• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

تلاويح الخبال ( قصة قصيرة )

أ. محمود توفيق حسين


تاريخ الإضافة: 31/8/2013 ميلادي - 24/10/1434 هجري

الزيارات: 5901

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

تلاويح الخبال

 

استيقظ من غفوَته التي لم تستمر لأكثر من نصف الساعة مشوشاً تماماً، تحت التأثير الفياض لحبة هلوسةٍ جرَّبها لأول مرة، وتحت تأثير إعياء السهر الطويل الذي استسلم في نهايته لهذه النومة السريعة. استيقظ وفي حلقه حشرجةٌ ودفء من لعابه السكري، وعيناه ثقيلتان ومستغربتان كعيني الرضيع في إرهاصات تبصُّرهما، عندما تكونان حائرتين مشتتين بين الضوء والظلالِ والوجوه المنحنية على القماط.

 

لا يكاد يذكر أين هو بل ولا من هو، وانشغل بما يراهُ فوقه وهو ممدد: كمثل فراشات بيضاء طاهرة، سكنت في أماكنها في سباحتها في كحل العتمة. وما أن مد أُصبعاً متردداً ليمسَّ إحداها، حتى بدأت تبتسم وتؤكد تفاصيلها، واتضحت له حقيقتها، كأزهار بديعة في شجر ياسمين. استغربَ أشجار الياسمين التي يتمدد تحت زهرها البشوش عائماً في نهرٍ هادئ من النسيم، حتى حاصره وهمٌ مباغت بأنه قد مات (شهيداً)، وهذا الياسمين شيءٌ طيب ورمزي يستقبله في قبره على سبيل التَّرحاب؛ فبدأ يتلفَّت ويفحص وضعه في كسلٍ وفتور، فأفاق من وهمهِ المباغت بعدما تبيَّن الحوضَ الطيني المستطيل الذي يرقد فيه في سياج من الرخام البارد بمدخل عمارةٍ راقية.

 

قام مهدودًا مخدرًا في خليط من روائح الزهر والسماد العضوي والعشب المبلل، وبقايا رائحة القنابلِ المسيلة للدموع التي ظل منها نفثاتٌ عالقة بالهواء البارد، هذا بالإضافة إلى رائحة مختمرة خفيفة لغائطه الحديث الدافئ الذي تعسَّر في إخراجه وقتًا بين شجرتَي ياسمين بالقرب من مرقده، حتى أخرج هذه الكمية التي تليق بأمعاء قط، لينام ويستيقظ ناسياً ما حدث.

 

تومض في وعيه أحاسيس وأحاديث، وصور خافتة ومبهمة، وهو يشعر أن كل ما حوله قد أحاط به من قبل، حتى خليط الروائح هذا قد شمه في زمن ما. اضطرب شعوره بالزمن، ولم يعد يستطيع التفرقة بين ما فات وما هو آت. إنه في الليلة الثورية الهاربة، وبعد أن اشتغلتْ حبة الهلوسة في أول تجربةٍ له معها، والتي لا تشبه أي شيء من الحبوب التي يتعاطاها، يشعر أنه مستدرج، متورط، في قصة كالساقية تدور به، بتداعي الذكريات التي ستلاحقه للأبد بومضات من توابعها، أو لعلها تدور بإلحاح الأحلام التي ترسل نذراً من نبوءاتها المستقبلية. قصة تلعب به بالتكرار اللانهائي، لا يعرف في دوارها الذي يكادُ يملأ فمه بالزبد كفم الثور، لا يعرف إن كان قد حلَم بما يحيط به الآن من قبل أن يقع، عدة مرات، وها هو أخيراً قد وقع، أم أنه يعيش في التكرار المستمر لما حدث، كشريط تسجيلٍ كلما انتهى بدأ يعمل ذاتيًّا من جديد.

 

بعد قليل، بدأ ينقشع عن (سيد الخديوي) بعضٌ من ضباب التشتت تحتَ أثر تلك النومة السريعة والثقيلة، التي لعبت به فيها أحلامٌ كئيبة مجتزأة ومختلطة، وأحلام أخرى مُسفَّة ومحرجة، استيقظ منها أحمرَ العينين يسيل لعابه، وقد علَّم العشب على وجنته التي تمتعت بقدر من الدفء بالتصاقها بالتربة حُرِم منه بقية جسده النحيف المشدود الذي يعطيه عمراً أقل قليلاً من سنواته الثماني عشرة.

 

تستيقظ فيه وهو يتمطَّى جالساً على الإفريز الرخامي لحوض الزرع حاسةُ السمع الحيوانية الخطرةُ لديه، على تفاصيل أسرةٍ تقطن بالطابق الأرضي نوافذها أمامه في مدخل العمارة الراقية، لا يفصل بينه وبينها إلا حائط. هذه السلسلة من التفاصيل التلقائية البسيطة، والتي يشعر أيضاً وكأنه سمعها من قبل، أوقدت حواسَّهُ الفاترة كما كانت تفعل فيه دائماً تلك الفرص المنتهبة للتلصص على حجرات المساكين المهلهلة في الصفيح والخيش، وخيام الإيواء التي تنفضها الريح؛ والتي لا يعرف عنها هذه الفرص وهو في هذه الحالة من أثر الحبة، إن كانت تجارب عزيزةً وقعت، أم أحلاماً باذخةَ التفاصيل تراوده وتلهب نومة العازب.

 

مدَّ يده وحك صدره من تحت الفانلة القطنية الحمراء المتسخة والسترة البنية المفتوحة التي بهِت لونها، والتي انتفخ في بطانتها الإسفنجية السميكة وياقتها الكبيرة، انتفاخاً كاذباً لا ينسجم مع نحافة وجهه الدهني المنحوت الذي التهب في حب الشباب ولا مع عنقه الطويل الناحل، كأنه طائر له رقبة صلعاء نحيفة وملتهبة، لا تنسجم مع هذا الجسد المنتفش في الريش؛ هذا الانتفاخ، وهذه النحافة، يعلنان معاً عن إجرامه الناشئ الأصم، الذي به عاهةٌ قديمة من المسكنة.

 

يقوم محتفظًا بما علق بملابسه من وسخ الطين وعوالق العشب والنمل الكبير، كما تقوم الدواب الغافلة من رقدتها في الحقول، يسلك أذنيه بإصبعيه، يقطع الخطوتين ويضع أذنه اليسرى على الحائط، يسيل خيطًا من لعابه وهو يستمع، لاختلاط الأصوات الأنثوية والذكورية على اختيار القناة الجديرة بمتابعة الأحداث الجارية قريباً من بيتهم من خلالها، هذا صوت مراهقة تأكل أحرف الكلمات، له رنَّة غير مبالية، لم يعجبها الأمر، تنسحب إلى غرفتها لتشاهد حلقة الليلة من المسلسل التركي عبر الكمبيوتر، وهذا شاب ضيق الصدر، مختصر التعابير، يفوِّضهم في الاختيار على أن يرحموه من هذه المذيعة البومة، والمرأة المجلجلة الضحكة كانت تكلم (سوسن) في التليفون، عن ساحة الحرب المشتعلة في المنطقة، وهذه الأيام السوداء؛ وفيما بدأت المرأة تذهب بعيداً ويذهب معها حسُّها، طرب سيد لصوت شابة حانية النبرة، تخبرهم أنها ستخرج بعض الهامبورجر من الثلاجة، فهل هناك من يرغب في أن تعدَّ له معها، فقطع رجلان كأنهما الأب والابن الشاب اختلافهما حول حيادية القناة وحول ما لم يفهم (سيد الخديوي) منه شيئاً من حديث السياسة، ورحبا بإعداد الهامبورجر، ثم لفَّ الصمت الشقة كلها، صمت شعر فيه سيد بنوع من الاعتداء والزراية مثلما شعر عندما تعقَّد حديث الرجلين وعجزَ عن فهمه.

 

أثارته رائحة الهامبورجر على النار التي بدأت تتصاعد، وأجَّجت غريزة التلصص ونشَّطت خياله المقتحِم، فتخيل الشابة بجلباب بيتيٍّ شتوي ضيق يعلوه زغب القطن، مليء بأزهار قرنفلية صغيرة، جلباب علقت به تلك الرائحة الدافئة للملابس الشتوية المخزَّنة، يضم هذا الجلباب كتفيها الأنثويين الضامرين، بطريقة تنطق بضعفها واحتياجها لاحتضان رجولي. فتح مطواته ووضعها في فمه، وهو لازال يحيا في فعالية حبة الهلوسة، التي أعطته نفسَ الجسارة التي ينتهك بها ستر ضحاياه المساكين النائمين في الزوايا ليلاً خلف أحبال الغسيل المنشور، أو من أذعنوا للجوع والقيلولة داخل خيام الإيواء المهترئة التي تلعب بها الريح بعد أن انهارت بيوتهم، أو من شدُّوا على ثيابهم وهم يمددون أجسامهم المرهقة على الكراسي الخلفية المنزوعة البطانة في العربات الخردة المركونة على هوامش الأحياء التعيسة.

 

ومشى إلى الناحية التي تنبعث منها رائحة شواء الهامبورجر وقلي البطاطس، بخطوات جانبية وظهرُه للحائط، بوجهٍ عليه تلاويح الخبال، حتى توقَّف تحت النافذة. يشب على طرفي حذائه، يلصق عينيه الجائعتين بأخصاص النافذة، وقد أوشك أن يحرقها بأنفاسه الساخنة، يضع نصل مطواته بين الدرفتين، يحرِّكها بعناية وخبرة، بدأت النافذة تفقد إرادتها وتستجيب له، تهزها ريح جهنمية من قعر نشوته المضطرمة، ستنفتح، ستنفتح، يرتد مرعوباً فجأة وقد رأى أمه تملأ الدنيا أمامه من فناء مفتوح على سماء النهار ونداءات ملعب، تضع طرحتها على فمها وتلتقط حجراً وتهدد: (انزل يا كلب)؛ فانخسأ مرةً واحدة وهدأت أنفاسُه والتأم برعم شوقه، وتراخت أعصابه المشدودة وهو ينزل على كعبيه، وأعطى ظهره للنافذة المغلقة وانزلق ببطء حتى جلس منهزماً.

 

إنها الصورة الأقدم، خرجَت من قعر بئر ذاكرته، أقدم ما يذكر من طفولته، باغتته فقطعت عليه الطريق لنزقه وشهوته المجنونة، لا زالت نابضة بالحياة تلك الصورة الأولى وإن تشققت قليلاً وعلاها الاصفرار، تتوسطها أمه المتوفاة، على وجهها تلك الصرامة المخيفة للمدافعين عن أنفسهم، للمرابطين على حرماتهم. بها قوة بائسة، غير تلك القوة الجرانيتية التي تكسو ملامح المرأة في تمثال نهضة مصر.

 

كان وقتها طفلًا صغيرًا يجلس في فناء البيت يرتدي جلباباً بنصف كم، مربوط على ساعده رباط به لحم ختانه، سيفك عن تلك اللحمة العفنة الرباط وتلقَى بعد مرور أسبوع من الختان. وعليه آثار مرض القوباء الجلدي الذي ألهب ذقنه، وعلى جبهته كفٌّ من نحاس يتدلى من خصلة من شعره الذي كان بنيُّا، لصقته أمه في شعره بلبانة ممضوغة لتمنع عنه العين. وكانت الكلبة المَهقاء خلفهما ممددة تُرضع جراءها النهمة على أثدائها وهي تتابع المشهد بلامبالاة، عندما عايش مصدوماً ولأول مرة تكلفة من تكاليف العيش، وأمه تهدد بالحجر في يدها المتوترة من شدة الحنق، بتقاسيم وجهها المغتاظة، ونظرات حقدها التي تقدح شرراً، تهدد هذا الذي اقتحم ستر البيت من ناحية الملعب، يتابع أثر الكرة التي سقطت في الحوش، وقد طلَّ رأسه من فوق حافة السور الذي تسلقه بصعوبة، وقد تشبث به بين قطع الزجاج المكسَّر على الحافة، محمولاً على الأذرع، وعينه اللِّصة تضرب يميناً ويساراً بحثاً عن شيء يروي ظمأ مراهق غارق في أوهام بلوغه الإباحية، وعلى وجهه ابتسامة بلهاء لزجة، كشفت لِثَّتَه العليا كلها. أما أخته الجميلة (ودَّة) فكان خرَّاط البنات قد خرطها حديثاً، جالسة بالقرب من الباب الكبير تلعب (الجيلان) بالحصى، وما أن رفعت أمها الحجر وسبَّت الفتى، حتى اختفى رأسه من عند السور بسرعة اختفاء أرنب، ارتمى على الأرض خارجاً وتبادل الضحكات مع أصحابه، لترمي الأم الكرة إلى الخارج وهي تتفل، أما الحصى التي كانت تلتقطه ودَّة في لعبة الجيلان، فقد سقط من كفها التي تسرَّبت إليها رقة الأنوثة، وجرت إلى الحجرة هاربةً كغزالة خائفة، تستشعر ثقل التغيرات العظيمة التي طرأت عليها، إنها فهمت ما حدث بعين طريدة لا غير، فهمت أن هذه الإطلالة المقتحمة الوقحة كانت عليها هي وحدها.

 

بدأ (سيد الخديوي) من يومها يتهجى هذا العار من بيتهم الغريب ذي الحوائط المضروبة بالطين والتبن، الذي لا يشبه البيوت الأخرى في الشارع المقامة بالطوب الأحمر، بيتهم ذي الحوش الواسع غير المسقوف، المنكشف للمتسلقين من ناحية الملعب، وللجيران في النوافذ والشرفات من الناحية الأخرى التي يطل عليها، الذين لا يمكن للأم أن تهددهم هم أيضاً بحجر حتى لو كانوا يتابعون من أماكنهم كلَّ شيءٍ في حياتهم بشغف وبأعينٍ غير هاربة؛ إنهم هم أيضاً ينظرون لانكشاف هذه الأسرة تحت أنظارهم؛ لكن لكي ينعموا فيه برؤية سترهم.

 

لا سقف هنا فوق هذا البيت إلاَّ الصفيحُ الذي على حجرة نوم الوالدين وحدها، ذات الدرجين الحجريين الكبيرين، كأنهما منهوبان من معبد أثري، حفرت الكلبة المَهقاء تحتهما بيتاً لأجيالٍ متتابعة من الجراء؛ وتلك الكلبة الأمُّ البيضاء التي لو ثبتَت محلَّها لبدت كأنها تمثال من الجِبس، تشعر تجاهه بنوع من أمومة؛ فبعد كل مرة يقضي فيها حاجته في القصرية الصاج المطلية بالأبيض، تضع أمه وجهه في حجرها وهو لازال مكشوفًا من خلفه للضوء والهواء والذباب، لتقوم الكلبة (سعيدة) بالمهمة التي دربتها الأم على القيام بها من لحس وتنظيف. وكانت الأيام طيبة يسيرة، يلعب كل يوم بهذه الكلاب المسالمة الكسولة نهاراً وهي تمشي وديعة في رموشها المسدلة البيضاء، وألسنتها أمامها، مستجيبة لأوامره، متفهمة طفولته؛ ثم تتحوَّل في منتصف الليل، لتلعب هي بأعصابه، حينما لا يظهر في ظلام الحوش الدامس إلاَّ الالتماعاتُ المخيفة لأعينها القرنفلية. كان هذا هو مبلغ الخوف ومعنى الخوف عنده، إلى أن راحت طيبة الأيام وعرف منذ أن أطلَّ الفتى أمامه من حافة السور معنى الخوف من البشر. وها هو في الليلة الثورية الهاربة، خائف ومخيف، شريف ومشبوه، يسعى جَيئةً وذهاباً، بين فراشاتٍ ليست أكثر من زهر الياسمين، وأعينٍ كأعين الجن ما هي إلاَّ أعيُن كلابهم المهقاء الوديعة.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 


تعليقات الزوار
1- Good work
Malak Mohamed - مصر 03-09-2013 01:55 PM

هائل يا أستاذ محمود .. أحب جداً أسلوبك في السرد
أشكرك لأنك ترتقي بأي شخص يمر كي يقرأ لك .

1 

أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة