• الصفحة الرئيسيةخريطة الموقعRSS
  • الصفحة الرئيسية
  • سجل الزوار
  • وثيقة الموقع
  • اجعلنا صفحتك الرئيسة
  • اتصل بنا
English Alukah
شبكة الألوكة شبكة إسلامية وفكرية وثقافية شاملة تحت إشراف الدكتور خالد الجريسي والدكتور سعد الحميد
 
صفحة الكاتب  
شبكة الألوكة / موقع حضارة الكلمة / أدبنا / بوابة النثر / كُتاب الألوكة


علامة باركود

رهين الضنى والسهاد (قصة)

نبيل حامد خضر


تاريخ الإضافة: 26/4/2009 ميلادي - 1/5/1430 هجري

الزيارات: 13757

 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
النص الكامل  تكبير الخط الحجم الأصلي تصغير الخط
شارك وانشر

رهين الضنى والسُّهاد
(مادة مرشحة للفوز في مسابقة كاتب الألوكة)

 

في الثُّلث الأخير من عامه، دقَّ المرض إسفينَه في جسده الذي تعاون عليْه كاهِلان: عبء المعيشة الثقيلة، الذي ترك بصماتِه على أسفل قدميْه بهيئة "تقرنات" جلدية سميكة، ما انفكَّ يقلِّمُها كلَّما استطالتْ؛ لأنَّها تحيد به عن المشْيِ السَّوي، ثمَّ شدَّة حنانِه وشعوره المرْهَف بإفْراط تِجاه نفسه وأهله وأولاده، ممَّا ترك لواعجه على بعض هواجسِه النفسيَّة، على صورة قلق زائدٍ، أو حرص شديد، أو قوَّة عنيدة، أو انفعال خارج الطَّور.

فكان ذلك المرض ثالثةَ الأثافي، عندما أعلن عن وجودِه في النُّخام المصحوب بدمٍ، أو في دمٍ من غير نخام.

وكانت الرِّحلة الأولى مع الطِّبِّ، فجاءت جميع الفحوصات مشفوعةً من الأطبَّاء بتأكيدات أن ليس هناك ما يشغل البال، وبدا أنَّ تلك الأقوال مطابقة لواقع الحال، بعد مدَّة من تناوُل العلاج اللاَّزم غاب عن الأنْظار ذلك الدَّم الذي كنا نتفحَّصه معه في كل نخامة، فلا نجده، فيهدأ رَوْعُه وروعنا.
 

وهكذا استمرَّت حالُه طبيعيَّة، استمرَّ قائمًا بكلِّ ما كان يقوم به قبل مرضِه، مستأنِفًا عملَه ونشاطَه في السوق والبيت، باديًا عليه الارتِياح من هواجس المرض، وقد صام رمضان من السَّنة المهموزة.

ولكن بعد عيد الفِطْر جدَّد الدَّم ظهورَه، وهذه المرَّة ليس وحْده فقط؛ بل مع آلام وأوصاب، تارةً في الصَّدر، وتارة في الظَّهر، أو في عظم فخِذه الأيمن، أو في كلِّ ذلك معًا، فعادت الراحة نَصَبًا، وعاد الشفاء سقمًا، وعاد الرقاد سهادًا، فما كانت تلك الرَّاحة إلا هدنة من المرَض، أراد أن يحشُد قواه؛ لينقضَّ مرَّة أخرى وأخيرة على ذلك الجسد، بعد أن كان قد غلب في الأولى.

فكانت الرحلة الثانية مع الطِّبِّ، فاستقبل جسده من الأدْوية والحقن أكثرَ مما استقبل من طعامٍ أو شراب، ولكن من غير استِجابة، فنصحنا بعضُهم بالذَّهاب للفحْصِ بِجهازٍ يُسمَّى المفراس الحلزوني، فأدَّينا الواجب، وقد قُدِّر أن يكون ذلك يومَ الأربعاء، الثالثَ عشرَ من آخِر أشهر الشتاء.

وذهبتُ للاستِعْلام عن النَّتيجة، فاستَعْلمتُها ثم أريتُها لطبيبِه، فوجم، وكان قد أصبح من معارفه، فتكهَّنتُ بِسرِّ وجومه، إنَّه المرض الخبيث، أجل، المرض الخبيث في الجسد الطيب، كان قد بدأ يدبُّ في جسد أبي، فالتَهَم بعض أجزائِه، وأصاب منه مكمن عزِّه وشموخه، عموده الفقري، فبه استطاع أن يُكافح من أجل أهله وأولاده، موفِّرًا لهم بأقصى طاقتِه ما تتطلَّبه الحياة من مستلْزَمات، إن كانت رغيدة أم زهيدة، فإنَّه ما قصَّر ساعةً من أجل الطَّلب، وقد كان لا يريدُ أن يكون لأحدٍ من فضل أو منَّة عليه، ولو حتَّى في شربة ماء يُسقاها في بيته، فنجده لا يكلف أحدًا من نساءِ أهله؛ بل يقوم هو بذلك، إنَّه طود في عزَّة نفسه، وشهامة روحه، وسخاء يده، خطر هذا بذهني وأنا أستمع إلى الطَّبيب مؤكِّدًا كهانتي، فهيَّج منِّي كامنًا، وحرَّك فيَّ ساكنًا، لولا أني استعذتُ واسترجعت.

وبدأ صراعه عوانًا مع المرض، فكان يغالبه ويعانده، مرَّة بالكتمان على الألم، وأخرى بالدَّوسِ على القدم، فإذا انقطعتْ به سبُل المغالبة والمقاومة، استعاض عنْها بالصُّراخ ملء الفَم، "أصبح ألم رجلي رفيق دربي"، و"الموت رفيقي".

وقد كان إذا ما جنَّ الليل عليه وأسدل لتوَّيه جفنيه، جُنَّت آلامه وأنفاسه التي بين جنبيه، فلا يكاد ألم العظام يخفِّف من وطأته حتَّى تتناوشه أنفاسُه متسارعةً متلاحِقة، كأنَّها تريد أن تصِل به إلى حتفِه، فيصحو من سِنَتِه أسرع منها، وهكذا تتعاقب عليه تترى هذه المروِّعات، آلامه البرحى وأنفاسه العجلى.

وتنقضي اللَّيلتان والثلاث، وهو على هذه الحال، يشخصُ بناظريْه إلى عقارب ساعةٍ جداريَّة معلَّقة أمام سريره، يحصي ساعات اللَّيلة الواحدة، يعدُّها سنين، فيجْمَعنا من أجْلِ ذلك حوله لنُساهِره إلى مطلع الفجْر.

وتمضي الأيَّام القليلة بطيئةً وثقيلة، ونحن نرى بأعيُنِنا كيف أخذت قُواه تخور، وكيف بدأ جسمه يذوي، فبعد أن كان يَمشي وحْده أصبح لا يقدر على ذلك إلا عند الاتِّكاء عليْنا، ولا يستطيع الصَّلاة إلاَّ راقدًا، فقد خانَه ساعداهُ، فلم يعودَا يَقْويان على النُّهوض بِجِسْمه النَّحيل من رقدته، ولطالما ساعدا الآخرين.

"إنَّه الذُّل والهوان"  "إنَّه الذل"، وينفُث من صدره زفَرات، وتدمع من عينيه قطرات، كأنَّها قد قُطِعَت من لهيب النَّار.

ويكتسِح المرضُ الحصين الجسدَ الكسير، فيتبدَّل الوجْه غير الوجْه، واليدان غير اليديْن، والرِّجْلان غير الرِّجْلين، وينقلب الصُّراخ إلى أنين، والأنين إلى همْهمة، وتحل الإيماءة بعد الإشارة محلَّ النُّطق بالعبارة، ويغدو الطَّود ركامًا، إنَّه الخُفات والسُّكات، فلا حركةَ له إلا في عين ترمش، ويد ترعش، وفم ينفتِح ببطء تملؤه حبَّات من الماء.

فتتملْمل الروح، ويغرغر الحُلْقوم، وما هي الا هنيْهات حتى ينطفئ سرُّ الحياة.

وقد قُدِّر لذلك أن يكون في يوم الأربعاء، الثَّالثَ عشرَ من أوَّل أشهر الرَّبيع.

وقفتُ ناظرًا إلى والدي متهيِّبًا جلال الموقف، ولو استطعت أن أقذِف بدل الدَّمع جمرًا لفعلت؛ لما لاقاه وعاناه من مرضِه، فقد أبكاه وأدماه، ثم أشحْتُ بوجهي عنْه إلى أنواع الزيوت والعقاقير الَّتي غطَّت سطح منضدة بجوار سريرِه، كان عاقدًا عليْها أمل الحياة، وما يدري أنَّه كان مخدوعًا بها؛ فليس لأي منها صفة الدَّواء الشَّافي للدَّاء العاصي في جسده.





 حفظ بصيغة PDFنسخة ملائمة للطباعة أرسل إلى صديق تعليقات الزوارأضف تعليقكمتابعة التعليقات
شارك وانشر


 



أضف تعليقك:
الاسم  
البريد الإلكتروني (لن يتم عرضه للزوار)
الدولة
عنوان التعليق
نص التعليق

رجاء، اكتب كلمة : تعليق في المربع التالي

شارك معنا
في نشر مشاركتك
في نشر الألوكة
سجل بريدك
  • السيرة الذاتية
  • اللغة .. والقلم
  • أدبنا
  • من روائع الماضي
  • روافد
  • قائمة المواقع الشخصية
حقوق النشر محفوظة © 1446هـ / 2025م لموقع الألوكة