمعية لذوي الاحتياجات الخاصة تحت مسمى: "جمعية المعاقين"، وعهد برئاستها لشاب مثقف، فَقَدَ إحدى قوائمه في حادثة سير، وبعد أربع سنوات من العمل الجمعي، الساعي إلى فك العزلة عن المعاق المحروم، وإدماجه في المجتمع، زاد الرأسُ شهرةً، وتقلَّد هذه المرةَ منصبَ رئيس الجمعية، وبكل فخر واعتزاز، سعى إلى تعليم المعاقين هذه الحرفة؛ ليمتهنوها ويكسِبوا بها قوت يومهم.

ولما زاد اهتمام المجتمع بهم، زادوا في اسم الجمعية: "جمعية المعاقين الاجتماعية والحرفية".

نعم، كانت خطًى حثيثةً، ولكنها حكيمة، شارك هو وجمعيته في المعارض الوطنية، والمهرجانات الصيفية، فكان يحصل هو ومجموعته على المراتب الأولى، والمنح، والتشجيعات؛ بل من أكبرها أنْ قابَلَ مَلِكَ بلاده، وسلطان وطنه ثلاثَ مرات وحادَثَهُ، في حين لم يتيسر لجلِّ الأصحاء نفس المطمح.

نعم، هو رأس بلا جسد، ولكن في الحقيقة رأس لجسد هذه الفئة المحرومة، القضية التي أغفلتها أقلام الدُّعاة، وغفلت كيف يعاملُها المجتمع؛ لتنتشلها من الصمت المقبور، وتدمجها في المحيط، بدءًا من تمجيد كفاءاتهم الفكرية، ودورهم، وإسهاماتهم في بناء حياة متزنة؛ إسهامًا منهم في تحقيق مجتمع متعاطف، متعاون، ومنتج.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- شكر
عبد القادر - مصر 11-06-2009 01:33 PM

نشكر الكاتب أحمد باززعلى هذا الموضوع والطرح الجيد فهو موضوع ذو مغزى وهدف ونتمنى المزيد من إبداعاتكم

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة